عرض كتاب
«كل رجال الباشا».. السلطة والجيش والحداثة
تستعرض أطروحة خالد فهمي في هذا الكتاب تكوين السلطة الحديثة في مصر، وبشكل خاص المؤسسة العسكرية التي أقامها محمد علي.
يتبنى خالد فهمي عدة اتجاهات نظرية في كتابه، أهمها مفهوم ميتشل فوكو عن ما يسمى بـ (السلطة الانضباطية الحديثة) وتحكم السلطة في الجسد، مع توجيه النقد لفوكو في رؤيته حول تماسك السلطة وحتمية أشكالها.
المكون النظري الثاني للأطروحة هي تصورات ميتشل عن الحداثة في مصر، ونقد مفهوم (التأطير) الذي يتبناه ميتشل.
المنطلق النظري الثالث للكتاب هو كتابات مدرسة (دراسات التابع الهندية) التي تحاول تقديم تحليل مختلف للحداثة عن التحليل الأوروبي، والبعد عن المركزية الأوروبية في تقديم الحداثة.
يعتمد خالد فهمي على الوثائق الحكومية في عصر محمد علي، وعلى كتيبات التدريب وكشوف التمام العسكرية محاولا الوصول إلى ما كان يشعر به الفلاحون أثناء تجنيدهم والبحث وراء وسائل مقاومتهم للسلطة ولفكرة التجنيد ورفضهم لها، ويستعرض أساليب تلك المقاومة تباعا في الفصول، كما يصور خالد فهمي الحياة اليومية للفلاحين في الجيش وكيفية إخضاع أجسادهم وعقولهم للسلطة.
ويعتمد خالد فهمي في كتابه – على خلاف مدرسة التأريخ المصرية التقليدية – على التأريخ من وجهة نظر الجماهير، ويرصد وجهة النظر تلك عن طريق الوثائق التي توضح إلى حد كبير كيف كان يتعامل الخاضعين للمؤسسة، كما يضع التاريخ المصري في هذه الفترة داخل إطار الإمبراطورية العثمانية باعتبارها إحدى ولاياتها المهمة، وليست دولة مستقلة للباشا، ويرصد اضطراب علاقة الباشا بمركز السلطة العثمانية في اسطنبول، وعدم سعيه للاستقلال بمصر ككيان مستقل منذ البداية وابتهاجه الشديد بفرمان الولاية 1841.
في الفصل الأول يستعرض الكاتب الأسباب وراء حملات محمد علي باشا العسكرية، مع التركيز على حملة سوريا. فكل الحملات قبل تلك الحملة كانت للتخلص من المماليك أو كانت بطلب من السلطان مثل حملة الحجاز، أما غزو سوريا فكان رغبة قديمة للباشا وكان يطمع أن يعطيه السلطان ولاية سوريا مكافأة على خدماته.
هذه التوسعات لم تكن بغرض الاستقلال كما يوحي تسلسلها الزمني، بل على العكس لم تكن مرتبطة بعضها ببعض، ولم تكن بتنظيم من جيش نظامي موحد.
انتهت حملة الشام بعقد صلح كوتاهية الذي لم تتضمن مفاوضاته مطالب الاستقلال، بل كان هذا طلب خاص من إبراهيم باشا لأبيه وقتها، وكانت نتائج الصلح هي منح الباشا مصر والحجاز وكريت، ومنح إبراهيم باشا عكا ودمشق وطرابلس وحلب، وهو ما لم يكن مرضيا للغزاة، إلا أن تذبذب الباشا تجاه السلطان وسيطرة الميل العثماني عليه ساهم في الوصول لتلك النتائج.
في الفصلين الثاني والثالث يتناول الكتاب أسباب لجوء الباشا إلى تجنيد الفلاحين المصريين بعد فشل حملة السودان وموت العبيد السودانيين وعدم جاهزيتهم للخدمة العسكرية. لم تكن الفكرة في بدايتها بمثابة تجنيدا عاما، لكنها اقتصرت على تجنيد أربعة آلاف رجل لمدة 3 سنوات لاستبدالهم بالضباط الأتراك لجلب العبيد من السودان.
تغيرت طبيعة الدولة المصرية بسبب نظام التجنيد، فتحولت من آلة للقوة فقط إلى جهاز بيروقراطي يفرض المراقبة والنظام والانضباط بهدف التحكم. كانت فكرة (التذكرة) لكل قروي التي تحمل اسمه وصفاته، إحدى وسائل السيطرة على الفلاحين و(دفترة) الواقع بحيث يكون الناس موجودين في المكان الذي يشغلونه وليس بيئتهم الطبيعية.
قاوم الفلاحون التجنيد مقاومة شديدة فلم يستجيبوا للفقهاء الذين نشرهم الباشا لترغيبهم في التجنيد بمبررات دينية، وتعددت أساليب مقاومتهم من الهجرة الجماعية إلى تشويه النفس بالعمى أو كسر بعض الأعضاء ليصبحوا غير قادرين على الالتحاق بالجيش.
في عام 1844 ظهر قانون ينظم البنية البيروقراطية ينص على الاهتمام بكتابة الدفاتر بشكل نظيف ومرتب ليعبر عن عقلانية السلطة الحديثة، وأصبح الجيش بحلول منتصف الثلاثينيات يمثل 2.6 % من التعداد.
وحاولت السلطة الفصل التام بين الحياة المدنية والعسكرية بإنشاء نظام للاعتقال داخل الثكنات بعيدا عن المدن، وأصبح الزمن هو حصة محددة للقيام بالأفعال كنتيجة لتقنيات الانضباط كالمراقبة الصارمة وكشوف الجرد والتمام والسيطرة على خطوات الجنود وتحركاتهم. وصارت السلطة تخلق العلوم للاستفادة بها للحصول على أجسام سليمة، مثل إقامة نظام الحجر الصحي وعزل المدن، و يظهر ذلك في القانون الذي يضبط (اللواط) بمعاقبة كل من يمارسه ستة أشهر.
يظهر هنا بجلاء أن كتيبات التدريب لا تبين رؤية الجنود عن الواقع الذي يعيشونه، بل تعبر عن أماني السلطة، فينتقد فهمي مفهوم التأطير عن ميتشل الذي يجمع بين رؤية فوكو عن السلطة الميكروفيزيائية ورؤية دريدا عن الجانب الميتافيزيقي للسلطة. ينقده لأنه يدعي تمكن السلطة التام وتملكها أدوات حل المشكلات، ولأنه يحمل تناقض في الذات الخاضعة لتلك السلطة والتي تملك في نفس الوقت الحدس الذي يمكنها من كشف ذلك، بل ويشكك الكاتب في نظرة الفلاحين للواقع كـ(مؤطر).
في الفصل الرابع يُكشَف عن التناقض بين تفاعل الجنود في المعارك ورؤية الضباط في كتيبات التدريب، فيصور الرهبة والاضطراب في معركة (قونية)، كما ينقد مدرسة التأريخ الأدبي للمعارك وتصوريها على أنها خطوات محفوظة بذكر واقعة هروب لواء الفرسان الأول بالكامل من المعركة، وصدور قرار المحكمة العسكرية بحكم هزيل على أحمد بك الإسطنبولي بتخفيض رتبته على الرغم من وجوب إعدامه.
كما يخوض هذا الفصل في النصوص البيروقراطية لبيان الصعوبات في الإمدادات بالطعام والكساء وسوء تخزين المؤن، وعدم وجود عدد كاف من الموظفين المتعلمين مما أدى إلى عدم كفاءة الجهاز الإداري للباشا ومن ثم قبوله بانتهاك القواعد التي وضعها بنفسه وصمته على فساد الموظفيين لحاجته اليهم، وتعكس تلك الصور الصورة المكتملة من السلطة عن الانضباط والتكامل، واعتماد المؤسسة العسكرية على السلطة الحديثة بشكل عال في الإعداد وإمدادها بما تحتاجه.
كان تكوين الجيش مضطربا باعتماد الباشا على قادة الجيش من عائلته، ثم مماليكه ثم رجال العالم العثماني المتعددين، ثم تناقض النصوص كانعكاس للسياق الاجتماعي مثل عدم تطابق النسخة العربية مع التركية من قانون (الداخلية) لعدم وجود الترقيات العليا في النسخة العربية.
في الفصلين الخامس والسادس يُرجع الكتاب سبب استمرار الجنود في القتال بنجاح إلى سنوات التدريب المتصلة، ولكن لا يوجد تفسير كامل لذلك، حصار الجنود بين الرغبة في الهرب من ناحية والالتزام بالأوامر من ناحية أخرى كان يؤدي بهم في النهاية إلى طاعة الأوامر ليتمكنوا من الشعور بأمان.
الحياة اليومية في المعسكرات تكشف لنا الهوة الضخمة بين تصورات السلطة عن الانضباط وما كان يفعله الفلاحون في الواقع، فمثلا لم تتمكن السلطة من السيطرة الكاملة على أجساد الجنود، ففشلت في القضاء على مرضيّ الجرب والزهري على الرغم من الفحوص الطبية الدقيقة التي كانت تنفذ بشكل مهين، وأيضا لم تتمكن من التحكم في حياة الجنود الجنسية بإبعادهم عن الحياة العادية، ورضخت في النهاية لوجود زوجاتهم معهم. ولم يكن الوازع الديني هو ما يحرك الباشا في إلغاء الدعارة والتضييق على الحانات، ولكن للتمكن من ضبط أجساد الجنود ومنع اتصالهم بالمومسات.
وأخيرا يطرح فهمي مسألة وطنية الجيش، فجيش الباشا كان بناؤه قبل الثورة البرجوازية على عكس جيش نابليون على سبيل المثال، كما أن الضباط لم يكونوا مصريين من الأساس، بالإضافة الى أن جيش الباشا كان يحمل طابعا أسريا، فتلك كانت حروبه الخاصة، لذلك لم يكن الجيش المصري بمثابة جيش وطني كلاسيكي بل كان أول شعور وطني يلوح في الأفق مع الثورة العرابية بسبب مساهمة الجيش بدون قصد في خلق شعور وطني كنتيجة لتجربة جماعية للمصريين.
لمن يكن الانضمام للجيش مصدرا للفخر لدى الجنود بل كان مذكرا أبديا للظلم في جيش الباشا قاومه الفلاحون بشتى الطرق، بدءا من تشويه النفس والهجرة الجماعية وانتهاء بالامتناع عن الإنجاب.
لم يختلف إبراهيم باشا عن أبيه سوى في معاملته الأفضل نسبيا للفلاحين، ولكن كان ولاؤه واضحا للباشا وللنخبة التركية.
في الفصل الأخير يحلل الكاتب علاقة الباشا بالسلطان بوضعه داخل إطاره العثماني باعتباره واليا عثمانيا على ولاية مهمة من ولايات السلطان، ويجادل بأن حروب الباشا ضد السلطان كانت لمحاولة لفرض أفكاره بالقوة لإصلاح الدولة العثمانية من الداخل وسط الصراع بين البيوتات العثمانية.
لم يطلب الباشا الاستقلال منذ البداية، وعندما طلب ذلك كان من أجل مجده وأسرته وليس من أجل استقلال مصر القومي، وكانت معارضة بريطانيا له وتدخلها ضده ليس لمحاربتها للدولة القومية المصرية الناشئة، ولكن بسبب تهديد الباشا لمستعمرة إنجلترا الأكبر والأهم (الهند)، بإضعافه للدولة العثمانية وفتح الباب للتدخل الروسي في الهند.
لم ترتقِ الصناعة المصرية يوما في عهد الباشا إلى مستوى المنافسة مع نظيرتها الإنجليزية، وكان التبادل التجاري بين مصر وإنجلترا على مستوى عالٍ، ولكن كان تهديد مصالح إنجترا في الهند هو السبب في إرغام الباشا على القبول بمعاهدة (بالطا ليمان) بفرمان 1841، ومنحه ولاية مصر فقط له ولأولاده، وهو ما كان مرضيا تماما للباشا، مما يؤكد عدم وجود فكرة الاستقلال كمطلب قومي لديه.