الماركسية والثورة في مصر (الجزء 1 من 4)

كُتِبَ عن ثورة 2011 مئات الكتب وربما آلاف المقالات، سواء في شكل أكاديمي أو سياسي أو صحفي. ولكن الدراسات التي تحاول وضع ثورة يناير في سياق تاريخ مصر والمنطقة، خاصةً علاقتها بالحقب الثورية السابقة من منظور يساري أو ماركسي ليست بهذه الكثرة. سنتناول في هذه الدراسة ثلاث من تلك المحاولات وهي: كتاب “ثورات بلا ثوار” للأكاديمي الإيراني آصف بيات، وكتاب “الهيمنة وتبعاتها – جرامشي وفانون والثورة في مصر” للأكاديمية المصرية سارة سالم، وكتاب “الصحوة العربية الجديدة” للمفكر الماركسي الراحل سمير أمين.
والهدف من التناول النقدي لهذه الأعمال هو البدء في محاولة تحليل ثورة 2011 في علاقتها بتاريخ الثورات الكبرى السابقة عالميًا، سواء الناجحة منها أو الفاشلة من جانب، ومكانها في التاريخ المصري الحديث، خاصةً منذ “ثورة” 1952.
آصف بيات والعصر الذهبي لثورات العالم الثالث
يطرح بيات في كتابه أسئلةً في غاية الأهمية وهي: لماذا افتقدت الثورات العربية في 2011 للمطالب السياسية والاقتصادية الراديكالية التي تميَّزت بها ثورات ستينيات وسبعينيات القرن الماضي؟ ولماذا لم تنشأ حركات ثورية تطرح مسألة الاستيلاء على السلطة بدلًا من مجرد مطالبة السلطات الموجودة بالرضوخ لمطالب الشوارع والميادين؟ لماذا هذا التباين الشديد بين طبيعة ثورات 2011 وثورات العالم الثالث السابقة مثل الثورة الكوبية في 1959 وثورات إيران ونيكاراجوا في 1979 على سبيل المثال؟ لماذا لم تطرح ثورات 2011 أيَّ رؤى راديكالية حول إعادة توزيع الثروة أو تغيُّر علاقات الملكية أو التأميم، وبدلًا من ذلك تركزت المطالب على حقوق الإنسان والفساد والانتخابات النزيهة والإصلاحات القانونية؟
يقارن بيات هذا الوضع بالحالة الثورية في النصف الثاني من القرن الماضي حيث هيمنت مدارس فكرية راديكالية (رغم تنوُّعها) على الحركات الثورية في تلك الحقبة. ويحدد بيات ثلاث مدارس فكرية رئيسية كان لها نفوذ كبير في أوساط مثقفي وقادة تلك الحركات وهي: “التحرر الوطني” و”الماركسية اللينينية” و”الإسلام الراديكالي”. تأثَّرَت تلك المدارس بالفكر الثوري الماركسي أو نشأت كرد فعل لذلك التراث، طبقًا لبيات. بل أن كثير من الحركات الثورية قامت بالمزج بين أفكار تلك المدارس وبين التراث التحرري المحلي وبين المفاهيم الماركسية حول الثورة.
يقدم بيات نظريات المفكر الإيراني الراحل علي شريعتي كمثال:
“طرح شريعتي أن الطبقة الوحيدة القادرة على قيادة حقيقية للثورة في العالم الثالث وخاصة في البلدان المسلمة هي طبقة المثقفين من طلاب وخريجي الجامعات والدوائر الثقافية وليس الطبقة العاملة” (بيات، 30).
يضع بيات محاولات شريعتي في سياق أوسع من التيارات الثورية في العالم الثالث في تلك الحقبة “الذهبية”:
“كانت تجربة شريعتي تمثل اتجاهًا شائعًا في أوساط العديد من المثقفين الراديكاليين المعادين للاستعمار في العالم النامي، مثل فرانز فانون وأيمي سيريز وكواما نكروما وجومو كنياتا وأحمد بن بلا، هؤلاء وآخرون طرحوا مشاريع سياسية واقتصادية بديلة قائمة على رفض عميق للرأسمالية مع التركيز على استخدام الموارد والقيم والمؤسسات المحلية. وقد مزجوا بين مبادئ الجماعية والمساواة الماركسية وبين تراث القيم الثورية المحلية لشق طريق ثالث للتنمية” (بيات، 35).
يطرح بيات أن الاستعمار الرأسمالي فجَّر غضبًا ثوريًا تجاه الهيمنة الاستعمارية ودفع في اتجاه تبني أفكار معادية للرأسمالية. وهذا هو ما شكَّل التكوين الفكري للمثقفين الثوريين في العالم الثالث.
نعود لسؤال بيات: ماذا حدث لذلك التراث الثوري؟ لماذا حلَّت محل ذلك التراث أفكارٌ إصلاحية وليبرالية أو حالةٌ من الخواء الأيديولوجي العام؟
يرتكز تفسير الكاتب لهذا التغير على محورين: المحور الأول هو تأثير انهيار الكتلة الشرقية والاتحاد السوفيتي وتراجع الأفكار الاشتراكية وهيمنة الليبرالية الغربية على مخيلة هؤلاء المثقفين والناشطين السياسيين. والمحور الثاني هو تأثير ثلاث عقود من السياسات الليبرالية الجديدة على المجال الأيديولوجي بشكل عام وعلى فقدان المثقفين بشكل خاص على رؤى أو برامج بديلة.
لا يطرح بيات فقط أن ثورات 2011 افتقدت أي برنامج أو مشروع للتغير الجذري على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي لدى من قاد تلك الثورات، بل أن هذا النقص كان أحد الأسباب الرئيسية لهزيمة تلك الثورات.
يضع بيات يده على حقيقة في غاية الأهمية وهي استحالة فهم “ثورات” 2011 بدون وضعها في سياقها التاريخي. هذا السياق التاريخي قد شهد تغيراتٍ نوعية بالفعل في العقود الثلاث السابقة. فقد ذكرنا على سبيل المثال انتهاء الحرب الباردة بانتصار الرأسمالية الغربية وتأثير عقود الليبرالية الجديدة وهيمنة فكرة أنه لا يوجد بديل آخر لنموذج الرأسمالية الغربية.
بمعنى آخر؛ ما يؤكِّده بيات أن ثورات 2011 حدثت في ظروف سياسية واقتصادية وأيديولوجية مختلفة نوعيًا عمَّا كان عليه الوضع في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وأن عالم 2011، أي عالم ما بعد انهيار الكتلة الشرقية وعقود الليبرالية الجديدة، هو عالم تبدو فيه فكرة الثورة بمعناها الجذري غير مطروحة في الأفق، على الأقل في أوساط مثقفي وناشطي العالم الثالث المعاصر.
لا يقلِّل بيات من شأن ثورة يناير 2011، فعلى المستوى الجماهيري مثلت تلك الثورة لحظةً غير مسبوقة من المقاومة والتضامن والعمل الجماعي المبدع. بل أن هذا في حدِّ ذاته ما جعل غياب الأفق والخيال الثوري لدى الشباب، الذي طرح نفسه لقيادة تلك الجماهير، نوعًا من المفارقة المأساوية.
ولكن رغم ملاحظاته المهمة حول أوجه الضعف الأيديولوجي لثورات 2011، هناك عددٌ من الإشكاليات في المنهج والتحليل الذي يطرحه بيات: أولًا، هناك خلطٌ بين “الثورية” المرتبطة بالتحرر الوطني والمراحل الأولى من بناء دول ما بعد الاستعمار وبين “الثورية” في حالة الثورة ضد دولة ما بعد الاستعمار.
لم تكن ثورات مرحلة التحرر الوطني في القرن العشرين ضد رأس المال، بل على النقيض من ذلك كانت جزءًا من تحوُّل تلك البلدان الى مراكز للتراكم الرأسمالي. ولو أخذنا الحالة المصرية كنموذج، فسنجد أن مطالب وشعارات الحركات الثورية في الفترة السابقة لانقلاب 1952 مثل الاستقلال الوطني والقضاء على طبقة كبار ملاك الأرض وإلغاء الملكية وإنشاء جمهورية ديمقراطية تقود فيها الدولة عملية التصنيع والتنمية المستقلة، هي كلها مطالب وشعارات لا علاقة لها بالثورة الاشتراكية، بل أنها في صميم مشروع الثورة البرجوازية، فالملكية والاستعمار البريطاني وهيمنة طبقة كبار ملاك الأرض كانت العقبات الرئيسية أمام التراكم الرأسمالي والتصنيع في مصر. وفي واقع الأمر، كان اليسار الستاليني في تلك الحقبة شديد الوضوح حول هذه المسألة، فالثورة المطروحة حينذاك كانت الثورة “الوطنية الديمقراطية” التي يجب أن تسبق أي حديث عن ثورة اشتراكية. أما اليسار الثوري، المتبني لأفكار ليون تروتسكي، فكان يطرح أنه في حالة عدم قدرة البرجوازيات المحلية على قيادة تلك العملية (لارتباط مصالحها بمصالح كبار ملاك الأرض والرأسمالية الأجنبية)، وفي حالة وجود طبقة عاملة صناعية وحركة عمالية نشطة وحزب ماركسي ثوري، في تلك الحالة فقط يمكن للطبقة العاملة قيادة تلك الثورة الوطنية الديمقراطية وبالتالي تحويلها مباشرة إلى ثورة اشتراكية (نظرية الثورة الدائمة) (سيتم تناول هذه النظرية بالمزيد من التفصيل في جزءٍ لاحق من هذا المقال).
ولكن ما حدث تاريخيًا في الحالة المصرية مختلف عن تلك التوقعات النظرية. فبالفعل ظلَّت البرجوازية المصرية (ممثلة في حزب الوفد) مشلولة وخائفة وغير قادرة على حسم المعركة مع الاستعمار والملكية وكبار ملاك الأرض، ولكن الطبقة العاملة والأحزاب اليسارية المرتبطة بها لم تكن هي أيضًا قادرة على حسم الصراع والتدخل لقيادة الثورة وتحويلها إلى ثورة اشتراكية (كما حدث في روسيا 1917). وما حدث بالفعل هو ما نعرفه جميعًا من انقلاب 1952 وما أعقبه من تحوُّلات. ولكن ما هي تلك التحولات التي قادها عبد الناصر خلال الخمسينيات والستينيات؟ ألم تكن حل معضلات التراكم الرأسمالي (الإصلاح الزراعي، الاستقلال، التصنيع بقيادة الدولة، قمع الطبقة العاملة؟ أليست هذه مهام الثورة البرجوازية حتى وإن تبنت شعارات يسارية (الاشتراكية العربية، إلخ)؟
ربما كان الماركسي المصري الوحيد الذي كان لديه البصيرة لفهم هذه العملية في تلك الفترة هو المفكر الماركسي الراحل إبراهيم فتحي، إذ اعتبر المرحلة الناصرية الحلقة الثانية من الثورة البرجوازية المصرية (ثورة 1919 وما تلاها هي الحلقة الأولى) وأن المشروع التنموي الناصري لا علاقة له من قريب أو بعيد بالاشتراكية، بينما هو شكلٌ من أشكال رأسمالية الدولة، بل تنبَّأ إبراهيم فتحي بأن ذلك المشروع كان يمهِّد لعودة الرأسمالية الخاصة وعودة النظام لأحضان الإمبريالية!
الشعارات والمطالب التي يتحدث عنها آصف بيات هي بالفعل شعارات ومطالب ثورية، ولكنها جزءٌ من مشروع التحرر الوطني والدولة التنموية التي تقود عملية التراكم الرأسمالي بهدف اللحاق بالدول الرأسمالية المتقدمة. ذلك المشروع كان يعبر عن استكمال تحوُّل تلك البلدان إلى مراكز للتراكم الرأسمالي الناجح، أي مشروع الثورة البرجوازية.
سارة سالم والحنين للناصرية
تقدم سارة سالم في كتابها “الهيمنة وتبعاتها” دفاعًا متقِدًا عن المشروع الناصري يذكِّرنا بكتابات اليسار الستاليني في الستينيات حول الطريق اللارأسمالي للتنمية وطبيعة نظام عبد الناصر “التقدمية”.
تطرح الكاتبة هذا الدفاع في إطار محاولة لفهم الخلفية التاريخية لثورة 2011. وهي تفعل ذلك مستخدمةً بعض المفاهيم المستعارة من كتابات أنطونيو جرامشي، مثل “الهيمنة” و”الكتلة التاريخية” وبعض أفكار فرانز فانون حول “البرجوازية التابعة”.
تشكَّل المشروع الناصري، طبقًا للكاتبة، على خلفية الحركات الراديكالية المصرية المناهضة للاستعمار البريطاني في أربعينيات القرن الماضي، أي أن المشروع الناصري كان بمعنى من المعاني تجسيدًا لآمال تلك الحركات في التحرر من الاستعمار والتنمية المستقلة. ولكن الكاتبة لا تقف عند هذا الحد، بل تزعم، في قفزهٍ نظريةٍ معتبرة، أن المشروع الناصري كان المثال الوحيد للهيمنة والكتلة التاريخية بمعناها عند أنطونيو جرامشي.
اعتبرت الكاتبة أن المشاريع التنموية الضخمة التي دشَّنها عبد الناصر، كالسد العالي والصناعة الثقيلة، كانت تحاكي آمال الجماهير المصرية بشكلٍ مباشر و تعبِّر بحق عن أحلامهم في التحرر الوطني والتنمية الاقتصادية المستقلة. أما تدخُّلات الناصرية في السياسة الدولية (باندونج، وعدم الانحياز، ومناهضة الإمبريالية والصهيونية، إلخ) تعتبرها الكاتبة أدلةً واضحة لما شكَّلته الناصرية من تحدٍ للأبنية الكولونيالية والرأسمالية العالمية.
لا تدَّعي الكاتبة أن الناصرية شكَّلَت نوعًا من الاشتراكية أو تجاوزًا ما للرأسمالية، ولكنها تعتبرها تجربةً استثنائية لتحدي المنظومة الرأسمالية العالمية:
“شكَّلت الدولة بالنسبة للضباط محور محاولتهم لإعادة صياغة وضع مصر في النظام الرأسمالي العالمي وفي القلب من ذلك كان مشروع التنمية الاقتصادية المستقلة من خلال سياسات مثل التأميم والتصنيع … ” (سالم، 74).
يمكننا تلخيص أطروحة الكاتبة كالتالي:
1. مثَّلت التجربة الناصرية مشروعًا استثنائيًا للتنمية المستقلة متحديًا في ذلك النظام الرأسمالي الكولونيالي. وبالتالي فعبد الناصر يمثِّل استثناءً لما طرحه فرانز فانون حول عدم قدرة برجوازيات ما بعد الاستعمار على تحدي الإمبريالية (نظرية البرجوازية التابعة)، بل أن الناصرية حقَّقَت “هيمنة” غير مسبوقة (بالمفهوم الجرامشي) على المستوى السياسي والأيديولوجي من حيث قبول الجماهير واعتبارهم التجربة تعبيرًا حقيقيًا عن أمنياتهم، وذلك ما مكَّن عبد الناصر من تشكيل كتلةٍ تاريخية (العمال والفلاحين والمثقفين والنساء). وحتى القمع في تلك الفترة، تعتبره الكاتبة محدودًا بل ومقبولًا من الغالبية العظمى من الشعب.
2. مثَّلت الفترة بين هزيمة 1967 وثورة 2011 العودة بحق إلى البرجوازية التابعة وتفكيك المشروع التنموي الناصري وبالتالي فقدان “الهيمنة” والاعتماد المتزايد على القمع. وتستعير الكاتبة مفهومًا من مفكر ماركسي آخر، وهو فالتر بنيامين، وهو مفهوم “الزمن الفارغ” للتعبير عن تلك الحقبة التاريخية.
3. فقدان الهيمنة هذا والدخول في “الزمن الفارغ” دفع النظام نحو المزيد من القمع بحكم فقدانه للشرعية التي كان يتمتع بها النظام الناصري. وفقدان الشرعية وتصاعد القمع هو ما مهد الطريق لانفجار الغضب في ثورة 2011.
هذا الحنين للمشروع الناصري والأمل في إعادة إنتاجه يبدو غريبًا للوهلة الأولى، خاصةً من كاتبةٍ تحاول استخدام المنهج الماركسي لتفسير التاريخ المصري الحديث. ولكن هناك عوامل كثيرة تجعل مثل هذا الدفاع عن المشروع الناصري مفهومًا. أولًا، أربعون عامًا من الليبرالية الجديدة والتفكيك المنظم للقطاع العام ولمعظم الحقوق والمكتسبات التي حقَّقَتها قطاعاتٌ من الطبقة العاملة والوسطى في ظل الناصرية. هذا التحول طويل المدى، والذي بدأ في سبعينيات القرن الماضي، جعل المكتسبات الناصرية تبدو بالمقارنة بالفعل “جذرية” إن لم تكن ثورية.
وثانيًا، التحوُّل من تحدي النظام الناصري للإمبريالية البريطانية ثم الأمريكية والمواجهات مع الكيان الصهيوني أو ما تسميه الكاتبة المواجهة مع “الأممية الاستعمارية” إلى الخضوع التام للإمبريالية الأمريكية خلال فترات حكم السادات ومبارك. هذا التحوُّل دفع الكثير من اليساريين إلى نوعٍ من إعادة الاعتبار للتجربة الناصرية.
وهناك مثالٌ معاصر لهذا الحنين للمشروع الناصري من قبل اليسار نراه في رد الفعل لإعلان الحكومة المصرية عن تصفية مجمع الحديد والصلب بحلوان (حدث أثناء كتابة هذا المقال). ولا يمكن بالطبع التقليل من شأن رمزية تصفية مثل هذا العملاق الصناعي، فهو بحق أحد رموز المشروع الناصري وأحد أعمدة محاولة خلق قاعدة للتصنيع الثقيل، ولكن هناك نوعين من ردود الفعل في أوساط اليسار المصري: رد الفعل الأول هو حالة من الغضب والحزن لما يعتبره البعض المسمار الأخير في نعش مشروع التصنيع والتنمية المستقلة. وللأسف كان هذا هو رد الفعل الأكثر انتشارًا في أوساط اليسار المصري. وأقول للأسف لأن ذلك المشروع لم يكن في يوم من الأيام جزءًا من تحوُّلٍ اشتراكي، بل على العكس من ذلك كان بكل المقاييس محاولة لخلق بنية أساسية للتراكم الرأسمالي، وربما الأسوأ من ذلك أن هذه المحاولة كانت فاشلة في خلق تلك البنية التحتية (إذا ما قورنت بصناعات الحديد والصلب في الصين والهند وكوريا والبرازيل وحتى تركيا).
أما رد الفعل الثاني، وهو الأكثر انسجامًا بالتأكيد مع الماركسية عنه من الناصرية والحنين لزمنها، هو رد الفعل المتعلق بما يعنيه قرار التصفية من تفكيكٍ نهائي لأحد قلاع الحركة العمالية المصرية، وهو ما يعني المزيد من الإضعاف للحركة العمالية ووزنها وتأثيرها السياسي والاجتماعي. وهذا المنطق الطبقي -أي التفكير فيما تعنيه سياسة التصنيع الحالية من آثار على الصراع الطبقي وعلى قدرة الطبقة العاملة على بناء حركة مستقلة على المستوى النقابي والسياسي- هو المنطق الثوري بالمعنى الاشتراكي وليس المنطق الوطني المرتبط بالحنين للمشروع الناصري كما رأينا في حالة الكاتبة سارة سالم وفي حالة حنين آصف بيات لأفكار ونظريات التحرر الوطني في العالم الثالث في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.
أما ليّ عصا النظرية الماركسية في اتجاه التحرر الوطني أو “ترجمة النظرية” لتتناسب أكثر مع خصوصيات العالم الثالث الثقافية والبنيوية، فهو أمرٌ ربما يحتاج إلى تناولٍ نقدي مستقل. سنكتفي في هذا المقال بالنموذج الأكثر فجاجة لليّ العصا هذا، وهو استخدام وتحوير و”تطوير” أفكار المفكر الماركسي أنطونيو جرامشي في عشرات الدراسات التي تتناول المشهد السياسي والثقافي والأيديولوجي المصري. هناك صناعةٌ أكاديمية تعتمد بالكامل تقريبًا على استقطاع مفاهيم من أعمال جرامشي وفصلها بالكامل عن سياقها في فكر هذا الرجل، بل عن الماركسية بشكل عام، واستخدامها مرة تلو الأخرى لتقديم تحليلات “جرامشية” عن مختلف الظواهر السياسية والاجتماعية. والمفهوم الأكثر شيوعًا بالطبع في هذه الصناعة الأكاديمية هو مفهوم “الهيمنة” (إلى جانب “الثورة السلبية” و”الكتلة التاريخية” و”القيصرية”، بل ربما بسبب تحويل تلك المفاهيم إلى كليشيهات أكاديمية بدأ البعض مؤخرًا في التنقيب عن مفاهيم أقل شيوعًا في أعمال جرامشي مثل “الفعل التحويلي” و”التغيير الجزيئي” و”الضعف الثوري”، إلخ).
كان أنطونيو جرامشي أحد أهم منظري الثورة الاشتراكية وأحد مؤسسي الحزب الشيوعي الإيطالي وقائد الانتفاضة العمالية في تورين عامي 1919 و1920 وعضو قيادي في الأممية الشيوعية في حقبة لينين وتروتسكي. وقد دفع حريته ثم صحته ثم حياته ثمنًا لذلك في سجون موسوليني والتي قبع فيها من 1926 حتى وفاته عام 1937.
تحويل ذلك العملاق الثوري إلى مجرد مصدر للمصطلحات المنزوعة من سياقها واستخدام تلك المصطلحات بغرض “التفكيك” الأكاديمي أو لإضفاء هالة راديكالية على أفكار ليبرالية عقيمة هو بالفعل جريمة في حق جرامشي، فقد ظل حتى موته وطوال فترة سجنه يحاول الإجابة على سؤال الثورة في كافة كتاباته التاريخية والسياسية بل والفلسفية والثقافية.
لنأخذ على سبيل المثال مفهوم الهيمنة التي تستخدمه سارة سالم، بل والذي تُعنوِن به كتابها. المفهوم طبقًا لها يتعلق بالتوازن بين القمع والقبول الذي يحتاجه أيُّ نظامٍ ليبقى في الحكم. كلما زاد القبول الجماهيري واقتناعه بالنظام، قلَّ احتياج النظام لاستخدام القمع المباشر والعكس صحيح، فكلما ضعفت شرعية النظام في أعين الجماهير، زاد لجوء النظام للعنف. وهذا بالطبع صحيح، ولكنه بديهي لا يحتاج في صيغته هذه لا لعبقرية جرامشي ولا للنظرية الماركسية بشكل عام.
ظهر مصطلح الهيمنة في صفوف الحركة الاشتراكية الروسية أولًا في أعمال بليخانوف وأكسيلورد وفيما بعد استخدمه وطوَّرَه لينين. ولكن في روسيا كان مفهوم الهيمنة يُستَخدَم في السجال الدائر حول القيادة العمالية للثورة في روسيا (كيف يمكن للطبقة العاملة كسب تأييد الفلاحين والقطاعات المضطهدة في العملية الثورية). ولكن المصطلح تحوَّل على يد جرامشي إلى ما يمكن اعتباره مفهومًا جديدًا في التراث النظري الماركسي. وكان هدف جرامشي من تطوير مصطلح الهيمنة هو فهم الأشكال السياسية للسلطة الرأسمالية خارج التجربة الروسية، في بلدان الغرب الرأسمالية المتقدمة. وقد طوَّر جرامشي مفهوم الهيمنة لتفسير قوة وتعقيد حكم البرجوازية في أوروبا الغربية مقارنةً بالوضع في روسيا والإجابة على سؤال لماذا لم تتكرر تجربة ثورة أكتوبر في البلدان الرأسمالية المتقدمة.
وكما طرحنا أعلاه، يقوم كلُّ نظام حكم على توازن ما بين القمع والقبول. كلما زادت هيمنة الطبقة الحاكمة، زاد قبول المحكومين بالوضع القائم وبالتالي تقلَّص الاحتياج لأشكال القمع المباشر. وتقوم آليات السيطرة التي تحقِّق ذلك القبول على شبكة من المؤسسات الثقافية مثل المدارس والجامعات والكنائس والإعلام والأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات. تقوم هذه الشبكة بتكريس القبول بالوضع القائم من قبل الطبقات المستغَلَّة. ويستلزم ذلك إنتاج منظومة من الأيديولوجيات التي يعمل على إنتاجها مجموعاتُ من المثقفين المرتبطين بالطبقة الحاكمة. ويتم تجنيد هؤلاء المثقفين إما من بقايا أنماط إنتاج سابقة للرأسمالية (المثقفين التقليديين) وإما من محيط البرجوازية الحديثة نفسها (المثقفين العضويين).
وتتميز السلطة البرجوازية في الرأسماليات المتقدمة أيضًا بالقدرة على كسب ولاء وتأييد طبقات أخرى، وبالتالي تكوين ما أسماه جرامشي بالكتلة التاريخية، مما يشكِّل عنصرًا آخر يساعد على استمرار واستقرار تلك السلطة.
وكل هذه الدرجة من الهيمنة الفعَّالة والمرنة التي تمارسها الرأسمالية في السيطرة على الطبقات الدنيا في الغرب الرأسمالي المتقدم تمثِّل عائقًا أصعب وأكثر صلابة أمام الحركات الاشتراكية في تلك البلدان إذا ما قورن الوضع بالحالة الروسية.
والنتيجة على سبيل المثال أنه حتى عندما تواجه تلك الأنظمة البرجوازية أزماتٍ اقتصادية وسياسية عنيفة فهي أقدر على الصمود في وجه تلك العواصف. والاستنتاج الذي يصل إليه جرامشي من كلِّ ذلك هو أن إستراتيجية الهجوم المباشر على السلطة والتي انتهجتها الطبقة العاملة والبلاشفة في روسيا (حرب المناورات) لن تكون وحدها كافية لانتصار الثورة في الرأسماليات المتقدمة. هناك حاجة في تلك البلدان لتبني الحركات الاشتراكية إستراتيجيةً طويلة المدى (حرب المواقع) تتمكَّن من خلالها من كسر هيمنة البرجوازية وتمكين الطبقة العاملة من الاستيلاء على السلطة (جرامشي، كراسات السجن).
وإذا حاولنا استخدام هذا المعنى لمصطلح الهيمنة في تحليل التجربة الناصرية، سنصل بالتأكيد إلى عكس الاستنتاج الذي تصل إليه سارة سالم في كتابها. فالقمع الاستثنائي الذي تميزت به الحقبة الناصرية كان نتيجة غياب الهيمنة البرجوازية بالمعنى الذي يطرحه جرامشي.
سمير أمين وفخ التاريخ
كان سمير أمين، كما هو معروف، أحد أهم منظري مدرسة التبعية، وهي المدرسة التي كان لها تأثيرٌ كبير في يسار العالم الثالث خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. وكانت القضية الشاغلة لمنظري تلك المدرسة هي علاقة الدول النامية (سواء المستقلة حديثًا في آسيا وإفريقيا أو تلك التي نالت استقلالها خلال القرن التاسع عشر في أمريكا اللاتينية)، أي “أطراف” النظام الرأسمالي العالمي، بالدول الرأسمالية الصناعية المتقدمة (أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية واليابان في ذلك الحين)، أي “مراكز” النظام العالمي.
كانت تبعية دول الأطراف لدول المراكز تقوم، طبقًا للنظرية، على التبادل التجاري غير المتكافئ بينهما. المراكز تحتكر الصناعات التحويلية المتقدمة في حين تفرض على دول الأطراف إنتاج وتصدير المحاصيل الزراعية والمواد الخام. كانت نتيجة تقسيم العمل العالمي هذا هي أن صادرات الأطراف، والتي لا تحتكر أيٌّ من تلك الدول إنتاجها، كانت تباع للمراكز بأقل من قيمتها، في حين كانت الصادرات الصناعية المنتجة في المراكز تُباع بأكثر من قيمتها، والنتيجة هي عملية نقل لفائض القيمة من دول الأطراف إلى دول المراكز. وطالما ظلَّت دول الأطراف شريكةً في تقسيم العمل والسوق الرأسمالي العالميين، فلن تتمكَّن أبدًا من تحقيق التنمية المستقلة والتصنيع واللحاق بالدول المتقدمة.
كان الحل الذي طرحته مدرسة التبعية لهذه المعضلة هو ضرورة “فك الارتباط” مع المراكز الرأسمالية والمضي قدمًا في مشروع تنموي وطني مستقل والاعتماد على توسيع السوق المحلي وسياسة إحلال الواردات (من الإبرة إلى الصاروخ) واستبدال المشاركة في تقسيم العمل الدولي من خلال خلق شبكات من التبادل والتعاون بين دول الأطراف (باندونج، القومية العربية، الوحدة الإفريقية، إلخ).
وقد تباينت الاستنتاجات السياسية التي وصل إليها منظرو التبعية، ولكن في حالة سمير أمين يمكننا تلخيص موقفه كالتالي: أولًا، التنمية المستقلة وفك الارتباط هما السبيل الوحيد ليس فقط لتحقيق الاستقلال الحقيقي ولكن أيضًا الوسيلة الوحيدة لبناء الاشتراكية في دول الأطراف. وثانيًا، لن تتمكَّن البرجوازيات المحلية من قيادة تلك العملية بحكم ارتباط مصالحها بالرأسمالية الغربية من جانب (البرجوازية التابعة الكمبرادورية) وبالطبقات الحاكمة التقليدية من جانب آخر (كبار ملاك الأرض في الحالة المصرية). وثالثًا، يجب أن يقود هذا المشروع تحالف طبقي ثوري (الطبقة العاملة، الفلاحين، البرجوازية الصغيرة) بقيادة اليسار. ورابعًا، وصول هذا التحالف الطبقي للسلطة يستلزم ثورة وطنية واجتماعية لا تقف فقط عند التخلص من الاستعمار بل تمتد لتشمل الإطاحة بالبرجوازيات المحلية.
لم تكن إذًا الاشتراكية عند سمير أمين حول استيلاء الطبقة العاملة على السلطة كجزء من ثورة عالمية و كخطوة لتجاوز نمط الإنتاج الرأسمالي، بل كانت حول مشروع تنموي وطني راديكالي يسمح لدول الأطراف باللحاق بالغرب الرأسمالي من خلال التصنيع والتنمية المستقلة بقيادة الدولة.
تأتي رؤية سمير أمين ونقده للتجربة الناصرية في هذا السياق. فمشكلة الناصرية لم تكن حول أهدافها ولكن حول حدود راديكاليتها وطموحها والذي ارتبط باحتكار الضباط للسلطة وعدم توسيع تلك السلطة لتشمل تحالفًا طبقيًا واسعًا (سنتناول في الجزء الثاني من هذه الدراسة تحليلًا نقديًا تفصيليًا لمواقف ماركسيي الستينيات من التجربة الناصرية، وعلى رأسهم سمير أمين وأنور عبد الملك ومحمود حسين وميشيل كامل وفؤاد مرسي وإبراهيم فتحي).
لنعود إذًا لقراءة سمير أمين لثورة 2011، فهو يقول في كتابه “الصحوة العربية الجديدة” والذي كتبه بعد انقلاب 2013:
“إن النظام الاقتصادي والاجتماعي الذي أنشئ في ظل الناصرية، وعلى رغم من نواقصه، كان نظامًا متماسكًا. وقد راهن عبد الناصر على التصنيع كوسيلة للخروج من التخصص الإنتاجي الذي فرضه النظام الاستعماري الدولي والذي أجبر مصر على أن تكون فقط منتجًا ومُصدِّرًا للقطن. وقد حقَّق نظامه توزيعًا للدخول كان في صالح الطبقة الوسطى المتنامية دون إفقار للجماهير الشعبية … وكان لنظام عبد الناصر شرعيةٌ في عيون الشعب بحكم إنجازاته الفعلية مثل التعليم المجاني والخدمات الصحية والعامة والتصنيع وضمان حق العمل وفرص الصعود الاجتماعي. كل تلك الإنجازات كانت مرتبطةً بالمبادرات الوطنية المستقلة وبموقفٍ معادٍ للإمبريالية” (أمين، 6).
على الرغم من النقد اللاذع الذي تميَّزت به مواقف سمير أمين من التجربة الناصرية في ستينيات القرن الماضي، فنجد في القرن الحادي والعشرين نفس ذلك الحنين لتلك التجربة بعد عقود من الليبرالية الجديدة والتحالف الإستراتيجي مع الإمبريالية الأمريكية!
وقد رأى سمير أمين في ثورات 2011 فرصةً لإعادة طرح المشروع التنموي: “المطلوب الآن هو التخلي عن النموذج الحالي والدفع في اتجاه مبادرات مستقلة ومعادية للإمبريالية”. وقد دفع به هذا الأمل (إلى جانب كراهيته المطلقة للإسلام السياسي عامة والإخوان المسلمين بشكل خاص) إلى درجة تصوُّره إمكانية تحرك عبد الفتاح السيسي في هذا الاتجاه التنموي (وهذا بعد انقلاب 2013):
“النضال من أجل فرض مخرج من الليبرالية الجديدة وتبني برنامج تنموي مستقل مازال قائمًا، والاستمرار في الدفع في هذا الاتجاه يمكن أن يقنع السيسي لتغيير نغمته، كما حدث مع عبد الناصر في 1956، والانتقال من التبني الساذج لليبرالية الاقتصادية إلى تبني مشروع التحرر الاجتماعي والوطني” (أمين، 68).
وكما هو واضح من هذا الموقف، فالمهم ليس طبيعة الدولة أو الطبقة الحاكمة ولا حتى درجة الديمقراطية أو الاستبداد. المهم فقط هو الإستراتيجية التنموية لتلك الدولة! أي أنه حتى في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين ظلَّ معنى الثورة بالنسبة لسمير أمين، على الأقل فيما يخص بلدان نامية مثل مصر، هو الانتقال إلى سياسةٍ تنموية مستقلة وبقيادة الدولة وليس بمعنى ثورة اجتماعية تنتقل فيها السلطة إلى طبقة اجتماعية أخرى، ولا حتى بمعنى ثورة سياسية تسمح بتداول حقيقي للسلطة ولو في حدود الديمقراطية البرلمانية.
“فك الارتباط” بين ثورات الماضي وثورات المستقبل
هذا الخلط في الأوراق بين مراحل تاريخية متباينة وبين معاني مختلفة للثورة يدفعنا لمحاولة التدقيق النظري حتى نتمكَّن من فهم ثورة 2011 في سياقها التاريخي. نحتاج إلى أخذ خطوة إلى الوراء لتحديد ما نعنيه أصلًا بالثورة. فهناك تاريخيًا نوعان من الثورات: الثورات السياسية التي يتغيَّر فيها شكل السلطة السياسية دون تغيُّرٍ في نمط الإنتاج السائد أو التركيبة الطبقية في المجتمع، وهناك الثورات الاجتماعية التي ينتقل من خلالها المجتمع إلى نمطٍ جديد من الإنتاج والعلاقات الاجتماعية. ولكن بالطبع هذا التمييز له طابع شديد العمومية والتجريد. فكل ثورة سياسية لها عمق وتأثير اجتماعي والعكس صحيح. وهناك ثوراتٌ تبدأ كثوراتٍ اجتماعية ولكنها لا تنجح سوى في فرض تغييرات سياسية، وهناك أيضًا سلسلة طويلة من الثورات تفشل في تحقيق أيِّ تغيير مهم سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي.
الثورات الاجتماعية الكبرى وهي الثورات التي شهدت انتقالًا إلى نمط إنتاج جديد وسلطة طبقية جديدة (من الإقطاع إلى الرأسمالية على سبيل المثال وهي ما يعرف بالثورات البرجوازية -الإنجليزية والأمريكية والفرنسية على سبيل المثال) لم تحدث تغييراتها الثورية في حدث وحيد بل تخلَّلت تلك الثورات سلسلةٌ من الثورات والتغيرات السياسية حتى استقر الحكم الطبقي الجديد. وقد كتبت روزا لكسمبورج على سبيل المثال أن الثورة الفرنسية الكبرى (1789-1794) تلتها سلسلةٌ من الثورات السياسية التي أحدثت تحوُّلاتٍ في طبيعة الحكم. فتوالت قطاعات مختلفة من البرجوازية في السلطة من الرأسمالية المالية (1815) إلى البرجوازية الصناعية (1830) إلى البرجوازية المتوسطة والصغيرة (فبراير 1848). ولكن لكسمبورج تعتبر عام 1871 كلحظة وصول البرجوازية إلى السيطرة الكاملة:
“وصلت سيطرة الطبقة البرجوازية الحديثة، في شكل الجمهورية الثالثة، إلى أعلى مراحل تطورها وإلى شكلها النهائي … هكذا تشكَّل لأول مرة المجتمع البرجوازي الحديث واستكملت بالتالي العملية التي بدأتها الثورة الفرنسية الكبرى” (لكسمبورج، الثورة الروسية).
تعتبر الثورة الفرنسية عادةً النموذج للثورات البرجوازية خاصةً في خواص ثلاث رئيسية، وهي دور الجماهير والتعبئة الجماهيرية في المدن والريف، والإطاحة بالنظام الملكي القديم وبطبقة النبلاء الحاكمة، والبدء في تدشين نظام ديمقراطي برلماني قائم على التوحيد السياسي والاقتصادي على المستوى القومي. ولكن في عمليات الانتقال إلى الرأسمالية في البلدان الأخرى، قلَّما تحقَّقت كل تلك الخواص، ففي أغلب الحالات كان التحوُّل يتم من أعلى دون تدخُّلٍ جماهيري. وربما كان المثالان الأهم لتلك “الثورات من أعلى” هما توحيد بسمارك لألمانيا، وتفكيك النظام الإقطاعي في اليابان فيما عرف بإصلاحات الميجي. في الحالتين تطورت مراكز للتراكم الرأسمالي دون ثورة بالمعنى الجماهيري وبالطبع دون ديمقراطية برلمانية بالمعنى الفرنسي.
ولكن القرن العشرين جاء بمعضلةٍ جديدة زادت من تعقيد التحوُّل نحو المجتمع الرأسمالي على المستوى العالمي. فمنذ ثورات 1848، بدأ الظهور المستقل للطبقة العاملة على الساحة السياسية والتي بدأت في طرح مشروع مختلف نوعيًا وهو الثورة الاشتراكية. لم يكن المشروع متبلور بشكلٍ كامل ولكن انتفاضة يونيو العمالية في 1848 في باريس، وبالطبع تجربة كومونة باريس في 1871، بدأت تمهِّد الطريق لتحوُّلٍ آخر يتجاوز الرأسمالية ويطرح مسألة سلطة العمال.
والحدث الكبير الذي أربك التفكير النمطي حول الثورة البرجوازية والتحوُّل نحو الرأسمالية كان بالطبع ثورات 1905 والثورة البلشفية 1917 في روسيا. كان التصور في أوساط الماركسيين حتى 1905 أنه في البلدان التي تأخَّر فيها التراكم الرأسمالي والتي لم تتحوَّل بالكامل إلى الرأسمالية، مثل روسيا، فإن المطروح هو مرحلتان ثوريتان، الأولى تستكمل فيها ما سمي بمهام الثورة البرجوازية أي إنهاء بقايا الإقطاع من خلال إصلاح زراعي والتوحيد الوطني والديمقراطية البرلمانية، وفقط عندما تنتهي تلك المرحلة يمكن الحديث عن الثورة الاشتراكية وتجاوز الرأسمالية. ولكن الدور القيادي والمستقل الذي لعبته الطبقة العاملة حديثة النشأة في ثورة 1905 وارتماء البرجوازية الروسية في أحضان القيصر والنظام القديم دفع أهم القادة الماركسيين في ذلك الوقت لتطوير مشروع الثورة على المستوى النظري والعملي. وجاء أهم إسهام نظري في هذا المجال من ليون تروتسكي، والذي بلور نظرية الثورة الدائمة. لن نخوض طويلًا هنا في شرح تلك النظرية ولكن ملخصها كالآتي: أولًا، أن تطور الرأسمالية في البلدان المتأخرة لا يأخذ نفس مسار بلدان الموجات الأولى من الرأسمالية (بريطانيا نموذجًا). فالرأسمالية، بحكم خلقها للسوق العالمي وبحكم القوة النسبية لمراكز التراكم الكبرى، تدخل البلدان المتأخرة ليس بالتطور التدريجي طويل المدى ولكن بشكل صادم وفي أكثر أشكالها تقدمًا، سواء على يد الاستعمار أو على يد الدولة كوسيلة لتطوير قاعدة صناعية تُمكِّن الأنظمة القديمة (القيصرية في هذه الحالة) من الدفاع عن نفسها أمام بلدان الغرب الرأسمالي.
يخلق ذلك التطور السريع والصادم ما أسماه تروتسكي فيما بعد “التطور المركب و اللامتكافئ” وهو حالة التداخل والتناقض بين الحديث والقديم وبين الصناعة المتقدمة والأرياف التقليدية، وبين طبقة عاملة حديثة ومركزة في المدن وبين طبقات تقليدية من فلاحين وبقايا الإقطاع. يُحدِث هذا الشكل من التطور تداخلًا بين الثورة البرجوازية بمهامها وبين الثورة الاشتراكية. أي أن استكمال التحول الرأسمالي ومشروع تجاوزه يندمجان معًا في “ثورة دائمة”.
كانت هناك عدة استنتاجات سياسية لهذه النظرية، وهي استنتاجات عمَّمها تروتسكي فيما بعد على الوضع في البلدان المستعمرة والمتأخرة (أو ما نسميه الآن بالبلدان النامية): أولًا، أن البرجوازيات المحلية أضعف وأجبن من أن تلعب دورًا قياديًا حتى في الثورات البرجوازية بسبب خوفها الوجودي من الطبقة العاملة وبسبب تداخل مصالحها مع الاستعمار والطبقات القديمة. وثانيًا لن تتمكَّن أيضًا طبقة الفلاحين من قيادة تلك الثورة رغم حيوية دورها في تحطيم النظام القديم ورغم مصلحتها في هذا التحوُّل (الإصلاح الزراعي). ثالثًا، الطبقة العاملة في تلك البلدان -رغم حداثة نشأتها- فبسبب تركُّزها في المصانع والمنشآت الحديثة في المدن فهي تتطور على المستوى النقابي والسياسي بشكل سريع، وتكتسب وعيًا ثوريًا يمكِّنها من قيادة الثورة الديمقراطية البرجوازية وتحويلها المباشر لثورة اشتراكية كما حدث في الحالة الروسية وكما أثبتت الثورات التالية وإن منيت بالهزيمة في ألمانيا 1918 والصين 1925-1927 وإسبانيا 1936.
ولكن ماذا يحدث إذا تفاقمت الأزمات بسبب ذلك التطور المركب و اللامتكافئ ولم تكن الطبقة العاملة قادرة على لعب ذلك الدور القيادي المستقل، سواء لأسباب موضوعية أو ذاتية؟
تميَّزت ثورات التحرر الوطني بعد الحرب العالمية الثانية كنوعٍ جديد من الثورات البرجوازية. فمن جانب، خَلَقَ التطور المركب اللامتكافئ حالةً ثورية: الاستعمار والطبقات القديمة تعيق التحول الكامل للرأسمالية وحكم البرجوازية، وكما رأينا في استنتاج تروتسكي البرجوازيات المحلية أضعف وأجبن من قيادة الثورة، والفلاحين في حالة ثورية ولكن بدون القدرة على القيادة السياسية الفعلية للعملية الثورية. ولكن الطبقة العاملة في كثير من الحالات لم تتمكَّن رغم وجودها المؤثر في الساحة السياسية من حسم المعركة بقيادتها ولصالحها. وهنا تدخَّلَت قطاعاتٌ من مثقفي المدن لتملأ الفراغ وتقود عملية التحول البرجوازي سواء بشكل ثوري (كوبا، والصين، والجزائر) أو بشكل انقلابي كما في الحالة المصرية.
لقد بدأنا هذا المقال بعرض نقدي لأطروحات تخلط الأوراق بين ثورة 2011 وبين ثورات التحرر الوطني والمشروع الناصري بشكل خاص (آصف بيات، وسارة سالم، وسمير أمين). وربما كان ذلك الإبهام بين شعارات ورؤى ثورات الماضي وبين احتياجات ومعضلات ثورة يناير إحدى نقاط الضعف القاتلة في الثورة المصرية. فثورة 2011 قامت ضد الدولة البرجوازية التي أنشأها عبد الناصر ولكنها ظلت محصورة في حدودها الخانقة، تكلمت بلغتها الوطنية ورفعت نفس رايتها، وحتى شعاراتها الرئيسية ظلت في إطار الثورات البرجوازية الكلاسيكية من “عدالة” و”حرية” و”مواطنة” و”حقوق”. تلك الشعارات هي شعارات ثورات الماضي، ثورات وصول البرجوازية إلى السلطة وشعارات التحرر من الاستعمار. ولكن البرجوازية المصرية وصلت بالفعل إلى السلطة من خلال ما أسماه إبراهيم فتحي “حلقتي الثورة البرجوازية المصرية” في 1919 و1952. ثورة 2011 قامت في مواجهة الدولة التي أنتجتها تلك الثورات ولكن حدود تلك الثورات ظلَّت كالسياج تحاصر الثورة منذ لحظتها الأولى وحتى هزيمتها.
ربما جاء أفضل تعبير عن هذه المعضلة في كتاب “الثامن عشر من برومير” لكارل ماركس:
“إن تقاليد جميع الأجيال الغابرة تجثم كالكابوس على أدمغة الأحياء. وعندما يبدو هؤلاء منشغلين فقط في تحويل أنفسهم والأشياء المحيطة بهم، في خلق شيء لم يكن له وجود من قبل، عند ذلك بالضبط، في فترات الأزمات الثورية كهذه على وجه التحديد، نراهم يلجأون في وجلٍ وسحر إلى استحضار أرواح الماضي لتخدم مقاصدهم، ويستعيرون منها الأسماء والشعارات القتالية والأزياء لكي يمثِّلوا مسرحيةً جديدة على مسرح التاريخ العالمي في هذا الرداء التنكري الذي اكتسى بجلال القدم وفي هذه اللغة المستعارة”.
سنستكمل في الجزء الثاني من هذه الدراسة محاولة فهم قضية الثورة في مصر من منظور ماركسي، سواء ثورات الماضي أو ثورة يناير وما فجَّرته تلك الثورة من إمكانيات ثورات المستقبل.
مراجع:
– Sara Salem, Hegemony and Its Afterlives- Gramsci, Fanon and Revolution in Egypt, Cambridge University Press, 2020
– Samir Amin, The Reawakening of the Arab World- Challenge and Change in the Aftermath of the Arab Spring, Monthly Review Press, 2016
– Samir Amin, Imperialism and Unequal Exchange, Monthly Review Press, 1979.
– Asef Bayat, Revolution Without Revolutionaries- Making Sense of the Arab Spring, Stanford University Press, 2017.
-Rosa Luxemburg, The Russian Revolution, University of Michigan Press, 1961.
– سمير أمين، ثورة مصر بعد 30 يونيو، دار العين للنشر، 2014.
– ليون تروتسكي، الثورة الدائمة ونتائج وتوقعات، دار الطليعة، 1968.
– ليون تروتسكي، تاريخ الثورة الروسية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1978.
– توني كليف، الثورة الدائمة المنحرفة.
– أنطونيو غرامشي، كراسات السجن، دار المستقبل العربي، 1994.
– كارل ماركس، الثامن عشر من برومير لويس بونابرت.