الرأسمالية ليست للأطفال

هل تتمنى أن يشب طفلك ليصبح رأسماليًا؟ والرأسمالية كما يراها الباحث والروائي اللاتيني إدواردو جاليانو* هي “الوجبات السريعة، والسيارات السريعة، والحياة السريعة.. منذ ميلادهم يتدرب الأطفال الأغنياء على الاستهلاك والسرعة”. وليس مدهشًا أن نعرف أن علماء النفس قد لاحظوا نزوع قادة الصناعة للسلوك السيكوبائي؛ ومن ملامح هذا السلوك الأنانية، والتكلف، والانعدام التام للتعاطف والضمير. فالرأسمالية تعامل الأطفال الأغنياء مثلما تتعامل مع المال وتدربهم على التعامل بالمثل.
أما بالنسبة لنصف أطفال العالم الذين يعيشون في فقرٍ مدقع، فهم أقرب إلى أكوام القمامة. ففي مكان ما في مدينة ما، يبدأ هؤلاء الأطفال يومهم بتنظيف حذاء أحد الأشخاص.
أطفال آخرون يكون عليهم الاستسلام لسحر الطفولة؛ ملتصقين بالدفاتر المدرسية نهارًا، وبألعاب الفيديو مساءًا، يتدربون على مهام الرأسمالية ويعيشون حياتهم من خلال الاستهلاك. يقول ماركس: “تُستبدل كل حواسهم المادية والفكرية بأخرى تتمثل في الاحتياج”.
وهذه الأمور تتطلب بعض الجهود لتحصين الأطفال ضد الفضول، ولإبعادهم عن الحقائق. فما كان ليفكر فيه ويفعله هؤلاء الأطفال إذا كبروا وهم يعلمون أن، في مكان ما خارج عالمهم، يقتل الفقر آلاف الأطفال يوميًا، أو أن خياراتهم العملية قد تقلصت واقتصرت على بيع قوة عملهم واستغلال أرباب الأعمال لهم. إذا لم تكن تلك الأمور هي التي تدور في خلد أطفالك، فمن واجبك البدء في تدريبهم على مناهضة الرأسمالية.
الدرس الأول
تلك هي حقيقة العالم الذي نحيا فيه: تفاوت متزايد، وقمع منهجي، وديمقراطيات مزيفة، وتطلعات بشرية لا تتجاوز حد الاستهلاك.
الدرس الثاني
تتنزع منا الرأسمالية ما ننتجه بقوة عملنا. وبالكاد لدينا ما يمكن أن نسميه “ممتلكاتنا”. فالرأسمالية تقريبًا تصادر كل ما ننتجه بأيدينا وعقولنا. أما ممتلكاتنا تلك فهي أشياء صنعها غيرنا، الذي من المرجح أن يكون عاملٍ في مصنع يقضي ساعات عمله من دون حتى راحة لتناول وجبة. تفصل الرأسمالية بيننا كمنتجين وبين “وسائل الإنتاج” مثل الآلات والمصانع والمكاتب والمواد الخام التي هي مصدر مأكلنا وملبسنا ووسائل ترفيهنا.
الدرس الثالث
الرأسمالية تركز وسائل الإنتاج في أيدي أقلية ضئيلة – الرأسماليين. ووفقًا لأحدث قائمة أصدرتها مجلة فوربس في عام 2013، فإن مجموع ثروات أغنى 400 شخص في الولايات المتحدة الأمريكية تقدّر بنحو 2 تريليون دولار. آدم سميث، أحد أوائل المنظرين الرأسماليين قال ذات مرة: “كلما زاد ثراء البعض، كلما ازدادت معاناة الأغلبية”. ففي مقابل شخص واحد شديد الثراء هناك ما لا يقل عن خمسمائة فقير. وحاليًا يمتلك أغنى 1000 رأسمالي في العالم ثروة تعادل ما يمتلكه حوالي 2,5 مليار فقير.
الدرس الرابع
التنافس يحكم الرأسمالية، وهو طبيعة اقتصاد السوق. فالباعة يتنافسون فيما بينهم، كذلك المشترون، وعلى الناحية الأخرى ينافس الباعة والمشترون بعضهم البعض. لقد خلقت الرأسمالية الأسواق المفتوحة. والأمر لا يتعلق بالاختراعات الجديدة، التي غالبًا ما يستخدمها السوق الرأسمالي بشكل ماكر، بل بما يسمونه الابتكار، أي خلق “احتياجات” جديدة؛ منتجات ووسائل جديدة يمكن بيعها في السوق.
الرأسمالية تخلق “احتياجات” محتملة لا نهائية. على سبيل المثال، يحتاج أبوين جديدين إلى حفاضات، وحليب، ومستحضرات تنظيف، ولعب، ومناشف جميعها صنعت خصيصًا للأطفال، وغير هذا الكثير. هذا يجعلنا نتعجب كيف يا ترى تمكن الأطفال من البقاء على قيد الحياة قبل ظهور الرأسمالية؟
المنافسة كما سبق وأن ذكرنا، هي عصب الرأسمالية، والرأسمالي هو آداتها. والبقاء على القمة يتطلب خفض تكاليف الإنتاج، والتوسع في المبيعات. يتحقق ذلك من خلال اتباع بعض الأساليب القديمة لكبار الرأسماليين: تخفيض أجور العمال، ورفع الأسعار. الأخطر من ذلك أن المنافسة تجبر الشركات الرأسمالية على زيادة إنتاجية العامل، والتوسع في الميكنة، وتطوير أنظمة العمل باستمرار.
وبطبيعة الحال لا يصمد الكثيرون خلال تلك المنافسة. على سبيل المثال، أفلست في أستراليا خلال العام الماضي نحو 9178 شركة، بمتوسط فشل واحدة من كل أربع شركات جديدة في العام الأول للعمل. فالرأسمالية تميل إلى الاحتكار، وتدريجيًا تأكل الشركات الكبيرة الشركات الأصغر، وباستخدام رؤوس الأموال يتوسعوا ويفرضوا سيطرتهم على مساحات أكبر من السوق. وهذا بدوره يؤدي إلى احتكار الأسعار، كما هو الحال مع محلات البقالة في أستراليا، فبسبب الاحتكار الثنائي ارتفعت الأسعار إلى نحو أكثر من 40% مقارنة بالعقد الماضي.
الدرس الخامس
تتطلب المنافسة إدارة مركزية، والمزيد من التدابير الاستبدادية المعادية للديمقراطية. فالشركات الكبيرة في حاجة إلى الدول الكبيرة، وهكذا يتوغل الاستبداد لجميع مناحي الحياة، في أماكن العمل، وفي المدارس، وحتى في أوقات الفراغ، حيث يزداد الترويج لثقافة الخوف، دعمًا لتمرير القوانين التي تحد من المساحات العامة وحرية التعبير. فالرقابة تحل محل العلاقات الاجتماعية والمسؤولية المشتركة.
الدرس الأخير
لا ينبغي أن تسير الأمور على هذا النحو. فالرأسمالية تتغذى على عملنا، بل أنها تعتمد على الغالبية العظمى من سكان العالم لضمان استمرارها. لهذا فإن عمال العالم يمتلكون القدرة الجماعية لتغير الأمور. نمتلك القدرة التعاونية لتنظيم أنفسنا ضد النظام الرأسمالي، والإمكانات الإبداعية لبناء عالم من طراز جديد. نحن منخرطون بشكل يومي في كل ما يتعلق بتشغيل وتنظيم المنتجات والخدمات، لكننا محرومون من اتخاذ القرار بشأن ثمار عملنا.
القضية ليست مجرد تدريب أطفالنا على الحلم بعالم أفضل، بالطبع هذا أمرٌ هام، لكنه غير كافٍ. وكما قالت آن فرانك**: “من الرائع أن نعرف أننا لسنا بحاجة للانتظار، ولو لحظة واحدة، قبل البدء في تحسين العالم”.. إن حياةً مفعمةً بالتمرد الجماعي المنظم البنّاء هي الأجدر بالاختيار لتحفيز أبناءك من أجلها.
هوامش:
* إدواردو جاليانو: من مواليد 3 سبتمبر 1940، باحث وروائي وصحفي من الأوروجواي، تُرجمت أعماله إلى أكثر من عشرين لغة. قضى سنوات عديدة في المنفى لأسباب سياسية. ساند إدواردو العديد من الحركات المناهضة للعولمة. ومن أهم أعماله: “شرايين أمريكا اللاتينية المفتوحة”، و”ذاكرة النار”.
** آن فرانك: من مواليد 12 يونيو 1929، بمدينة فرانكفورت بألمانيا. وعاشت معظم حياتها بالقرب من أمستردام بهولندا، اشتهرت بعد أن نشرت مذكراتها بعد وفاتها والتي وثقت لتجربتها في الاختباء أثناء الاحتلال الألماني لهولندا خلال الحرب العالمية الثانية.
المقال منشور باللغة الإنجليزية في 8 أكتوبر 2013 بموقع جريدة الراية الحمراء الأسترالية