تروتسكي والفاشية
بعد الأهوال والمآسي التي شهدها العالم وعانت منها الإنسانية في الحرب العالمية الثانية بسبب الفاشية والنازية نفاجأ اليوم بظهور جديد للحركات الفاشية في ألمانيا وفرنسا ومعظم أوروبا، بل ونجد الحركات الفاشية تظهر وبقوة في بلاد جديدة مثل الولايات المتحدة الأمريكية والهند.
إن النازية والفاشية إن كانت تمثل خطرا على الثقافة الإنسانية بعدائها للعلم والعقلانية وحرقها لملايين الكتب أثناء سيطرتها في ألمانيا فإنها تمثل خطرا أشد على الحركة العمالية والحركات الاشتراكية والشيوعية، فهي إن كانت تعني اضمحلالا للثقافة فهي تعني فناء كامل للحركة العمالية والاشتراكية حتى أكثر أجنحتها اعتدالا.
فعندما سيطر النازيون على ألمانيا قتلوا الملايين من العمال والمثقفين الشيوعيين والاشتراكيين ودمروا كل منظمات الطبقة العاملة تدميرا كاملا، فألغيت النقابات والأحزاب الاشتراكية والحزب الشيوعي وحتى النوادي الرياضية العمالية ألغيت، كل ما يشير إلى استقلالية الطبقة العاملة قد تم تدميره بعنف بالغ ووحشية رهيبة.
لم يمارس النازيون والفاشيون العنف ضد العمال والاشتراكيين بعد وصولهم للسلطة فقط ولكنهم بنوا قوتهم على تنظيم عصابات لمطاردة وقتل المناضلين الاشتراكيين في المصانع والمناجم وفي كل مكان، إن وصول الفاشية إلى السلطة معناه تشتيت قوى الطبقة العاملة ومطاردة كل من يمت لليسار بصلة وحرق وتدمير كل تراث نضال اليسار والطبقة العاملة عبر التاريخ.
أخطاء الستالينية وصعود الفاشية
إن صعود الفاشية والنازية في أوروبا في الثلاثينات لم يكن قدرا أعمى ولكنه كان نتيجة لأخطاء قاتلة من جانب أكبر حزبين في ألمانيا وهما الحزب الاشتراكي الديمقراطي والحزب الشيوعي. وما يهمنا هنا هو نقد أخطاء الحزب الشيوعي والأممية الثالثة لتوضيح أخطاء الستالينية الكارثية التي كانت تسيطر عليها.
كان الحزب الشيوعي الألماني يعلن أنه لا فرق بين الفاشية والديمقراطية البرجوازية وأن ألمانيا تحت حكم “بروننج” (مستشار ألمانيا اليميني في تلك الفترة) أصبحت فاشية وأن هتلر لن يستطع أن يجعل الوضع أسوأ مما هو عليه في ظل بروننج.
ولا يوجد أوضح من انتقاد تروتسكي لهذه الدعاية حين يقول “إن نظام بروننج هو تمهيد انتقالي وقصير الأمد للكارثة، والحمقى الذين يعلنون أنهم لا يرون أي فرق بين بروننج وهتلر يقولون في الواقع: لا فرق بين أن توجد منظماتنا أو أن يتم تدميرها، هذا اللغو المزيف في ترفه يخفي في الواقع السلبية الأكثر دناءة”.
ولكن بتلك الدعاية كان الحزب الشيوعي يعلن خسارة المعركة حتى قبل أن تبدأ، إنهم يقولون للعمال أن هتلر لن يجعل الوضع أسوأ، كانوا ينزعون سلاحهم المعنوي ضد هتلر، ليس ذلك هو الخطأ الوحيد، فبالنسبة لحزب الطبقة العاملة يعتبر جنونا كاملا طمس الفروق بين الفاشية والديمقراطية البرجوازية، صحيح أنهما شكلان وطريقتان مختلفتان لسيطرة نفس الطبقة الرأسمالية، إلا أن الفرق بينهما له أهمية حاسمة.
فالديمقراطية البرجوازية تعني السماح بوجود منظمات بروليتارية مستقلة وأحزاب سياسية ونقابات، ومن وجهة نظر الماركسية الثورية تشكل منظمات الطبقة العاملة المستقلة في المجتمع الرأسمالي “بذور الديمقراطية البروليتارية داخل الديمقراطية البرجوازية” كما أسماها تروتسكي، إن وجود هذه المنظمات يشكل متاريس ونقاط محصنة يمكن أن ينطلق العمال منها ليقاتلوا مجمل السيطرة البرجوازية أو يتراجعوا نحوها ليدافعوا عن حقوقهم ومكتسباتهم ومصالحهم الخاصة.
أما الفاشية فتعني نهاية كل هذا بالإضافة إلى خفض كبير لمستوى معيشة الطبقة العاملة وإرهاب دموي وتقييد عنيف لكل الحريات، وكان هناك خطأ بشع ساهم في تسوية التربة لنمو الفاشية وهو تبني الحزب الشيوعي الألماني تحت سيطرة الستالينية لمواقف “قومية” فبدلا من الدعوة لثورة بروليتارية اشتراكية.
كان الحزب يتكلم عن “ثورة للشعب” تؤدي إلى تحرر ألمانيا القومي والاجتماعي وتلغي معاهدة فرساي، وعمليا لم تكن هذه الدعاية تختلف كثيرا عن دعاية النازيين بل كانت تقوي المشاعر القومية والشوفينية داخل ألمانيا في وقت كان ضروريا فيه تعطيل المد الصاعد للتعصب الشوفيني والقومي.
بجانب هذه الكتلة من الأخطاء للحزب الشيوعي تحت السيطرة الستالينية كان يوجد تحليل تروتسكي العميق لظاهرة الفاشية ونقده القوي للأخطاء الستالينية، ولكن تروتسكي كان في ذلك الوقت منفياً في جزيرة نائية في تركيا، وكانت كل دول أوروبا مرعوبة من استقبال ذلك الثوري العظيم، وانهالت الدعاية الستالينية التي كانت تملأ العالم واصفة تروتسكي بأنه مشيع للذعر ومغامر ثم بعد ذلك تطورت بذاءاتها إلى حد وصفه بأنه عميل فاشي ومعادي للثورة.
كان سبب أساسي لهذه الدعاية نقد تروتسكي للسيطرة الستالينية على روسيا وعلى الحركة الشيوعية العالمية، كما ساعد الاشتراكيون الإصلاحيون الذين كانوا يكرهون تروتسكي ويخافونه ربما أكثر من الستالينيين على عزل تروتسكي عن القواعد المناضلة للطبقة العاملة والأحزاب اليسارية، لذلك لم تصل مقالات وكراسات تروتسكي حول الفاشية إلى القواعد العمالية اليسارية وكان نتيجة ذلك أن سادت نظريات وممارسات خاطئة لمواجهة الفاشية الأمر الذي أدى في النهاية إلى انتصار هتلر ومذبحة مروعة للطبقة العاملة واليسار في ألمانيا.
تحليل تروتسكي للفاشية
يقدم تروتسكي وصفا محددا وواضحاً لظاهرة الفاشية وكيفية مواجهتها وهو يلخص دورة التطور الفاشي ويوضح مقدمات تشكل سريع لحزب فاشي في عبارات واضحة بقوله “إن الفاشية هي في كل مرة المرحلة الأخيرة لدورة سياسية محددة مؤلفة من المراحل التالية: أكثر أزمات المجتمع الرأسمالي حدة، نمو ثورية الطبقة العاملة ونمو التعاطف تجاهها، ورغبة شديدة في التغيير من جانب البرجوازية الصغيرة الريفية والمدينية، الارتباك الحاد وسط البرجوازية الكبيرة ومناوراتها الجبانة والخيانية الهادفة تجنب الذروة الثورية، وعجز البروليتاريا عن تحويل المجتمع، ثم إنهاك البروليتاريا وارتباكها ولا مبالاتها النامية، تفاقم الأزمة الاجتماعية، يأس البرجوازية الصغيرة واستعدادها للإيمان بالعجائب، واستعدادها لإجراءات عنف، ونمو عدائيتها تجاه البروليتاريا التي خيبت آمالها”.
يوضح تروتسكي الأساس الاقتصادي لنمو الفاشية بأنه “أزمة تراكم رأس المال” أي باستحالة إعادة إنتاج رأس المال الثابت (الآلات والمباني.. إلخ) بسبب المنافسة القائمة في السوق العالمية، وبسبب صعوبة تعديل وضع السوق العالمية تلجأ الطبقة الرأسمالية الحاكمة إلى محاولة تخفيض مستوى معيشة الطبقة العاملة المحلية أي تحاول أن تزيد من نصيبها من فائض القيمة عن طريق تخفيض أجور العمال.
ولكن في المجتمعات الرأسمالية الديمقراطية توجد طبقة عاملة قوية ومنظمة تستطيع الدفاع عن مستوى معيشتها ومكتسباتها بقوة، وأمام وضع كهذا لا تصلح أساليب القمع التقليدية لتدمير قوة الطبقة العاملة فالأمر يحتاج إلى حركة جماهيرية تبدو مستقلة عن الدولة وعن الطبقة الحاكمة، وهذه الحركة لا يمكن أن تنبثق من الطبقة الرأسمالية بسبب انعدام التناسب العددي مع الطبقة العاملة وبسبب جبنها الشديد.
تستغل الطبقة الرأسمالية الحاكمة يأس البرجوازية الصغيرة ونمو عدائيتها للطبقة العاملة وتدعم الحركة الفاشية التي تنظم البرجوازية الصغيرة في عصابات تمارس عنف منظم ضد الطبقة العاملة واليسار من أجل تدمير منظمات العمال المستقلة وتوهين عزم العمال وإرهابهم ومنعهم من مقاومة هجمات الرأسماليين.
في فترة صعود الفاشية، لكن قبل استيلاء الفاشيين على الحكم سينتبه الرأسمالي وبشدة لكل ما يحدث داخل الطبقة العاملة تجاه الخطر الفاشي، إن كل إشارة موحدة قوية داخل الطبقة العاملة وكل تحرك جماهيري نحو الدفاع الذاتي المسلح وكل إشارة لنمو النضالية وللعزم على مواجهة الوحش الفاشي بأي ثمن سيزيد من شكوك الطبقة الرأسمالية تجاه جدوى دعم الفاشيين.
أيضا سيثير رد فعل موحد كهذا من قبل الطبقة العاملة سلسلة من التفاعلات تبدل الجو السياسي بالكامل داخل البلد، ستجعل البرجوازية الصغيرة أكثر تشككا حول الانتصار الفعلي للفاشية وستؤدي بالتالي إلى إضعاف الدعم الجماهيري الذي يحظى به الفاشيون، ليس هذا فقط، ولكن إذا شعرت البرجوازية الصغيرة بجدية الطبقة العاملة وعزمها على إعطاء بديل متماسك للحل الفاشي للمشكلة الاجتماعية ستنجذب قطاعات هامة من البرجوازية الصغيرة إلى تأييد قضية الطبقة العاملة والاشتراكية.
ولكن إذا نجحت الحركة الفاشية في الوصول للسلطة يتم دمج حركتها الجماهيرية في الدولة ويتم بقرطتها ووضعها تحت سيرة الدولة (الجهاز التنفيذي للطبقة الرأسمالية الحاكمة)، وقد وصف تروتسكي وحلل ببراعة تبقرط الفاشية الإيطالية حيث يقول عن موسوليني “بعد استخدامه للقوة الضاربة للبرجوازية الصغيرة، قام بخنقها في ملزمة الدولة البرجوازية، لم يكن يستطيع أن يفعل غير ذلك حيث أن الأوهام التي أشاعها لدى الجماهير بدأت تصبح بشكل متسارع الخطر الأكثر راهنية الماثل أمامه، وما أن تصبح الفاشية بيروقراطية حتى تتماثل بشكل وثيق مع الأشكال الأخرى من الديكتاتورية العسكرية والبوليسية”.
لا تستطيع الفاشية حتى بعد خفض مستوى معيشة الطبقة العاملة بشكل كبير أن تقوم بحل أزمة الرأسمالية بشكل نهائي، فهي مجرد حل مؤقت للأزمة حيث أن عنصر الأزمة الرئيسي يكمن في المنافسة العالمية الحادة. وتحاول الدولة التي أصبحت فاشية أن تحل أزمة رأسماليتها المحلية على حساب الدول الرأسمالية الأخرى، لكنها تكون قد تعلمت لغة العنف والتدمير فتتوجه وحشيتها إلى الدول الأخرى وتبدأ الحرب، ولم تكن الحرب العالمية الثانية سوى نتيجة مباشرة لانتصار الفاشية والنازية من جهة وللأزمة الرأسمالية العالمية من جهة أخرى.
إن الأيديولوجيا الفاشية غير عقلانية ومعادية للعلم ويندهش كثير من المثقفين من بقاء مثل هذه الأفكار والأيديولوجيات المتخلفة في مجتمعات حديثة مثل أوروبا وأمريكا، ولكن مفتاح فهم مثل هذه الأيديولوجيات يكمن في قانون التطور المركب واللامتكافئ الذي وضحه تروتسكي حيث لا تتطابق الأشكال الاجتماعية والاقتصادية مع الأشكال الأيديولوجية والثقافية، حيث بقيت في المجتمع الرأسمالي أفكار وعادات لاعقلانية مترسبة في وعي الجماهير من الأزمنة السابقة للرأسمالية وكما وصف ذلك تروتسكي “يستخدم الملايين من الناس الكهرباء ولكنهم مازالوا يؤمنون بالقوة السحرية للإشارات والتعاويذ، ويذيع بابا روما بواسطة الإذاعة عن تحويل الماء العجيب إلى خمر، والملاحون الجويون الذين يطيرون بماكينات عجيبة ابتدعتها عبقرية الإنسان، يعلقون فوق بذلاتهم الصوفية تمائم لتحفظهم سالمين، يالها من احتياطات تدل على الجهل والظلام والهمجية”.
ويوضح تروتسكي الصلة الوثيقة بين الأيديولوجية الفاشية المتخلفة ووضع البرجوازية الصغيرة في المجتمع “إن البرجوازي الصغير معاد لفكرة التطور، لأن التطور يسير ضده بشكل ثابت، فالتقدم لم يقدم له شيئا سوى ديون لا تنتهي والاشتراكية الوطنية (النازية) لا ترفض فقط الماركسية بل والداروينية أيضا، ويلعن النازيون المادية لأن انتصارات التكنولوجيا على الطبيعة تعني ضمنا انتصار الرأسمال الكبير على الرأسمال الصغير ويقوم زعماء الحركة بتصفية المذهب العقلي ليس لأنهم يمتلكون فكر درجة ثانية وثالثة بقدر ما لأن دورهم التاريخي لا يسمح لهم بالوصول بأي فكرة إلى نتيجتها، فالبرجوازي الصغير سيلجأ كملاذ أخير إلى أساطير تقف فوق المادة وفوق التاريخ محمية من المنافسة والتضخم والأزمة ومنصة المزاد العلني”.
الجبهة المتحدة والجبهة الشعبية
هناك شرطان أساسيان لنجاح الطبقة العاملة في مواجهة الخطر الفاشي هما الوحدة والاستقلالية، وقد طرح تروتسكي سياسة الجبهة المتحدة للأحزاب والمنظمات العمالية، جبهة عمالية يسارية من القاعدة إلى القمة، إن الفاشية تمثل خطراً شديداً وتهديداً على أكثر الأحزاب الاشتراكية اعتدالا وانتصار الفاشية يعني تدمير كل المنظمات والنقابات العمالية هذا هو أساس سياسة الجبهة المتحدة وهذه السياسة لا تعني وحدة برنامج، وإنما يحتفظ كل حزب أو منظمة ببرنامجه وشعاراته وتكون الوحدة في العمل فقط أو كما يقول تروتسكي “نسير على حدة ونضرب معا”.
رفض الحزب الشيوعي الألماني الستاليني والاشتراكيين الديمقراطيين الاستماع لنصائح تروتسكي واستمروا يهاجمون بعضهم بعضا واستمرت الطبقة العاملة الألمانية مفتتة في مواجهة هتلر والنازية مما أدى في النهاية إلى هزيمتها. وبعد هذه الهزيمة تحول الستالينيون إلى اليمين بسرعة ودعوا في فرنسا وأسبانيا حيث كان الخطر الفاشي ماثلا إلى وحدة ولكن ليس فقط بين الأحزاب العمالية ولكن إلى وحدة بين الأحزاب العمالية والبرجوازية على برنامج موحد وهو ما عرف تاريخيا بسياسة الجبهة الشعبية، وتضحي هذه السياسة بأهم مقومات النضال العمالي وهو الاستقلالية وتنسى أو تتجاهل هذه السياسة أن الفاشية هي تعبير عن أزمة البرجوازية، ولذلك فإن دخول الأحزاب البرجوازية في جبهة ضد الفاشية سيعني هزيمة هذه الجبهة وانهيارها وهذا ما حدث فعلاً في فرنسا وأسبانيا وشيلي.