دفاعا عن اللينينية

يشمل الدفاع المعاصر عن اللينينية مهمتين؛ الأولى هي الدفاع عن التاريخ السياسي للينين، والثانية هي شرح التطبيق والعلاقة المستمرة بين أفكار لينين السياسية الرئيسية اليوم، يركز هذا المقال بشكل رئيسي على المهمة الثانية ولكنني سأبدأ ببعض التعليقات عن الأولى.
1- لينين في التاريخ:
إن لينين شخص ذو أهمية، لا أعني بذلك أنه ذو أهمية في التاريخ الروسي أو في تاريخ القرن العشرين، فهذا أمر واضح، ولكنني أعني أنه لا زال يعني الكثير للطبقة البرجوازية وللممارسة السياسية الاشتراكية حتى اليوم. كان التحدي الأكثر جدية للنظام العالمي الرأسمالي في تاريخه بأكمله هو ذلك الذي وضعته أمامه الثورة الروسية في عام 1917 والموجة الثورية العالمية التي لحقتها، حيث كان بقاء النظام متعلقًا حرفيًا بخيطٍ لبضعة سنوات، وإذا كان لنا أن نذكر لحظة واحدة توقف فيها مصير البشرية وتحول فيها التاريخ فستكون فشل الثورة الألمانية في عام 1923. بالتأكيد ليس هناك يقينًا في مثل تلك الأمور، ولكن إذا كانت الثورة الألمانية قد نجحت فكان من المرجح ألا يكون هناك ستالين أو هتلر، وربما كنا نعيش الآن في مجتمع اشتراكي.
يرمز لينين للثورة الروسية وتلك اللحظة التاريخية، بل أن سياسات لينين وتنظيمه كانا ما أدى إلى انتصار الثورة الروسية.([1])
لذا كان تشويه سمعة لينين دائمًا أمرًا هامًا للغاية بالنسبة للطبقة البرجوازية والمدافعين عنها، وقد تضمن ذلك اغتيالاً لشخصيته([2]) ولكن كانت التهمة الرئيسية هي أن اللينينية أدت حتمًا إلى الستالينية وأن العامل الرئيسي في ذلك هو الحزب اللينيني، وقد حصلت هذه الحُجة التي صاغتها على مدى أعوام العديد من الجهات التي تتنوع بين مثقفي المناشفة والأمريكان والبريطانيين على إجماع ملحوظ في الوسط السياسي بدءًا من محافظي الجناح اليميني مرورًا بالليبراليين والاشتراكيين الديمقراطيين وحتى الأناركيين، واتفق معهم حتى الشيوعيون الستالينيون على طريقتهم الخاصة، وكان التروتسكيون هم المختلفين الوحيدين، ولكن كثيرًا ما تكون الأغلبيات – حتى الكبيرة منها – على خطأ، وهناك أدلة واقعية ونظرية قوية ضد ما أدعوه أطروحة “لينين أو ستالين”.
نبدأ بالحقائق أولًا:
1. كانت هناك فجوة واسعة بين لينين وستالين من حيث أفكارهم السياسية وسياساتهم، كان لينين أمميًا متشددًا وكان يشك في احتمالية تطبيق الاشتراكية في دولةٍ واحدة، بينما تبنى ستالين الاشتراكية في بلدٍ واحد وكان يدعم القومية الروسية. كان لينين معارضًا لحصول البيروقراطيين وقادة الأحزاب على امتيازات، بينما شجّع ستالين عدم المساواة بشكل منظم، كان لينين يبغض العنصرية ومعاداة السامية بينما استغل ستالين تلك العنصرية بشكل ماكر وواضح. دافع لينين بحماس عن حقوق القوميات المضطهدة في تقرير المصير بينما سحق ستالين تلك الحقوق، وكان لينين مؤيدًا تمامًا لتحرير المرأة بينما كرّس ستالين لاستعادة دور الأسرة التقليدية. كان لينين معارضًا لإجبار الفلاحين على تنظيم مركزية الزراعة بينما فرضها ستالين على حساب ملايين الأرواح، ويمكن لهذه القائمة أن تمتلئ إلى ما لا نهاية.
2. لم يكن الأفراد في قيادة الحزب البلشفي في عهد لينين أنفسهم تحت قيادة ستالين للحزب، ففي أكتوبر من عام 1917 قبل الانتفاضة مباشرةً انتخبت اللجنة المركزية للحزب مكتبًا سياسيًا مكوّنًا من سبعة أفراد هم؛ بوبنوف وزينوفييف وكامينيف ولينين وسوكولنيكوف وستالين وتروتسكي، ولم ينجُ منهم سوى ستالين الذي قتل البقية فيما عدا لينين. وكان كل من بوخارين وريكوف وتوسكي وسميلجا وبريوبرازنسكي وشليابنيكوف وبياتاكوف وراديك وكريستينسكي قياديين في اللجنة المركزية في عهد لينين ولعبوا أدوارًا هامة في الحزب والثورة والحرب الأهلية، وقُتلوا جميعًا على يد ستالين في حملة التطهير، كما حدث للعديد من الآلاف من الشيوعيين والبلاشفة القدماء البارزين، فحين قال تروتسكي أن الستالينينة انفصلت عن البلشفية بنهر من الدماء، كان ذلك صحيحًا حرفيًا.
3. انقلب لينين على ستالين في نهاية حياته في أواخر عام 1922، وقطع العلاقات معه وكان ينظر في عزله من منصبه كأمين عام الحزب، كجزء من صراع شامل مع البيروقراطية المتزايدة داخل الحزب والدولة.
4. عمل الحزب البلشفي بشكل ديمقراطي للغاية بدءًا من تأسيسه وحتى بعد الثورة، حتى عام 1921، ولم يكن الحزب أبدًا ديكتاتورية تابعة للينين الذي كان غالبًا ما يخسر التصويت، فقد خسر على سبيل المثال التصويت على المشاركة في انتخابات دوما عام 1907، وعلى الوحدة مع المناشفة عام 1910، وعلى مقاطعة المؤتمر الديمقراطي في سبتمبر 1917، وعلى تأجيل انتخابات الجمعية التأسيسية في ديسمبر عام 1917. وفي الكثير من المناسبات حين استطاع لينين القيام بالأمور على طريقته كان ذلك يحدث فقط بعد نقاش قوي ينجح من خلاله في كسب تأييد الأغلبية لوجهة نظره، مثال على ذلك عند إسقاط الحكومة المؤقتة وتوجيه الأمور نحو سلطة العمال في أبريل 1917، وفي إشعال الانتفاضة في أكتوبر 1917، وفي توقيع معاهدة برست ليتوفسك للسلام في يناير 1918، وفي كل هذه القضايا لم يكن انتصار لينين نابعًا من سلطةٍ شخصية أو قوة حجته ولكن في الحقيقة يبدو أن تلك الأمور كانت توافق المنطق الموضوعي للأحداث.
ثانيًا: النظرية:
لقد تم الرد عدة مرات على الأسطورة النظرية التي تقول بأن اللينينية كانت نخبوية وسلطوية منذ البداية كما عرض لها في كتابه “ما العمل؟”([3]) بأن الاشتراكية يجب أن تصل للطبقة العاملة من خارجها. كانت الصيغة التي كتبها كارل كاوتسكي متحيزة بالطبع ولذا كانت خاطئة كما يقول تروتسكي([4])، ولكن لينين قام بمراجعة كتابه عام 1905 ولم يكن إطلاقًا نموذجًا لفكره، وبالطبع لم يعِد ذلك في كتابه الآخر وحذر بشكل خاص من أن كتاب “ما العمل؟” كان هجومًا على الاقتصادوية – وهي نزعة في روسيا كانت تقول بأنه على الاشتراكيين أن يحصروا أنفسهم في دعم مطالب العمال الاقتصادية. وعلاوة على ذلك قام لارس ليه في كتابه “إعادة اكتشاف لينين” بتفنيد فكرة موقف لينين السلبي من الطبقة العاملة بشكل شامل، ويظهر لارس ليه بالكثير من الأدلة أن لينين كان على العكس هو الأكثر تفاؤلاً باستمرار من بين كل الماركسيين الروس بشأن القدرات السياسية وإمكانيات الطبقة العاملة الروسية.
كما يجب الإشارة إلى أن افتراض أن نظامًا اشتراكيًا بأكمله كنظام ستالين بفترته وأبعاده في روسيا (ولنتذكر أنه تم تأسيس أنظمة مشابهة في أوروبا الشرقية والصين وكوريا الشمالية وغيرها) قد يقوم على نظرية تم تطويرها قبل ثلاثين عامًا أو ينجم عنها هو أمر في الحقيقة مثالي للغاية، بالإضافة إلى كونه غير صحيح تاريخيًا. فهو لا يتمتع بأي قدر من الصحة تمامًا كفكرة أن الرأسمالية تقوم على تعاليم جون كالفن أو آدم سميث أو تنجم عنها، أو ككوننا نستطيع تفسير طبيعة المجتمع النازي استنادًا إلى كتاب “كفاحي” لهتلر.
والمطلوب هو تحليل مادي تاريخي ينطلق من تطور القوى وعلاقات الإنتاج في روسيا وعلى مستوى العالم، ثم يقوم بفحص القوى الطبقية في العمل في روسيا بعد الثورة والصراع بينهم، يظهر مثل هذا التحليل أنه في عام 1917 كان الأساس المادي للاشتراكية موجودًا على مستوى عالمي وخاصة في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية؛ من حيث مستوى النمو الاقتصادي وقوة الطبقة العاملة، ولكنه لم يكن موجودًا في روسيا، وكانت هذه أرضية مشتركة بين كل الماركسيين الروس بما فيهم كل من لينين وتروتسكي، حيث يقول تروتسكي أنهم في الحقيقة سيكون محكوم عليهم بالفشل في حال عدم قيام ثورة ألمانية. ([5])
وعلاوة على ذلك فإنه إذا كانت المتطلبات المادية الأساسية للاشتراكية غير موجودة في روسيا عام 1917، فإن الأمر قد أصبح أكثر سوءًا نتيجة للحرب الأهلية التي فُرضت على روسيا من قبل تحالف الإمبريالية الغربية وجنرالات الحرس الأبيض، نتج عن ذلك الانهيار التام للاقتصاد والتدمير الفعلي للطبقة العاملة الروسية الصغيرة بالأساس. وفي تلك الظروف الرهيبة تمكن التحالف بين العمال والفلاحين بقيادة البلاشفة من هزيمة الثورة المضادة التابعة للحركة البيضاء، ولكن فقدت أثناء ذلك الطبقة العاملة المرهقة القدرة على السيطرة بشكل ديمقراطي على أجهزة الدولة التي انتقلت بشكل متزايد إلى أيادي مجموعة من بقايا المسئولين القدامى والبيروقراطيين البلاشفة الجدد، ومن ثم نشأت طبقة حاكمة جديدة فصلت نفسها تدريجيًا عن الطبقة العاملة في العشرينيات واستولت على السلطة بشكل كامل تحت قيادة ستالين في عامي 1927 – 1928، وقاموا بإطلاق خطة خمسية لنهضة روسيا تقوم على التحول الإجباري إلى مجتمعٍ صناعي وتراكم رأس المال في منافسة مع الغرب الرأسمالي. وهذا هو خلاصة ما حدث، وبدون انتشار الثورة على صعيد أممي – وهو ما كان احتمالًا حقيقيًا وكان قد أوشك على النجاح خصوصًا في ألمانيا – لكان من غير المحتمل أن يكون هناك ناتجًا بديلًا سوى هزيمة روسيا على يد التدخل الأجنبي.
بالطبع على هذا الأساس فإن كل من أفعال الحزب البلشفي وغايات وأفكار لينين كامن عوامل لعبت دورًا في العملية بأكملها، وبما أنهم ليسوا نقطة انطلاق لنا في هذا المقال، فهم بحاجة إلى تقييم. كان التوجه الاستراتيجي للينين هو اتخاذ الإجراءات اللازمة لنجاح الثورة حتى تقوم الثورة الأممية لتساعدهم، بينما يقومون في ذات الوقت بكل شيء ممكن لتيسير قيام تلك الثورة عن طريق الأممية الشيوعية وهكذا. اتبع لينين هذه الاستراتيجية حتى اضطره مرضه الأخير إلى الابتعاد عن السياسة في عام 1923، ولكن قام لينين أثناء عمله والبلاشفة بلا شك بارتكاب العديد من الأخطاء، كان بعضها ذا جانب سلطوي وبعضها ذا جانب مغامر، مثل محاولة التظاهر في وارسو عام 1920، وربما تأجيل تطبيق السياسة الاقتصادية الجديدة حتى عام 1921، ربما كان إخماد انتفاضة كرونشتادت خطئًا، على الرغم من أنني بشكل شخصي أعتقد أن ذلك كان ضروريًا، في تلك الظروف الصعبة للغاية كان لابد من ارتكاب الأخطاء (والتجاوزات وحتى الجرائم) ولكن كانت الاستراتيجية العامة صائبة بالتأكيد. ([6])
ما البدائل؟ كان هناك خيارين شائعين على نطاق واسع:
أ) تأسيس برلمان ديمقراطي ليبرالي.
ب) انتقال فوري لديمقراطية العمال المثالية أو حتى كميونة أناركية.
أعتقد أن أيًا من هذه الخيارات لم يكن ممكنًا في ظل الظروف السائدة في روسيا أثناء أو بعد الحرب الأهلية، فكان محاولة أي منها سيؤدي مباشرةً إلى انتصار الحرس الأبيض ووقوع مذابح جماعية للعمال والثوار وتأسيس نظام فاشي وحشي. يقول فيكتور سيرج؛ الأناركي السابق والاشتراكي التحرري، في تفسيره لتأييده – كرهًا – للبلاشفة في وقت اندلاع انتفاضة كرونشتادت: “إذا سقطت ديكتاتورية البلاشفة كنا سنسقط، وكانت النتيجة لتكون الفوضى وانقلابات الفلاحين ومذابح للشيوعيين وعودة المهاجرين وقيام ديكتاتورية أخرى مناهضة للبروليتاريا بالطبع” ([7]).
وأخيرًا يجب التأكيد على أن البديل الذي اتبعه ستالين من 1923 – 1924 فصاعدًا كان استراتيجية مختلفة نوعيًا، في حين أنها قامت بالتأكيد على العديد من الممارسات السلطوية التي وقعت في عهد لينين. بينما كانت استراتيجية لينين محاولة للصمود حتى قيام الثورة الأممية ولمواجهة البيروقراطية المتنامية في الوقت ذاته([8])، كانت استراتيجية ستالين محاولة لترسيخ الأجهزة البيروقراطية، ليستند بنفسه عليها، وليتخلى بشكل حاسم عن السعي إلى ثورة أممية. وبدون ثورة أممية اضطرت روسيا للاعتماد على مواردها الغير كافية، وهكذا كان لا يمكنها البقاء سوى عن طريق النمو الصناعي الإجباري القائم على استغلال عمالها وفلاحيها، وأدى هذا حتميًا إلى نشأة البيروقراطية وعلى رأسها ستالين باعتبارها طبقة استغلالية جديدة، وهكذا كانت سياسة ستالين أبعد ما تكون عن كونها استمرارًا للينينية، حيث كانت نقيضها.
2- اللينينية اليوم:
من الواضح أنه من الممكن احترام لينين وتبجيله باعتباره رمزًا تاريخيًا بينما نتفق على أنه نتيجة لتغير الظروف فإن اللينينية كمذهبٍ سياسي أو كاستراتيجية لم تعد ملائمة اليوم، كان هذا هو الموقف الشيوعي الأممي السائد من لينين بدءًا من الخمسينيات فصاعدًا حين تبنت الأحزاب الشيوعية الأوروبية الطريق البرلماني للاشتراكية. يقدم جورج لوكاش؛ وهو أحد مثقفي تلك الحركة البارزين، مثالًا على هذا الموقف، حيث أصدر جورج عام 1924 كتابًا صغيرًا بعنوان “لينين: دراسة في وحدة فكره”، والذي كان ملخصًا ممتازًا ودفاعًا عن جوهر اللينينية، ولكن حين تم إعادة نشر الكتاب في عام 1967 كتب حاشية نصها “تتطلب نهضة الماركسية معالجة تاريخية للعشرينيات كفترة سابقة من حركة الطبقة العاملة الثورية قد انتهت تمامًا”([9])، وحصر نفسه في مدح شخصية لينين دون الإشارة إلى أيٍ من مواقفه السياسية المحددة. ليس هذا موقفي، فأنا أميل إلى القول بأن جوهر سياسات لينين ليست متصلة بواقعنا ولكنها لا تزال أساسًا ضروريًا للنظرية الاشتراكية الثورية المعاصرة وتطبيقها.
سوف أصيغ تلك الحجة بالتركيز على ثلاثة جوانب من فكر لينين، وهي في رأيي التي تؤسس للسمات المميزة للينينية؛ وهي نظرياته عن الإمبريالية والحرب، وعن الدولة، ونظريته عن الحزب وتطبيقها. وسآخذ ما كان يعتبره لينين بلا شك أمرًا جوهريًا باعتباره مفروغًا منه، وأعني الدور الثوري للطبقة العاملة، ولكنني سأعتبر ذلك السمة المميزة للماركسية بأكملها. ([10])
الإمبريالية والحرب:
عبّر لينين بشكل كامل عن نظريته عن الإمبريالية في كتابه الشهير “الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية”، الذي كُتب في عام 1916 بغرض شرح الجذور الإمبريالية للحرب العالمية الأولى، ولكنه كان كذلك جزءًا من مسعى جماعي للماركسيين في ذلك الوقت لتحليل تطور الرأسمالية في بداية القرن العشرين؛ كما تضمنت الإسهامات الهامة الأخرى كتاب “رأس المال الاقتصادي” الذي ألفه رودولف هيلفريدنج عام 1910، وكتاب روزا لوكسمبرج “تراكم رأس المال” الذي صدر عام 1913، وكتاب “الإمبريالية والاقتصاد العالمي” لنيكولاي بوخارين عام 1916. وقد قام لينين بنفسه بتلخيص تحليله للإمبريالية، فيقول: “إذا كان من الضروري وضع تعريف مختصر للإمبريالية فعلينا القول بأن الإمبريالية هي مرحلة الاحتكار من الرأسمالية، ولكن على الرغم من أن التعريفات المختصرة ملائمة لأنها تلخص النقاط الرئيسية، إلا أنها مع ذلك غير كافية، لأن علينا أن نقتطع بعض السمات الهامة بشكل خاص من الظاهرة التي نكون بصدد تعريفها. وهكذا بدون نسيان القيمة الظرفية النسبية لكل التعريفات بشكل عام، والتي لا يمكنها أبدًا أن تشمل تسلسل الظاهرة في تطورها الكامل، علينا أن نعرض تعريفًا للإمبريالية يتضمن السمات الخمس الرئيسية التالية:
1) تركيز الإنتاج ورأس المال قد تطور إلى مرحلة كبيرة حتى أنه خلق سوقًا احتكارية تلعب دورًا حاسمًا في الحياة الاقتصادية.
2) دمج رأس المال المصرفي مع رأس المال الصناعي وخلق أوليجاركية اقتصادية على أساس “رأس المال الاقتصادي”.
3) ينال تصدير رأس المال متمايزًا عن تصدير السلع أهمية استثنائية.
4) تأسيس منظمات رأسمالية احتكارية عالمية تتقاسم العالم فيما بينها.
5) اكتمال التقسيم الإقليمي للعالم بأكمله بين القوى الرأسمالية الكبرى.
إن الإمبريالية هي الرأسمالية في مرحلة التطور التي يتأسس فيها لسيطرة الاحتكار ورأس المال الاقتصادي، والتي يتمتع فيها تصدير رأس المال بأهمية واضحة، والتي يبدأ فيها تقسيم العالم بين الاتحادات الاحتكارية، والتي يكتمل فيها تقسيم كافة أقاليم الكرة الأرضية بين القوى الرأسمالية الكبرى. ([11])
لا يقسم الرأسماليون العالم نتيجة لحقدٍ ما، ولكن لأن درجة المركزية التي تم الوصول إليها تجبرهم على تبني تلك الطريقة لجني الأرباح، وهم يقومون بتقسيمه بنسبة رأس المال وبنسبة القوة لأنه لا يمكن أن تكون هناك طريقة أخرى للتقسيم في ظل إنتاج السلع والرأسمالية.” ([12])
وبما أن القوة النسبية للقوى الإمبريالية الرئيسية تتغير (مثل نهوض ألمانيا) فيبدأ صراع من أجل إعادة تقسيم العالم مما يؤدي إلى حرب إمبريالية.
سيكون بالطبع تصور أنه خلال ما يقرب من قرنٍ لن تكون هناك تغييرات كبيرة وهامة في البنية الاقتصادية والسياسية للإمبريالية أمرًا مناقضًا للمنهج الجدلي الماركسي وتحليل ماركس للرأسمالية (ثورة الإنتاج المستمرة واضطراب كافة الظروف الاجتماعية المتواصل وعدم اليقين الأبدي والتحريض على التمييز بين العصر البرجوازي وبين كل السابقين عليه). يقدم كل من كريس هارمان في “تحليل الإمبريالية”([13]) وأليكس كالينيكوس في “الإمبريالية والاقتصاد العالمي”([14]) دراسات شاملة ومتقنة لتلك التغييرات وتتضمن التراجع في أهمية رأسمال التصدير وتحول الاستثمار بعيدًا عن العالم الثالث والتراجع عن الاستعمار الرسمي، وتراجع أوروبا في الحرب العالمية الثانية وظهور منافس إمبريالي للحرب الباردة؛ ظهور الدول الصناعية الجديدة (مثل كوريا الشمالية وسنغافورة والصين والبرازيل، إلخ) وظهور البترول كسلعة إمبريالية بامتياز، وانهيار الشيوعية في الكتلة الشرقية وحقبة العولمة المزعومة.
ولكن في الحقيقة على الرغم من كل تلك التطورات إلا أنه لا تزال بعض الأمور الأساسية مستمرة، حيث استمرت عملية تركيز وتمركز رأس المال التي قام ماركس بتعريفها، ولا تزال الشركات متعددة الجنسيات العملاقة تسيطر أكثر من ذي قبل على الاقتصاد العالمي. ولكن الغالبية العظمى من تلك الشركات تحافظ على قاعدة محلية وطنية ذات روابط وثيقة بالتبعية المشتركة لأجهزتهم الحكومية المختصة وتنتشر قوات الدولة (الاقتصادية والدبلوماسية والسياسية والعسكرية) بانتظام لدعم والدفاع عن تلك المصالح الاقتصادية. وكنتيجة لذلك لا يزال العالم منقسمًا إلى أمم مُضطهِدة وأمم مُضطهَدة، قوى عظمى وقوى إقليمية، لا تزال الإمبريالية قائمة، وكذلك حقيقة وخطر الحرب الإمبريالية.
قامت محاولات متنوعة لإنكار ذلك في الثمانينيات والتسعينيات حين كانت الضجة حول العولمة في ذروتها، وزعم داعمو العولمة الرأسمالية اليمينيون أنها سوف تحل جميع مشاكل التخلف والفقر وتخلق عالمًا مسطحًا لا تكون فيه مساحة للصراعات القومية، وتوازى ذلك مع أمل عدد كبير من البرجوازيين في نظام عالمي جديد ونهاية التاريخ (وعنى فرانسيس فوكاياما بذلك نهاية الصراع السياسي أو الأيديولوجي؛ أي نهاية أي منافس للديمقراطية الليبرالية الرأسمالية). أما في المعسكر اليساري فقال نايجل هاريس أن العولمة تحرر رأس المال من صلاته بالدولة، وقال كل من مايكل هارت وأنطونيو نيجري أنه قد تم استبدال الإمبريالية التقليدية والقوى المنافسة لها بنظام عالمي للإمبراطورية.
لطالما اعتقدت على المستوى الشخصي أن فكرة تحرير رأس المال من اعتماده على سلطة الدولة وعلاقته بها غير قابلة للتصديق تمامًا، فلا يستطيع أي متجر كبير العمل يومًا واحدًا دون مساندة الدولة إلا إذا كان لديهم شرطة أو جيش خاص بهم، وسيدخل الفقراء الذين لديهم أبناء بحاجة إلى الطعام ببساطة ويحصلون على ما يريدون وإذا فلتوا من العقاب فسيحذو الكثيرون حذوهم. ولكن التاريخ لم يثبت صحة أي من هذه الادعاءات، وكما أشار جوزيف كونارا فإنه لم تكد الإمبراطورية تختفي إلا ووجدنا أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 وبداية دورة جديدة من الحروب الإمبريالية. ([15])
في هذا السياق وبغض النظر عن البنية الاقتصادية المحددة للإمبريالية المعاصرة فإن النتائج الجوهرية السياسية والعملية التي توصل إليها لينين فيما يتعلق بالاستجابة الاشتراكية للإمبريالية تظل ضرورية للممارسة الثورية اليوم. وإن أول وأهم تلك النتائج هي المعارضة العنيدة للإمبريالية بأكملها وللحرب الإمبريالية بشكل خاص، وقد انسحب لينين من الأممية الثانية استنادًا إلى هذا المبدأ، وهي المنظمة التي كان داعمًا لها بشدة حينما انهارت غالبية أقسامها وتنظيمها القيادي؛ الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، واتجهت إلى دعم وطني لحكوماتهم الخاصة عند اندلاع الحرب العالمية الأولى، ومن الواضح أن هذا المبدأ لا يزال بالطبع ضروري ومرتبط بالواقع.
من جانب فإن القرن الحادي والعشرين قد شهد سلسلة من التحركات ضد الحرب الإمبريالية بالفعل (مثل التظاهرات الضخمة في الخامس عشر من فبراير من عام 2003 والتي تعد على الأرجح أكبر تظاهرات محلية ودولية في التاريخ)، وعلى الجانب الآخر يمكننا أن نرى المسار المؤسف الذي يتبعه اليساريون والاشتراكيون والماركسيون السابقون الذين تخلوا عن معارضة الإمبريالية بسبب الخطر المزعوم الذي تشكله الأصولية الإسلامية والإرهاب؛ وهو المسار الذي جسده كريستوفر هيتشنز (الذي انتهى به الأمر إلى تأييد جورج بوش) ولكن يتضح كذلك من أمثال فريد هاليداي ونيك كوهين ونورمان جيراس.
ثم هنالك مسألة فلسطين، حيث يميل كل هؤلاء الذين يفشلون في إدراك أن الصراع في فلسطين صراعًا مضادًا للإمبريالية بالأساس إلى عدم فهم المسألة جيدًا، فهم إما ينظرون إلى الصراع باعتباره نزاعًا محليًا بين أديان أو أعراق أو أمم مختلفة عليها تعلم التسامح مع الآخر، وإما يفسرون دعم الولايات المتحدة الغير مشروط لإسرائيل من حيث قوة “اللوبي” اليهودي وكأن المصالح اليهودية تتحكم في أمريكا والعالم، وهي فكرة تؤدي مباشرةً إلى أوهام المضادة للسامية ونظريات المؤامرة.
إن إدراك – ومعارضة – الإمبريالية كنظام شامل أمرًا هامًا كذلك فيما يتعلق بفكرة “التدخل الإنساني” الحالية التي يتم ممارستها فيما يتعلق بليبيا وسوريا، فعلى سبيل المثال كان زعم أن الناتو يتدخل في ليبيا لإنقاذ بنغازي أو لمنع وقوع مذبحة كذبة زائفة، ولكن كان من الأسهل عدم تصديق تلك الكذبة على أساس فهم للإمبريالية باعتبارها أمر كلي، بدلًا من النظر إلى الوضع في ليبيا باعتباره حالة فردية.
هناك جانب آخر من سياسات لينين المناهضة للإمبريالية وهو دعمه لحق تقرير المصير([16])، ناقش لينين هذه المسألة في بداية الأمر فيما يتعلق بمشكلة الأقليات القومية داخل الإمبراطورية القيصرية ثم فيما يتعلق بالإمبراطورية النمساوية المجرية قبل الحرب العالمية، ولكن اتضح أن ذلك جزءًا متكاملًا من معارضته للإمبريالية بشكل عام. كان على لينين أن يدافع عن موقفه أمام الاشتراكيين والماركسيين الآخرين، وخصوصًا أوتو باور من الحزب الاشتراكي النمساوي، وروزا لكسمبورج ورفيقه البلشفي بوخارين.
أراد باور أن يحل مشكلة القوميات المضطهدة بشكل يتلاءم مع إطار الإمبراطورية النمساوية المجرية ولذا عارض حق الانفصال السياسي ولكنه دافع عن الاستقلال القومي الثقافي (مثل مدارس منفصلة، إلخ)، بينما كان رأي لينين معارضًا له، حيث دافع عن حق القوميات المضطهدة في الاستقلال السياسي ولكنه عارض القومية الثقافية أو الاستقلال الثقافي بإسم الأممية البروليتارية والثقافة الأممية. عارض كل من لكسمبورج وبوخارين الدفاع عن حق تقرير المصير للقوميات على أساس أن هذا أمر مثالي، حيث لا يمكن إدراكه في ظل الرأسمالية، وانتهازي حيث يزرع أوهام القومية. وفي مقابل ذلك أصر لينين على أن تقرير المصير؛ بما في ذلك الحق في تكوين دولة منفصلة، حقًا ديمقراطيًا أساسيًا يجب دعمه، وقال: “إن القومية البرجوازية لأي أمة مضطهدة لديها مضمون ديمقراطي عام يتم توجيهه ضد الاضطهاد، وهذا المضمون هو الذي ندعمه بشكل غير مشروط”.([17])
وقال أن رفض حق تقرير المصير يعني الاصطفاف إلى جانب الإمبريالية والاضطهاد وأن دعم حق الاستقلال في صالح الطبقة العاملة في الأمم المضطهدة، حيث قال: “هل يمكن أن تكون أمة ما حرة إذا كانت تضطهد أمم أخرى؟ لا يمكن. إن مصالح حرية الشعب الروسي العظيم تتطلب نضالًا ضد مثل ذلك الاضطهاد. يجب التشديد في التعليم الأممي لعمال الدول الظالمة على دعمهم لحرية الدول المظلومة للاستقلال ونضالهم من أجل ذلك، وبدون ذلك لا يمكن أن توجد الأممية”. ([18])
وفي سياق الدفاع عن انتفاضة عيد الفصح عام 1916 كتب لينين: “إن جدليات التاريخ أن تلعب الأمم الصغيرة العاجزة – باعتبارها عاملًا في الصراع ضد الإمبريالية – دورًا كأحد المحفزات التي تساعد القوة الحقيقية المضادة للإمبريالية، وهي البروليتاريا الاشتراكية، على الظهور في المشهد”. ([19])
كما دعم لينين بشدة اتحاد الاشتراكيين من القوميات والعرقيات المختلفة في منظمة مشتركة، واتحادهم ضد “محاولات إعطاء غطاء شيوعي لنزعات التحرير الديمقراطي البرجوازية في الدول المتخلفة.. على الأممية الشيوعية الدخول في تحالف مؤقت مع الديمقراطية البرجوازية في الدول المتخلفة والاستعمارية ولكن لا تندمج معها، وعليها أن تدعم استقلال الحركة البروليتارية تحت كل الظروف حتى إذا كانت في شكل بدائي. ([20])
أرى أن ذلك يرتبط للغاية بواقعنا اليوم، فهو لا ينطبق فقط على النهج الذي يجب أن يتخذه الاشتراكيون في الحركات المناهضة للإمبريالية والنضال في العالم الثالث حيث يكون من الضروري التأكيد مجددًا على أن دعم حق تقرير المصير ليس معتمدًا على موافقة قيادة أو حكومة الدولة المعنية، بل أنه مفيد أيضًا حين يتعلق الأمر بمسألة الحقوق القومية داخل الدول الإمبريالية والرأسمالية المتقدمة، فعلى سبيل المثال على الاشتراكيين أن يدافعوا عن حق الكيبيك في الانفصال عن كندا، أو حق اسكتلندا في الانفصال عن المملكة المتحدة إذا رغب مواطنين الكيبيك أو اسكتلندا في ذلك.
لقد أصبحت الحجة ضد إعطاء الحركات القومية غطاءًا شيوعيًا أكثر أهمية من الوقت الذي أعلن لينين فيه عن هذا الأمر في ضوء الممارسة الستالينية، الآن بعد أن ترسخ ذلك كما ظهرت نزعة الحركات القومية نحو تبني لغة وشعارات الشيوعية أو الماركسية، مثل نظام كاسترو في كوبا، والمجلس الاثيوبي (والذي يوصف في موسوعة ويكيبيديا بكونه مجلس عسكري لينيني ماركسي مدعوم من الاتحاد السوفييتي)، وحزب زانو التابع لموغابي في زيمبابوي، بسبب جاذبية النموذج الستاليني للصناعة والتطور بالنسبة لهم.
وأخيرًا لابد أن تكون صلة مناهضة لينين للإمبريالية بالصراع في أيرلندا قبل عملية السلام واضحًا، فهؤلاء الاشتراكيون والماركسيون المستقبليون في بريطانيا وأيرلندا – والذين غاب عن نظرهم المضمون التقدمي المناهض للإمبريالية للصراع الجمهوري، حيث يساوون على سبيل المثال بين الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت وبين القوات شبه العسكرية الموالية – قد اتجهوا إلى مواقف رجعية واصطفوا إلى جانب الحكومة البريطانية. بينما حُكم بخيبة الأمل على هؤلاء الذين وقفوا إلى جانب الجمهوريين واستثمروا فيهم آمالهم في تكوين جمهورية عمالية.
نظرية الدولة:
أوضح لينين نظريته عن الدولة فيما يُعد أشهر أعماله “الدولة والثورة”؛ والذي كتبه في أغسطس 1917 أثناء الثورة الروسية، كان لينين يعتقد أن كل من كاوتسكي وبليخانوف وقادة الأممية الثانية قد حرفوا آراء ماركس، وكان يهدف إلى إعادة تأسيس ما قاله ماركس بالفعل فيما يتعلق بمسألة الدولة على أساسٍ من فحص المقاطع الجوهرية في آراء ماركس وإنجلز فيما يخص هذا الأمر([21]). وبما أن كتاب “الدولة والثورة” مشهور فسوف أقوم بتلخيص بسيط لفرضياته الرئيسية دون اللجوء إلى الاقتباس:
إن الدولة ليست مؤسسة أبدية ولكنها نتاج انقسام المجتمع إلى طبقات وعدم توافق الخصومات الطبقية.
إن الدولة هي أداة الحكم الطبقي، أداة قمع طبقة للأخرى.
إن ماهية الدولة هي سلطة عامة تشرف على المجتمع، وتتكون من هيئات مميزة من الأفراد المسلحين والشرطة والسجون وأدوات أخرى للقمع.
إن الدولة الحديثة هي دولة رأسمالية تخدم مصالح الطبقة الرأسمالية، فهي ديكتاتورية البرجوازية.
لا يمكن الاستيلاء على تلك الدولة واستخدامها من قبل الطبقة العاملة لإقامة الاشتراكية كما كانت استراتيحية أحزاب الأممية الثانية، ولكن لابد من إسقاطها أو تفكيكها أو تحطيمها من قبل الثورة البروليتارية.
يجب استبدال الدولة الرأسمالية المحطمة بدولة عمال جديدة تقوم على الانتخابات والقدرة على عزل كل المسئولين وتخفيض رواتبهم لتساوي أجور العمال.
إن دولة العمال تلك ضرورية للتعامل مع مقاومة البرجوازية المضادة وتأمين الانتقال إلى الاشتراكية.
عند تحقق المجتمع الخالي من الطبقات تمامًا ستختفي الدولة وتُستبدل بمجتمع من المنتجين المتحدين يخضع للحكم الذاتي.
أوضح لينين تلك الأفكار الموجودة بالفعل في كتابات ماركس وانجلز وكانت إضافته الوحيدة أن المؤسسات المركزية لدولة العمال ستكون مجالس أو سوفييتات عمالية تقوم على مندوبين من أماكن العمل، وذلك على أساسٍ من خبرة الثورات الروسية في عامي 1905 و1917، ولم يكن ذلك موضحًا بالتفصيل في كتاب “الدولة والثورة”، ومع ذلك فإن تنظيم لينين للنظرية الماركسية عن الدولة كان هامًا للغاية، حيث رسم الحد الفاصل بين الإصلاحية (بما في ذلك الإصلاحية اليسارية) والاشتراكية الثورية، وبين ماركسية الاشتراكية الديمقراطية وماركسية الشيوعية والأممية الثالثة، كما أوضحت في ذات الوقت الفروق بين الماركسية والأناركية.
إن النقطة الحاسمة التي كتبها ماركس فيما يخص كميونة باريس وأكد عليها لينين بشكل متكرر هي الحاجة إلى تدمير آلة الدولة القائمة بدلًا من الاستيلاء عليها، حيث أن لها آثارًا عظيمة بالنسبة لما سيحدث في الثورة وكذلك بالنسبة للممارسة السياسية اليومية الحالية، يتقبل الاشتراكيون الديمقراطيون من أصحاب الجناح اليميني أمثال توني بلير وايمون جيلمور الدولة ويؤيدونها ناشرين أسطورة حياديتها بين الطبقات ودعم قواتنا المسلحة والشرطة كممثلين عن الشعب بأكمله، أما الإصلاحيون اليساريون مثل توني بين وجون لوك ميلينشون من جبهة اليسار واليكس تسيبراس من ائتلاف اليسار الراديكالي (سيريزا) فيدركون عادة الانحياز الطبقي للشرطة والقانون بالإضافة إلى معارضة الحرب غالبًا ولكنهم يتوقفون عند المطالبة بتحطيم الدولة مفضلين الأمل في استبدالها وإصلاحها تحت سيطرة حكومة اشتراكية أو تطبيقها تدريجيًا تحت سيطرة الديمقراطية أي الاستيلاء عليها وإدارة الطبقة العاملة لها، وهو عكس ما قال به ماركس ولينين. إن هذا الأمر ليس واقعيًا بسبب آلاف الروابط التي تصل بين أجهزة الدولة وبعضها البعض، كما أنه يزيد من احتمالية تراخي الموقف اليساري والإصلاحي تجاه قبول ودعم الدولة الرأسمالية. وفي هذا السياق يعد فشل سيريزا في الإعلان عن تلك المسألة في برنامجها الراديكالي للسياسات الاقتصادية والاجتماعية جنبًا إلى جنب مع مصافحة تسيبراس علنًا لرئيس الشرطة في أثينا علامة تحذير.
لقد كانت هناك على مدار التسعين عام الماضية العديد من الانتقادات الصريحة والضمنية لنظرية لينين عن الدولة، لن يتسع المجال في مقالنا هذا لنقاش مفصل حول تلك الانتقادات ولكن يمكننا ذكر أهمها:
النقد التعددي السائد.
النقد المعتمد على “الرغبة في السلطة” في فلسفة نيتشه وفوكو.
نقد جرامشي المزعوم.
النقد الاستقلالي أو الأناركي.
وسأقوم بعرض مختصر ورد على كل منهم:
النقد التعددي:
لقد أصبح هذا النقد؛ الذي رسمته أعمال عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر والباحثين النظريين الإيطاليين جايتانو موسكا وفيلفريدو باريتو، هو الموقف المهيمن في العلوم الاجتماعية النظرية في الخمسينيات والستينيات (في أعمال علماء السياسة مثل رونالد دال وارنولد روز ورايموند آرون) وظل هو المنظور الذي تقوم عليه معظم التغطية الإعلامية للسياسات والأخبار الجارية. يقبل هذا المنظور أن تسيطر نخبة على كل جانب من الحياة السياسية والاجتماعية، مثل الصناعة والاقتصاد والإعلام والقانون والطب والنقابات العمالية والآداب والرياضة.. إلخ، ولكن يحافظ على كون هذه النخب لا تشكل طبقة حاكمة متحدة بل تكون في منافسة مع بعضها البعض، تأخذ المنافسة شكل تأثير تقوم به المصالح الكبيرة ومجموعات الضغط بالتنافس بينهم مما يمنع أي مجموعة واحدة من أن تمارس سلطة كاملة أو غير متكافئة بشكل كبير، جاء دور الحكومة والدولة في ذلك السيناريو أن تعمل كوسيط بين المجموعات المختلفة. كان يقابل تلك التعددية شمولية الشرق الشيوعي في الحرب الباردة، وليس من الصعب رؤية الطريقة التي تداخلت بها رؤية للسياسة كما تُرى من زاوية نقطة مراقبة الكونجرس الأمريكي وبرلمان وستمنستر والمجلس الأيرلندي مع غرف أخبار إذاعة البي.بي.سي والتليفزيون الأيرلندي والإذاعات الأخرى المملوكة للدولة.
دحض رالف ميليباند التحليل التعددي منذ عام 1969 في كتابه الشهير “الدولة في المجتمع الرأسمالي” الذي أوضح بالدليل التجريبي أن النخب المختلفة، بما في ذلك نخبة أجهزة الدولة، ناتجة عن ذات الطبقة الاجتماعية وذهبت إلى مدارس وجامعات الصفوة ذاتها وانتمت إلى ذات الأيديولوجية المؤيدة للرأسمالية، وأن المنافسة بينهم خادعة أو ظاهرية وأنهم قد شكلوا بالطبع طبقة حاكمة سيطرت بالطبع على الدولة.
كما تفشل النظرة التعددية في الأخذ في الاعتبار الطريقة التي يتحكم بها نفس المنطق الاقتصادي في النخبة، وهو منطق المنافسة الرأسمالية، والذي يحكم أيضًا سلوك الحكومة والدولة، حتى عندما لا يكون أعضاء الحكومة ومدراء الدولة لا ينتمون إلى الطبقة الرأسمالية.
نقد نيتشه وفوكو:
قال الفيلسوف الفرنسي المؤثر “فوكو” أن السلطة ليست متركزة فقط في أيدي طبقة اجتماعية ما أو الدولة كما تقترح النظرية الماركسية واللينينية عن الدولة (طبقًا لفوكو)، ولكنها علاقة حاضرة في كل مكان في المجتمع وتعمل وسط العديد من المؤسسات والعلاقات الاجتماعية مثل السجون والمدارس والمستشفيات والأسر والمكاتب وهكذا. والأكثر من ذلك أنه حيثما توجد سلطة توجد مقاومة([22])، ولذا فكان من الضروري ملاحقة الكثير من المعارك المتمركزة والمتفرقة ضد السلطة النهمة أينما ظهرت، بدلًا من اتباع استراتيجية تركز على هزيمة السلطة.
إن الاعتراض الأول على هذا النقد هو أنه يرفض ماركس ولينين على أساسٍ من التبسيط المفرط، فلم يزعم أي من ماركس أو لينين أن كل السلطة مملوكة للطبقة الحاكمة أو الدولة أو أنه من غير الضروري تحدي السلطة في مستوى محل العمل أو المستوى المحلي أو المستوى العائلي، ولكنهم فقط قالوا أن القوة الحاسمة في المجتمع مركزة هناك، في الحقيقة فإن المعلم بالطبع يمارس نوعًا من السلطة في الفصل الدراسي، كما يفعل الطبيب في المستشفى، والمدير في المكتب، والأب في الأسرة، ولكن مساواة تلك السلطة بسلطة الدولة الرأسمالية يعد مثل مساواة انجذاب التفاحة بانجذاب الأرض على أساس أن الجاذبية موجودة في كل مكان.
الاعتراض الثاني هو أن الماركسية تقدم تحليلًا لسبب وجود العلاقات السلطوية القمعية في المدارس والمستشفيات والعلاقات الشخصية؛ حيث توضحهم من حيث العزلة والاستغلال المتضمنين في الرأسمالية وأشكال الإنتاج الأخرى القائمة على التقسيم الطبقي. رفض فوكو هذا التحليل مفضلًا الاستناد إلى مفهوم نيتشه الأساسي والعالمي؛ “الرغبة في السلطة”، وبينما يمكن استخدام هذا المفهوم لتأمين نوعًا من المقاومة اليسارية المناهضة للاستبدادية، إلا أنها لا تقدم أي احتمالية للنصر أو التحرر النهائي. إذا كانت الرغبة في السلطة عالمية فإن تفوق الشخص “أ” الذي لا يتمتع بأي سلطة نسبية على الشخص “ب” الذي يتمتع بسلطة كاملة نسبية في المنصب “ج”، سيؤدي ببساطة إلى استبدال “أ” بـ “ب” طالما استمر الاضطهاد. ربما اختار فوكو أن يصطف إلى جانب المظلومين ولكن مثل هذا الاختيار لهو اعتباطي، فإذا كان كل فرد يسعى وراء رغبته الخاصة في السلطة كما يقول نيتشه فإنه ليس هناك سببًا محددًا لعدم الاصطفاف إلى جانب المُضطهِد كما فعل نيتشه نفسه.
نقد جرامشي المزعوم:
هذا هو أكثر نقد “ماركسي” من الانتقادات الموجهة للنظرية اللينينية عن الدولة، فإن أصوله لا تمت لجرامشي بصلة، ولكنها ترجع لتحول الأحزاب الشيوعية الستالينية إلى الإصلاحية باستراتيجية الجبهة الشعبية في الثلاثينيات، وتطور ذلك أكثر بعد الحرب العالمية الثانية مع تبني الأحزاب الشيوعية الغربية بتوصية من موسكو للطرق البرلمانية السلمية للاشتراكية، وتبنى برنامج الحزب الشيوعي ببريطانيا العظمى “الطريق البريطاني للاشتراكية” بموافقة ستالين عام 1951، فيقول البرنامج: “يتهم أعداء الشيوعية الحزب الشيوعي بأنه يهدف إلى إدخال السلطة السوفييتية في بريطانيا ويلغي البرلمان، وهذا تشويه لسياستنا. لقد أظهرت التجربة أن الوصول إلى الاشتراكية في الظروف الحالية ممكنًا كذلك باستخدام طريق مختلف، مثل ديمقراطية الشعب، دون تأسيس سلطة سوفييتية، كما هو الوضع في ديمقراطيات الشعوب في أوروبا الشرقية. سوف تصل بريطانيا إلى الاشتراكية بطريقها الخاص، تمامًا كما أدرك الشعب الروسي سلطته السياسية من خلال الطريق السوفييتي الذي أملته عليهم ظروفهم التاريخية وخلفية حكم القيصر، وحصلت الطبقة العاملة في ديمقراطيات الشعوب وفي الصين على سلطتهم السياسية بطريقهم الخاص النابع من ظروفهم التاريخية، لذا فيعلن الشيوعيون البريطانيون أن الشعب البريطاني يمكنه تحويل الديمقراطية الرأسمالية إلى ديمقراطية شعب حقيقية، تحويل البرلمان الذي هو نتاج صراع بريطانيا التاريخي من أجل الديمقراطية، إلى أداة ديمقراطية لتحقيق رغبة الغالبية العظمى من شعبها. سيكون الطريق إلى الأمام للشعب البريطاني هو تأسيس حكومة شعبية على أساس من برلمان ممثل بحق عن الشعب.” ([23])
عندما بدأت كتابات أنطونيو جرامشي تتمتع بالشهرة في السبعينيات استولى المنظرون المرتبطون بالشيوعية الأوروبية (النزعة التي ظهرت في الشيوعية الأوروبية والتي تنأى بنفسها عن موسكو) على بعض أفكاره لتبرير الطريق البرلماني وتحويله تجاه الاشتراكية الديمقراطية، قال جرامشي أنه نتيجة لتراجع روسيا الاقتصادي والاجتماعي فإن هناك علاقة مختلفة جوهريًا بين الدولة والمجتمع المدني. فقال: “كانت الدولة في روسيا كل شيء، وكان المجتمع المدني بدائيًا وهلاميًا، أما في الغرب فكانت هناك علاقة ملائمة بين الدولة والمجتمع المدني، فكانت الدولة مجرد خندق خارجي يقف خلفه نظامًا قويًا من القلاع والمتاريس.” ([24])
“وفي حالة الدول الأكثر تقدمًا، فقد أصبح المجتمع المدني بناءًا معقدًا للغاية ومقاومًا للتوغلات الكارثية للعناصر الاقتصادية العاجلة (مثل الأزمات والكساد.. إلخ).” ([25])
أدى ذلك إلى تأكيد جرامشي على “الهيمنة”؛ أي عنصر القيادة الثقافية والأخلاقية والفكرية التي تصحب عنصر القوة في حكم المجتمع من خلال طبقة مهيمنة اقتصاديًا، ويسمح هذا لتلك الطبقة أن تحكم بالتوافق بالإضافة إلى السلطة القمعية. تُظهر سيادة مجموعة اجتماعية ما نفسها من خلال طريقتين؛ “الهيمنة” و”القيادة الأخلاقية والفكرية”، حيث تستطيع المجموعة الاجتماعية من خلالهما ممارسة “القيادة” قبل الحصول على السلطة الحكومية بالفعل. ([26])
ناقش جرامشي ما أطلق عليه “المنظور المزدوج”؛ جامعًا بين مستويات الإجبار والقبول، النفوذ والسيطرة، التحريض والدعاية، التكتيكات والاستراتيجية.. إلخ([27])، مشيرًا إلى تأسيس التحالفات؛ التي كانت تعني في إيطاليا بشكل خاص التحالف بين البروليتاريا في المدن الشمالية وسكان الريف في الجنوب.
استخدم الشيوعيون الأوروبيون أفكار جرامشي للقول بأن أيام الانتفاضة؛ أي الثورة، قد انتهت وأنه يجب التخلي عن فكرة لينين عن تحطيم الدولة لصالح الصراع الأيديولوجي التدريجي والممتد من أجل التأسيس لسيطرة ثقافية، جنبًا إلى جنب مع التحالفات الديمقراطية الواسعة (مع الطبقات الوسطى) للوصول إلى حكومة يسارية.
ثبت أن هذا التأويل لجرامشي وتلك الاستراتيجية (أو على الأقل العنصر الأيديولوجي أو النظري منها) قد لاقى قبولًا واسعًا في الدوائر النظرية اليسارية، ولفترة ما أصبح المعتقد النظري الجديد هو أن جرامشي قد أزاح لينين وحل محله.
إن هذه صورة زائفة تمامًا لفكر جرامشي، فقد تقبل بشكل كامل نظرية لينين عن الدولة بما في ذلك الحاجة إلى الإطاحة بها بطريقة ثورية واستبدالها بمجالس عمالية، واعتبر لينين أعظم منظر حديث لفلسفة الممارسة، وكان يسعى إلى التأسيس على اللينينية والإضافة إليها وليس استبدالها، وركز مفهومه عن السيطرة على الجمع بين الهيمنة وبين القيادة الأخلاقية والفكرية وليس استبدال الأولى بالأخيرة، وكذلك تضمن منظوره المزدوج كل من الإجبار والقبول. كان دفاعه عن التحالفات نقدًا لليسارية المتطرفة (التي كان يمثلها في إيطاليا آميديو بورديجا قائد الحزب الشيوعي الإيطالي) تماشيًا مع كتاب لينين “مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية” وتطور الاستراتيجية البلشفية للتحالف بين الطبقة العاملة والفلاحين، ولم يكن بشيرًا بالبرلمانية المعتدلة للشيوعيين الأوروبيين. ([28])
وسواءً كان هذا النقد للينينية جرامشيا أم لا، فإنه على أي حال خاطئًا بصورة واضحة، إن حقيقة كون الطبقة الحاكمة تحكم من خلال سيطرة فكرية بالإضافة إلى القوة المادية لا تعني على الإطلاق أنها لن تلجأ إلى القوة إذا انهارت سيطرتها، وأثبتت ذلك أمثلة تاريخية كثيرة بدءًا من موسوليني في إيطاليا إلى فرانكو في إسبانيا وحتى بينوشيه في تشيلي، يجب فقط طرح المسألة بشكل ملموس لكي تصبح واضحة للغاية، هل كان من الممكن أن يتراجع الجيش اليوناني (الذي حكم البلاد ديكتاتوريًا منذ 1967 حتى 1973) أو الشرطة اليونانية (التي صوت خمسين بالمائة منها لحزب الفجر الذهبي) ويسمح لسيريزا بتطبيق الاشتراكية؟ هل كان من الممكن للواءات وقادة القوات المسلحة البريطانية التي حكمت الإمبراطورية لقرونٍ أن يسمحوا بوجود حكومة يترأسها جيريمي كوربين لتحويل الحكم إلى نظام ديمقراطي وإزالة الرأسمالية تدريجيًا أم كانوا سيدعمون الملكة والبلد وطبقتهم؟ هل كان ضباط الشرطة في أيرلندا سيتعاونون بسرورٍ مع ريتشارد بويد باريت وجو هيجينز لاستصلاح المصادر الطبيعية الأيرلندية في مايو أم كانوا سيلقون بهؤلاء المصرفيين في السجون؟ وهل من المعقول أن تستولي الطبقة العاملة الأمريكية على السلطة وتسخر البنتاجون ووكالة الاستخبارات الأمريكية ومكتب التحقيقات الفيدرالي ومديرية شرطة نيويورك من أجل أغراضها الخاصة؟
إن طرح هذه الأسئلة هو إجابتها في الوقت ذاته، لقد تغيرت الكثير من الأمور منذ أن كتب لينين كتاب “الدولة والثورة”، ولكن الطبيعة الطبقية للدولة ليست ضمن هذه المتغيرات.
النقد الاستقلالي أو الأناركي:
سوف يكون كلامي هنا مختصرًا حيث أنني كتبت عن هذا الموضوع مطولًا في مكانٍ آخر([29])، يتشارك الأناركيون الثوريون الرغبة في هدم الدولة الرأسمالية ولكنهم يرفضون فكرة احتياج الطبقة العاملة في أعقاب الثورة لدولة خاصة بها، ويقترحون بدلًا من ذلك هدم الدولة فورًا على هذا النحو، وتأسيس فوري لمجتمع يخضع للحكم الذاتي دون أية مؤسسات سلطوية ولا حتى الديمقراطية منها.
إن هذا الموقف ساذج ومثالي في الوقت ذاته، فمن السذاجة تخيل أن العناصر الجوهرية للدولة الرأسمالية؛ حتى بعد هدم الثورة لأجهزة الدولة، لن تنضم للعناصر الجوهرية للطبقة الحاكمة في محاولة مناهضة الثورة لاستعادة الرأسمالية، ولذا فستكون هناك حاجة لمقاومتها بواسطة هيئات من رجال ونساء مسلحين؛ أي بواسطة دولة. ومن المثالي تخيل أنه بعد استيلاء الطبقة العاملة على السلطة؛ وحين تكون الفروق الطبقية لا تزال قائمة، أن عامة الشعب سيكونون على نفس القدر من الوعي والتنوير، وسيتخلصون على الفور من إرث وعادات ألفية كاملة من المجتمع الطبقي إلى درجة أن يكون من الممكن بناء اقتصاد اشتراكي دون أي من عناصر التبعية أو إكراه الأقلية لتقبل رغبة الأغلبية، إن الرفض المبدئي لأي استخدام لسلطة الدولة هو ببساطة وصفة للهزيمة.
قال العديد من دعاة الاستقلالية مثل جون هولواي أن التركيز الملح على الاستيلاء على الدولة –وهي بناء قمعي بطبيعته- كان خطئًا مستمرًا ومصدرًا لفساد الحركة العمالية، ويقترحون تحاشي الارتباط بالدولة وتأسيس مساحات مستقلة تحت حكم الشعب الديمقراطي على غرار نموذج زاباتيستا في المكسيك، ولكن بينما تبدو تلك عملية تكتيكية جذابة على المدى القصير إلا أنها بوضوح ليست استراتيجية قابلة للتطبيق لتغيير المجتمع. لقد قامت زاباتيستا بدعاية ملهمة ولكنها لم تغير المكسيك ولا العالم، فكما قلت من قبل: “إن ما كان ممكنًا في غابات تشياباس غير قابلًا للتكرار في ساو باولو أو بوينوس آيرس أو القاهرة أو أي مكانٍ في عالم رأسمالي متقدم، حيث لا يوجد ببساطة مكان بعيد عن متناول الدولة يمكن الحفاظ عليه كمساحة مستقلة إلى أجل غير مسمى إذا كان يشكل تهديدًا للسلطة الرأسمالية، ربما يمكننا تجاهل الدولة ولكن ذلك لا يعني أن الدولة ستتجاهلنا”.([30])
وتظل النظرية اللينينية عن الدولة لكل هذه الأسباب جزءًا جوهريًا من الممارسة الاشتراكية اليوم.
الحزب اللينيني:
لا شك أن نظرية لينين عن الحزب الثوري هي الأقل رواجًا من بين العوامل الجوهرية للينينية الموضحة هنا في المحيط السياسي الحالي، كان هذا هو الوضع بوضوح في الحركة الإسبانية للسكان الأصليين وفي العديد من الحركات الثورية، ولكن هذا الوضع يتخطى الأناركيين والاستقلاليين ليصل إلى قطاعات أوسع من اليسار ويندمج مع الشك الشائع في كل الأحزاب السياسية بين الجمهور العام.
لذا فقبل معالجة النظرية اللينينية عن الحزب، أرغب في وضع سؤالين سالفين في الاعتبار: أولًا إذا كان من الممكن أن يكون المرء لينينيًا دون اعتناق فكرة الحزب الثوري، وثانيًا إذا ما كان هناك خطب ما (مناهض للديمقراطية مثلاً) في الأحزاب من هذا النوع.
بالتأكيد هناك نشطاء ومنظرين يقبلون بصورة عامة مفهوم لينين للإمبريالية وتحليله للدولة ويجلّون لينين بطرقٍ أخرى كذلك، ولكنهم يرفضون نظرية الحزب ويرفضون ممارستها بشكل خاص، وقد ينطبق ذلك على العديد من المساهمين في المؤتمر الذي أقيم لاستعادة فكر لينين والكتاب الذي صدر عام 2007([31]). وعلى حد علمي فإن الرواد النظريين لهذا الموقف كانوا “سي إل آر جايمس” و”رايا دونافسكيا” اللذين كانا فصيلًا داخل التروتسكية الأمريكية في الأربعينيات والذين ظلوا بعد انفصالهم أوفياء للينين والثورة الروسية ولكنهم عارضوا فكرة أي حزب طليعي، ويعد كيفن ب.آندرسون على الأرجح هو الممثل المعاصر الرائد لهذه النزعة.
لسوء حظ هؤلاء الداعمون للينين دون فكرة الحزب فإن لينين في الحقيقة قد كرّس حياته السياسية بأكملها حتى عام 1917 من أجل بناء مثل هذا الحزب، ودافع عن تلك الفكرة بشراسة ضد أي نزعة للتغاضي عنها حتى في أصعب الأوقات مثل الفترة من عام 1907 وحتى 1912، ثم بدأ بعد عام 1917 في بناء الأحزاب الثورية المشابهة في أنحاء العالم ووحدتهم في الأممية الشيوعية. فلا يمكن القبول باللينينية دون فكرة الحزب الثوري، وهؤلاء الذين يتخلون عن فكرة الحزب الثوري هم في الحقيقة يتخلون عن اللينينية.
أما بالنسبة لفكرة وجود خطب ما في الأحزاب السياسية فعلينا بالطبع فهم أن مثل رد الفعل هذا في مواجهة السلوك الواضح لكل الأحزاب التي يعرفها معظم الناس لهو أمر مفهوم، كما أننا بحاجة إلى فهم أن هناك بالفعل خطب ما في وجود الأحزاب السياسية لأنها أعراض وتعبيرات عن مجتمع منقسم طبقيًا، ومن ثم تعرض العديد من السمات الرهيبة للمجتمع الطبقي([32]). لكن نظرًا للوجود الفعلي للمجتمع الطبقي وحقيقة أن الطبقة العاملة لا يمكنها الانسحاب من هذا المجتمع وتأسيس مجتمع مثالي في مكان آخر ولكن عليها النضال من أجل تحريرها من الداخل، ويجب القول بأن وجود الأحزاب السياسية في الواقع مكسبًا وشرط ضروري للديمقراطية المحدودة.
يجب الإشارة في البداية إلى أن الأحزاب تطورت تاريخيًا جنبًا إلى جنب مع تطور ديمقراطية البرجوازية وامتداد الامتيازات للطبقة العاملة في القرن التاسع عشر، لم تكن قبل ذلك توجد أية أحزاب بل كانت هناك اتحادات بين النبلاء؛ أي الأرستقراطيين والبرجوازية. وقد كان اكتساب حق التصويت للجماهير هو ما ألزم الطبقات الوسطى والعليا والعمال أنفسهم بتشكيل أحزاب للدفاع عن تلك الأصوات. ثانيًا إن المجتمعات الحديثة التي لا توجد فيها أحزاب متعددة هي المجتعمات المقموعة إجباريًا من قبل الجيش أو الفاشية أو الديكتاتوريات الستالينية؛ أي التي لا توجد فيها أية ديمقراطية على الإطلاق.
تخيل إذا كان من الممكن في مجتمع رأسمالي تأمين حل كافة الأحزاب السياسية دون قمع بحيث يصبح كل النواب وأعضاء المجالس أفرادًا غير منتسبين، وهو بالطبع غير ممكن، هل سيفيد ذلك الطبقة العاملة؟ لا، لن يفيدها، بل على النقيض فإن من سيستفيد بشكل كبير في مثل تلك الظروف هم الأغنياء والبرجوازية لأنهم سيستطيعون استخدام ثرواتهم الشخصية وكل ميزاتهم الأخرى للسيطرة على السياسة أكثر مما يفعلون في الوقت الحالي. لا يستطيع العمال مقاومة سلطة رأس المال وسيطرة البرجوازية إلا من خلال منظمات جماعية مثل الأحزاب أو النقابات.
سوف أقوم بعرض ثلاثة أسئلة لنعود بهم تحديدًا إلى مسألة الحزب اللينيني:
ما هي السمات الرئيسية للحزب كما تصورها لينين؟
هل هناك شيء ما نخبوي أو مناهض للديمقراطية في مثل هذا الحزب كما يزعم غالبًا؟
لماذا يعد من الضروري اليوم تولي مهمة محاولة بناء مثل هذا الحزب هنا في أيرلندا وفي كل دولة؟
ليس هناك نص واضح يستعرض نظرية لينين عن الحزب، على عكس نظرياته عن الدولة والإمبريالية، ولا يمكن استخدام كتاب “ما العمل؟” كنصٍ للنظرية، لذا أقدم هنا ملخصًا موجزًا مستندًا إلى دراسة لممارسة لينين السياسية بشكل كامل.
إن الحزب اللينيني هو حزب لطبقة محددة في المقام الأول هي الطبقة العاملة، ففيها يتركز نشاطه وعضويته وهذه هي الطبقة التي يسعى في الأصل إلى تمثيل مصالحها، يستند مذهب الحزب على النظرية الماركسية التي تقود نشاطه كذلك، وهو حزب ثوري بشكل صريح؛ ليس فقط بمعنى أن هدفه المعلن هو الثورة، ولكن أيضًا بمعنى أن عضويته بشكل عام تقتصر على الثوريين؛ فالحزب اللينيني ليس “كنيسة شاملة” ولا يشمل الجناح الإصلاحي، إنه حزب للنضال الذي يهدف إلى الانخراط مع جموع الطبقة العاملة بأكملها في معاركها اليومية مع الرؤساء والحكومة. ويعمل الحزب في النقابات العمالية ويشارك في الانتخابات من أجل الوصول إلى جموع العمال([33])، ويهدف الحزب إلى رفع الوعي السياسي وثقافة أعضاءه لإعدادهم للنضال من أجل القيادة في الصراع الطبقي، ويعمل الحزب طبقًا لمبدأ المركزية الديمقراطية والنقاش الديمقراطي واتخاذ القرار ووحدة الأفعال.
هل تجعل تلك السمات المميزة الحزب اللينيني أقل ديمقراطية من الأشكال الأخرى من المنظمات السياسية؟ على العكس تجعل كل تلك السمات الحزب اللينيني هو الشكل الأكثر ديمقراطية للتنظيم مما هو متاح للاشتراكيين الذي يعملون في مجتمعٍ رأسمالي. ([34])
إن الطبقة العاملة التي يسند الحزب نفسه إليها هي الطبقة الأكثر ديمقراطية في المجتمع الرأسمالي، بينما لا تنفك ديمقراطية أحزاب الطبقة الحاكمة والطبقة الوسطى في التعرض للتخريب من قبل الثروة والمميزات المادية التي تُمنح لقادتهم، ووصولية وطموح كوادرهم للحصول على الامتيازات. لا تعد أحزاب الطبقة العاملة حصينة بشكل كامل ضد تلك الضغوط ولكنها تعاني منها أقل لا محالة، كما أن الأحزاب الثورية التي تهدف إلى هدم الدولة تعاني من تلك الضغوط أقل من الأحزاب الإصلاحية التي تهدف إلى الاستيلاء على الدولة القائمة ومن ثم تقدم لقادتها احتمال النجاح داخل المجتمع الرأسمالي (مثل المناصب الوزارية، إلخ). أما ديمقراطية الأحزاب الإصلاحية (والنقابات العمالية) فيتم تقويضها أيضًا؛ ليس فقط بسبب المميزات التي تحصل عليها الطبقة القائدة، بل كذلك بسبب حقيقة أن القادة لديهم وجهات نظر سياسية مختلفة بشكل أساسي عن أعضائهم؛ مثل التعامل مع الرأسمالية بالنيابة عن العمال (أو التفاوض معها في حالة النقابات العمالية) بدلًا من الدفاع عن مصالح العمال داخلها، إن ما يؤهل الفرد بالطبع لكي يكون سياسي إصلاحي أو قائد للنقابات العمالية هو قدرته على إخفاء هذا الفرق بمهارة، ولكنه يظل حقيقيًا ويتسبب في بذل جهد مستمر لمقاومة الضغط الديمقراطي من الأسفل. أما الحزب اللينيني المقتصر على الثوريين فيمنع بشدة ظهور مثل هذا الانقسام بين رغبات القادة والأعضاء.
إن الالتزام بالماركسية يعني الالتزام بالتحرر الذاتي للطبقة العاملة وبالتثقيف السياسي للأعضاء، كما يعزز ذلك من ديمقراطية الحزب، وينتج أو يعمل على إنتاج عضوية قادرة على مناقشة المشاكل وإخضاع القادة للمحاسبة، بالطبع سيظل المستوى السياسي غير متكافئ ولكن الوضع أفضل كثيرًا منه في معظم المنظمات غير اللينينية حيث لا توجد سوى محاولات منهجية قليلة للتثقيف السياسي، فالأحزاب الإصلاحية والنقابات المهنية على سبيل المثال يكونون سعداء بترك أعضاءهم غير مثقفين بشكل كبير طالما يدفعون الاشتراكات ويقومون بالتصويت. إن الانخراط في النضالات اليومية للطبقة لهو عامل ديمقراطي رئيسي آخر، حيث يعني ذلك أن النقاشات داخل الحزب تعكس المشاكل التي تواجه الطبقة وأن سياسات الحزب خاضعة لاختبار الممارسة.
وأخيرًا هنا كمسألة المركزية الديمقراطية، التي تشكل مصدر قلق للكثير من اليسار لأنها تبدو وكأنها تقيد الحرية الفردية حيث تتضمن التزامًا بتطبيق القرارات بما يشمل القرارات التي نختلف معها. إن هذا في الحقيقة لهو التزام تطوعي أو مقبول بحرية حيث يمكن لأي فرد أن يترك الحزب، كما أن المركزية الديمقراطية هي أحد الأشكال الديمقراطية للتنظيم، كما أنها شكلًا فعالًا، لأنها تضمن تنفيذ قرارات الأغلبية بالفعل. وهي تتناقض مع المنظمات المركزية غير الديمقراطية، وخاصة الأحزاب الإصلاحية التي يتجاهل فيها القادة قرارات الأغلبية تحت مسمى الحرية.
إن بناء حزب ثوري لينيني ذي جذور في الطبقة العاملة لهي مهمة صعبة وشاقة، فلمَ إذًا نتولاها؟ ألم تصبح غير ضرورية في عصر وسائل الإعلام الالكترونية والتواصل الأفقي؟([35]) لمَ لا ننتظر حتى تكون الظروف مؤاتية حين تندلع الثورة على سبيل المثال؟ إن الإجابة على كل تلك الأسئلة هي أن ذلك ضروريًا من أجل تحقيق النصر، وهذا الاستنتاج مبني على كل من النظرية والتجربة.
الحجج النظرية واضحة، فالطبقة العاملة تواجه عدوًا مركزيًا – الطبقة الحاكمة والدولة – وهي بحاجة إلى منظمتها المركزية الخاصة لمقاومتها، إن الأفكار المسيطرة هي أفكار الطبقة الحاكمة، وإن الطبقة التي تمتلك وسائل الإنتاج تحت تصرفها تمتلك السيطرة في الوقت ذاته على وسائل الإنتاج الفكري، وبالتالي فإن أفكار هؤلاء الذين يفتقرون إلى وسائل الإنتاج الفكري تكون خاضعة لهم([36]). ومن ثم فهناك حاجة إلى صراع ضد تأثير تلك الأفكار على الطبقة العاملة، فإن وعي الطبقة العاملة ونضالها يتطوران بشكل غير متكافئ، ومن ثم كان من الضروري تنظيم العمال الأكثر وعيًا وتقدمًا بشكل منفصل في حزب ثوري لمقاومة كل من التأثير المباشر للأيديولوجية البرجوازية على الطبقة العاملة، وتأثيرها غير المباشر من خلال الإصلاحيين وبيروقراطيي النقابات المهنية.
أما التجربة التاريخية فهي غامرة، فقد انتفضت الطبقة العاملة ضد النظام في مناسبات لا تُحصى بدءًا من 1848 في باريس وصولًا إلى 2011 في مصر، وقد استولت على السلطة في مناسبات عدة محليًا أو مؤقتًا (مثل كميونة باريس عام 1871) واقتربت من الوصول إلى السلطة في مناسبات أخرى (مثل عام 1923 في ألمانيا، و1936 في إسبانيا)، ولكنها هزمت السلطة القومية واستولت عليها لأعوام مرة واحدة فقط؛ في الثورة الروسية عام 1917 حتى استسلمت للثورة المضادة الستالينية. كان حضور وقيادة الحزب الثوري الجماهيري؛ الحزب البلشفي، ودوره الحاسم هو ما ميز ثورة أكتوبر 1917 عن بقية الهزائم الأخرى.
لن يجدي انتظار الظروف المؤاتية للموقف الثوري، فقد كان الفرق بين الانتصار في روسيا عام 1917 والهزيمة في ألمانيا من 1919 حتى 1923 هو بناء الحزب البلشفي قبل ذلك بعدة سنوات واكتسابه لثقة قطاعات رئيسية من الطبقة العاملة، بينما انتظر كل من روزا لكسمبورج وكارل ليبكنخت والاشتراكيين الثوريين الألمان طويلًا قبل الانفصال عن الاشتراكيين الديمقراطيين ولم يتمتعوا بالوقت الكافي أثناء الثورة لبناء حزب قوي، فمن الضروري أن نكون على استعداد جيد بقدر الإمكان، مما يعني بناء حزب قبل الثورة؛ أي الآن.
الاستنتاج
لا تستنفد الجوانب الثلاث المذكورة هنا من سياسات لينين إرثه بأي شكل من الأشكال، فهناك الكثير والكثير لنتعمله من نظرياته وممارساته الكلية، ولكن تلك الجوانب سويًا تشكل جوهرًا مركزيًا لما تقوم عليه اللينينية، لا يمكن أن تهدأ النظرية الاشتراكية الثورية وسياساتها في ظل كل تلك المتغيرات وفي ظل تطور الرأسمالية، وعلى الماركسية أن تتطور أيضًا على كل الجبهات وعلى أساس تحليلات سليمة للواقع المعاصر. وأنا أرى أننا سنصل إلى ذلك على أساس من اللينينية وليس عن طريق التخلي عنها.