الإمبريالية والثورة الدائمة
الاحتلال الأمريكي للعراق، كمؤشر على عودة الاستعمار القديم، يضع قضية التحرر الوطني على قمة جدول أعمال الاشتراكيين. والمعارك القادمة ستعيد طرح العلاقة بين النضال من أجل التحرر الوطني والنضال من أجل التحرر الاشتراكى بكل حدتها مجددًا. ولذا لن يكون مستبعدًا أن نشهد انبعاثًا للأوهام البرجوازية الوطنية التي تحطمت على صخرتها ثورات عديدة في منطقتنا وفي العالم الثالث.
أفضل سبيل لمواجهة هذا الخطر هو استعادة التراث الماركسي والبناء عليه. وفي هذا السياق ربما لا يلحظ كثيرون أن نظرية “الثورة الدائمة” التي طورها القائد الثوري الروسي ليون تروتسكي في مطلع القرن الفائت تقدم حلًا للعلاقة الإشكالية بين النضال الوطني والنضال الطبقي.
يبدأ تروتسكي طرحه بالتأكيد على عالمية الرأسمالية. فلقد استطاعت الرأسمالية أن تخلق سوقًا عالميًا جبارًا لا يمكن فهم وحداته إلا كأجزاء من كل واحد. المفارقة أن هذه الطبيعة العالمية للسوق لم تقض أبدًا، بل أنها عززت، التفاوت بين الوحدات القومية المختلفة. فمثلًا فى مطلع القرن العشرين كانت الصورة كاﻵتي: إلى جانب بريطانيا وفرنسا المتقدمتان، كنا نجد اﻹمبراطوريتان الروسية والمجرية – النمساوية اللتان لم تتخلصا بعد من أغلال الإقطاع، وإلى جانب الولايات المتحدة الصاعدة كالصاروخ، كنا نجد المكسيك وبيرو اللتان لم تمسهما يد الحداثة إلا قليلًا.
إذن فلقد عمقت الرأسمالية التفاوت بين البلدان المختلفة، بل وفي داخل كل بلد على حدة. وهذا ما أسماه تروتسكي بالتطور المركب واللامتساو مؤكدًا أنه قانون عام لا يمكن أن يفلت منه العالم في ظل الرأسمالية. على أن المهم بالنسبة لنا أن تروتسكي استخلص من هذا القانون نتائج سياسية مركزية. إذ رأى أن التطور الرأسمالي في الدول التي لم تمسها يد التحديث إلا فى مراحل متأخرة له خصوصية. فتطور تلك الدول لم يتم في فراغ ولكن على خلفية الوجود الفعلي لقوى رأسمالية سبقتها وحققت مواقع مسيطرة على السوق العالمي. الدول المتأخرة تحولت إلى الرأسمالية تحت ضغط المحيط الخارجي، وكان أمامها احد اختيارين: إما أن تحاكي ما وصلت اليه القوى الكبرى، وإما أن تتحطم على صخرة الصراع ضد من هم أكثر حداثة.
من هنا فقد لعب جهاز الدولة قبل الرأسمالي فى الدول المتأخرة دورًا جوهريًا في دفع التطور الرأسمالي. في الإمبراطورية الروسية مثلًا ساهمت الأوتوقراطية الحاكمة في تشجيع التطور الرأسمالي لتوفر قاعدة صناعية وعسكرية لها بخوض الصراع الدولى الضارى. شىء مشابة حدث في حالة الإمبراطورية العثمانية، ولكن بنتائج مختلفة. وفي كل الأحوال كانت المفارقة أن الطبقة الحاكمة أرادت التحديث المادي وقاومت نتائجه السياسية والاجتماعية؛ أرادت المدافع الحديثة وكرهت الديمقراطية.
ولكن الحقيقة أن قوى التحديث تسربت في تلك المجتمعات رغم أنف طبقاتها الحاكمة فالدول المتأخرة لم تبدأ مسيرة التحديث من الصفر. إذ أنها باقتباسها ﻵخر ما وصل إليه التقدم الرأسمالي، أسهمت في خلق حفاري قبورها – الطبقة العاملة الحديثة. وهكذا فمن خلال التحالف بين الرأسماليين المحليين والرأسمالية العالمية، تم زرع آلاف المصانع في تربة الجهل والتأخر. وبسبب هذه العملية التي تمت بفضل الصلة الوثيقة بين البرجوازيات المحلية والمراكز المتقدمة للرأسمالية، تبلورت طبقات عاملة فتية في العديد من البلدان.
من وجهة نظر تروتسكي، كانت الصلة العضوية بين البرجوازيات المحلية والرأسمالية العالمية سبب الضعف السياسي لبرجوازيات البلدان المتأخرة. وحدة المصالح مع اﻹمبريالية، جنبًا إلى جنب مع الذعر المتنامي من قوة الطبقة العاملة، دفعا البرجوازيات المحلية إلى أحضان الرجعية. وبدلًا من أن تلعب تلك البرجوازيات الدور الثوري الكلاسيكي على غرار نموذج الثورة الفرنسية، تحولت إلى رصيد للثورة المضادة. والنتيجة كانت تغير نوعي في الخريطة الإستراتيجية للنضال الثوري. فقبل أن تواجه البرجوازية الإقطاع، وجدت نفسها منغمسة معه في مساومات رخيصة!
فمن إذن الذي يحمل لواء الثورة؟ من يستطيع تصفية بقايا الاقطاع؟ من يعطي الارض لمن يفلحها؟ ومن يناضل من أجل الديقراطية ويواجه الهيمنة الاستعمارية؟ إجابة تروتسكي كانت واضحة: مهام الثورة البرجوازية لن يستطيع إتمامها إلا الطبقة العاملة. وسوف يستتبع هذا أن تكسر تلك الطبقة، في غمار عنفوانها الثورى، الحاجز الوهمي بين مهام البرجوازية للثورة وبين مهامها الاشتراكية. ستنطلق الطبقة العاملة من مواجهة الاستعمار إلى مواجهة رأس المال، ومن حل إشكالية الديمقراطية البرجوازية إلى خلق جنين الديمقراطية العمالية. ولن تتحق تلك الأهداف أبدًا إلا فى سياق انتشار الثورة لدحر الرأسمالية على المستوى العالمي.
هذه هى خلاصة نظرية تروتسكي. وكما يمكننا أن نرى، فإنها قادرة على تقديم إجابة شافية لأهم سؤالين يواجهانا اليوم: لماذا لم تقاوم البرجوازية عودة الاستعمار؟ ومن يمكنه تحمل هذه المسؤلية؟
فلننظر في السؤال الأول. العالم تغير منذ أن صاغ تروتسكي نظريته. ولكن التغير يجعل نظريته أكثر صحة. فاليوم برجوازيات المستعمرات القديمة، التي قادت في السابق حركات جماهرية، أصبحت فى السلطة. القوى البرجوازية الرئيسية – التي كانت مترددة وخائفة ثم ارتمت في احضان الاستعمار – حسمت موقفها وأصبحت هى في السلطة تقف في خندق الإمبريالية. البرجوازية أصبحت غير قادرة إلا على التواطؤ والخيانة، ليس بسبب أخلاقي، ولكن ﻷن وضعها على رأس السلطة، وعلاقتها بالسوق العالمي، يحتمان عليها الاصطدام بالجماهير والسعي، بالرغم من المناوشات، للالتحام بالإمبريالية. والانهيار الهزلي لنظام صدام يلخص الموقف برمته.
هذا يدفعنا لطرح السؤال الثاني: من يواجه الاستعمار؟ إجابة تروتسكي أصبحت أكثر إلحاحًا من أى وقت مضى. الجماهير العاملة هى المؤهلة لقيادة المعركة القادمة. ليس فقط لأن البرجوازية تخلصت من ترددها وأصبحت العدو الأول بعد وصولها للسلطة، ولكن ﻷن كل القوى الطبقية الوسيطة تفتقد للتماسك والحسم اللذان تتمتع بهما الطبقة العاملة. من هنا فإن استراتيجية مواجهة الاستعمار الجديد لابد وأن ترتكز على دفع الجماهير العاملة، بأوسع معنى للكلمة، إلى مقدمة المعركة. وساعتها لن تكتف الجماهير بالكفاح المسلح ضد الاستعمار البغيض، ولكنها ستندفع إلى مواجهة أنظمة القمع والاستغلال المتحالفة معه.