فالتر بنجامين والرأسمالية السلعية

في 15 يوليو 1892، وُلِدَ فالتر بنجامين في عائلةٍ يهودية ميسورة الحال في برلين. وفي 26 سبتمبر 1940، قُطِعَ طريق هروبه من ألمانيا النازية إلى الولايات المتحدة. مُنِعَ من العبور من فرنسا المحتلَّة إلى إسبانيا، وكان المرض قد فتَّ عضده، وكان تحت تهديد التسليم إلى الشرطة السرية النازية (الجيستابو)، فاختار أن ينهي حياته بيده.
في السنوات بين هذين التاريخية، عاش بنجامين عبر أرجاء أوروبا، كسائحٍ ومهاجر. وبمجرد أن جرَّده النازيون من الجنسية الألمانية، بالأخص إثر مقالٍ كتبه لمجلةٍ شيوعية حول انحطاط الفن الفاشي، أصبح منفيًا.
مع انتصار النازية في ألمانيا وسقوط فرنسا، صارت المساحات الآمنة في أوروبا تتقلَّص. ولم يكن المعسكر الشرقي مبشِّرًا بدرجةٍ كبيرة. في نهاية العام 1926، زار بنجامين موسكو لثمانية أسابيع من أجل أن يقرِّر ما إذا كان سيلتحق بالحزب الشيوعي. لكنه قرَّرَ عكس ذلك. بدا النظام السوفييتي مجتمعًا حيويًا ونشطًا -لكن كان هناك بالفعل اتجاهاتٌ مثيرة للقلق نحو الفساد ومحاباة القيادات. وبحلول الوقت الذي سعى فيه بنجامين للفرار من النازيين، كان الموقف في روسيا قد ساء كثيرًا.
لم يكن الشرق الأوسط خيارًا هو الآخر. حاول المؤرِّخ الصهيوني جرشوم شوليم مرارًا إغراء بنجامين بالهجرة إلى فلسطين، لكن الصهيونية لم تكن مطروحةً بالنسبة لبنجامين. في المقابل، انطلق في رحلةٍ خاضها الكثير من المفكِّرين الأوروبيين المُهجَّرين -إلى الولايات المتحدة، على أمل الحصول على منصبٍ أكاديمي، أو ببساطة فرصةٍ لاستغلال مواهبهم في هوليوود.
باعتباره كاتبًا حرًا، يكتب في النقد الأدبي والتحليل الثقافي، كان بإمكان بنجامين أن يؤمِّن القليل من المال للعيش في الولايات المتحدة، أو أن يحصل على بعض المساعدة من مجتمع المنفيين الذين شقوا طريقهم هناك. لكن ذلك لم يحدث.
حياةٌ غير مستقرة
كانت الموضوعات التي جذبت بنجامين متنوِّعةً بصورةٍ استثنائية. تضمَّنت الديناميات الاجتماعية للتكنولوجيا، وفلسفة التاريخ، وسياسات الأدب، ونظريات الذاكرة والخبرة، وحتى الأهمية الثقافية لعلم الفلك.
وبالنظر إلى حياته غير المستقرة ككاتبٍ حر، فإن أحد الاهتمامات الرئيسية التي شغلته هي الأوضاع المتغيِّرة للمفكِّرين والكُتَّاب والفنانين على مدار حقبة التصنيع. كان على المثقفين أن يكافحوا من أجل العثور على داعمين ماليين، بدلًا من رعاية النبلاء أو الكنيسة التي اكتنفتهم سابقًا.
كان بنجامين يدرك المعاني السياسية للثقافة. في مقالته المطوَّلة “العمل الفني في عصر إعادة إنتاجه تقنيًا”، ومحاضرته التي ألقاها على حلقةٍ شيوعية بعنوان “المؤلِّف كمنتِج”، طَرَحَ بنجامين ثلاثة مساراتٍ لإرساء ثقافةٍ معادية للرأسمالية ومناهضة للفاشية.
لقد ابتكر إستراتيجياتٍ لتجنُّب الضغط على الفنانين ليكونوا فرديين، وتنافسيين، أو أنصارًا للفن كما لو كان دينًا جديدًا. عمل بنجامين على تقييم ما كانت تعنيه الأشكال الثقافية الجماهيرية الجديدة -الراديو والأفلام والتصوير والمونتاج والصحف القائمة على المراسلات العمالية- على المستوى الاجتماعي والسياسي. كان يأمل أن تقرِّب التقنيات الجديدة الثقافة لأعدادٍ أكبر من الناس؛ تزيل الغموض عنها وتجعل أشكالها ملائمةً للعصر الحديث.
دَرَسَ بنجامين الماضي، في محاولةٍ لفهم كيف خلقت الرأسمالية الظروف المناسبة لانتصار الفاشية. وكانت باريس هي التي اختارها لتركيز دراسته. من أواخر القرن الثامن عشر إلى أواخر القرن التاسع عشر، كانت باريس مدينةً حيويةً لازدهار الرأسمالية الاستهلاكية والموجات الثورية المتكرِّرة.
وعلى مدار الثلاثة عشر عامًا الأخيرة من حياته، عمد بنجامين إلى تفحُّص أروقة التسوُّق في باريس، وما مثَّلته من تنامٍ للثقافة الاستهلاكية.
أول هذه الأروقة الباريسية كانت قد بُنِيَت في مطلع القرن السابع عشر، وآخرها في العام 1860. كانت تلك الأروقة ممراتٍ عبر مجموعاتٍ من المباني التي تصطف فيها المحلات التجارية وغيرها من الأعمال. تضمَّنَت هذه البنايات من الزجاج والحديد تمازجًا فوضويًا من لافتات المتاجر، والأضواء، والفتارين الجذَّابة، حيث مُختَلَف السلع وتماثيل عرض الملابس.
بالنسبة لبنجامين، كانت أروقة باريس عالمًا مُصغَّرًا للرأسمالية. مثَّلَت هذه الأروقة إمكانيةً تاريخية وإحباطًا في الوقت عينه -وعدًا بالوفرة ونكثًا بهذا الوعد في آنٍ واحد. كانت مكتظَّةً، في شكلٍ معماريٍّ متنوِّع، بالمنهوبات الاستعمارية؛ تلك الغنائم المُنتَهَبة من أممٍ أخرى. ساعدت الإمبراطورية الإنتاج السلعي، إذ وفَّرَت مصادر للمواد الخام التي صُنِّعَت وبيعَت في أسواقٍ مُنشأة حديثًا.
وحَّدَت الإمبريالية العالم عبر التجارة، لكنها أيضًا بنفس القدر قسَّمَت الشعوب، وحضَّتهم ضد بعضهم كعمالٍ وجنود. كانت المعارض العالمية، وهي شكلٌ معماريٌّ آخر من القرن التاسع عشر مُخصَّصٌ لعرض السلع، متناقضةً هي الأخرى.
كان تقديم فيكتور هوجو لمعرض باريس العالمي في 1867 بمثابة دعوةٍ لتوحيد الشعوب، إذ تحدَّثَ عن “جيران العالم” الذين يجتمعون سويًا لـ”مقارنة الأفكار”.
لكن في الحقيقة، كانت هذه المعارض تُنظَّم على أساس تقسيم الشعوب. كانت السلع تُعرَض على أعمدةٍ، وتمحي عمل العمال الذين صنعوها. كانت المعارض العالمية تعِد بأن تكون مكانًا يقف فيه الزوَّار من كافة الطبقات والخلفيات على قدم المساواة بشكلٍ ديمقراطي. ولقد اقتبس بنجامين من الكاتب السوفييتي ريازانوف ليشير إلى مدى حقيقة هذا المفهوم:
“في العام 1855، دُشِّنَ المعرض العالمي الثاني، هذه المرة في باريس. حُظِرَ دخول وفود العمال من العاصمة والأقاليم تمامًا. كان يُخشَى أن تمنح هذه المعارض العمال فرصةً للتنظيم”.
وفي تركيزه على مفهوم الاستهلاكية، كَشَفَ بنجامين كيف أن سماسرة النظام الاجتماعي الجديد قد صمَّموا هذه الروابط لتنشأ فقط بين المستهلكين، وليس بين العمال. غير أن رابطة التضامن الطبقي للعمال كانت تمثِّل تهديدًا، وبالتالي كان لابد من إحباطها.
وتحقيقًا لهذه الغاية، أثبت شكلٌ جديدٌ من التجربة الاستهلاكية أنه مفيد. تتبَّع بنجامين كيف أُعيدَ تشكيل باريس في خمسينيات وستينيات القرن التاسع عشر في محاولةٍ للتصدي للتحرُّكات الثورية. تضمَّن هذا المشروع التحديثي، الذي دشَّنه الإمبراطور نابليون الثالث، شقَّ شوارع واسعة مُصمَّمة لإرباك بناء المتاريس على يد العمال المتمرِّدين، ومن أجل تمكين المرور السريع للمركبات التابعة للدولة من جزءٍ إلى آخر بالمدينة لقمع أيِّ متمرِّدين.
موقعٌ سياحي
كانت إعادة بناء باريس، على يد البارون هوسمان، تهدف إلى نقل الطبقات العاملة من مركز المدينة إلى الشرق، وإعادة تهيئة الجانب الغربي منها للبرجوازية. والشوارع التي كانت أماكن التقاءٍ بين الجانبين وقعت أيضًا ضحيةً لعملية إعادة ترتيب المدينة. كان من شأن ذلك أن حوَّلَ باريس إلى موقعٍ للسياحة بدلًا من أن تكون بؤرةً للثورة. أفسحت هذه الشوارع المساحة للمحلات التجارية، باقتصاداتها الكبيرة وأسعارها الثابتة وتركيزها للملكية. وهنا، وَجَدَ جمهور المستهلكين، الذي تحتاجه الرأسمالية “التحديثية”، موطنًا مناسبًا.
لاحَظَ بنجامين أن جمهور المستهلكين هو الجمهور الذي يدخل إلى مسرح التاريخ ليس كفاعلٍ ثوري، بل كجمهور “السياسات الجماهيرية”، التي يمكن قولبتها إلى سياساتٍ عامة من أجل منعها من أن تكتسب أيَّ فهمٍ قائمٍ على الطبقة. وهذه الحشود في القرن التاسع عشر قد رُوِّضَت وُدرِّبَت لتتحوَّل إلى جمعٍ استهلاكي ينسى دوره في الإنتاج.
في الوقت الذي كان يكتب فيه بنجامين عن هذا الموضوع، كانت أروقة التسوُّق هذه قد فقدت عصريتها، والكثير منها قد هُدِم، مِمَّا جَعَلَ الموضوع برمته جزءًا من كتابة التاريخ الذي أحبَّه بنجامين أكثر من أيِّ شيءٍ آخر. تلوح الآمال المُدمَّرة من الماضي -التي بالكاد يتذكَّرها من طفولته- في أفق رؤيةٍ أرحب لبنائه التاريخي للأحداث.
تأثيرٌ سريالي
كَشَفَ بنجامين، الذي تأثَّرَ بالسريالية، الدوافع والأغراض والأحلام والأماني في موضوعٍ كان قد تلاشى بالفعل. كَتَبَ عن “مشروع الأروقة”، وهو مجموعة كبيرة غير منتهية من الكتابات حول حياة باريس في القرن التاسع عشر:
“يمكننا أن نتحدَّث عن اتِّجاهين في هذا العمل؛ أحدهما ينتقل من الماضي إلى الحاضر ويُظهِر الأروقة، وغيرها الكثير، كأسلافٍ من الماضي؛ والآخر ينتقل من الحاضر إلى الماضي كي يفجِّر الإمكانية الثوري لهذه “الأسلاف” في الحاضر”.
بالنسبة لنجامين، كانت الأروقة، والثقافة الاستهلاكية التي مهَّدَت إليها، شرطًا مُسبَّقًا للفاشية، التي لا يمكن فهمها دون الرجوع للرأسمالية. كان هذا من حيث كلٍّ من القاعدة الاقتصادية، والطريقة التي شُجِّعَ بها الناس ليتصوَّروا أنفسهم مستهلكين وجماهير وطنية، ليس وعمالًا وأمميين.
لكن في الوقت نفسه، تبعث هذه الأروقة، وكلُّ ما شابهها من أشكال القرن التاسع عشر -محطات السكك الحديدية والمتاحف وقاعات المعارض- وعودًا طوبوية بالرفاهية والمعرفة.
كان بنجامين مهتمًا دائمًا بالطرق التي يمكن بها تتبُّع آثار الأمل في “جحيم” الإنتاج السلعي والمجتمع الرأسمالي. ففي نفس الوقت الذي يُستعمَر به وعي العامل بالسلع في الفضاء الاستهلاكي، يتفاعل المستهلك مع الجانب الطوبوي للإنتاج السلعي.
إن الدافع وراء قبول السلعة هو الرغبة في إشباع الرغبات والأحلام. والإعلانات تجعل هذا أوضح كثيرًا، فهي تتعامل مع خيالاتنا ورغباتنا من أجل إقناعنا بأن المنتجات ستجعلنا سعداء. لكنها لا تجعلنا سعداء، إذ تظلُّ الرغبة كما هي، وهكذا أيضًا إمكانية تحقيق تحسينٍ حقيقي في حياتنا والدافع وراء ذلك.
بالإمكان القول إن كتابات بنجامين عن الأفلام والثقافة التكنولوجية هي أيضًا محاولةٌ لاستكشاف الإمكانية الثورية لهذه الأشكال الفنية. رأى بنجامين أن إمكانيات الديمقراطية موجودةٌ في التصوير الفوتوغرافي والسينمائي، لكن تعوِّقها علاقات الإنتاج الرأسمالي، مثل حقوق الملكية وهيمنة الأغنياء عليها.
من العام 1934، صارت أحلام بنجامين أكثر تسييسًا، وطُمِسَت أحلام الماضي تحت ضغط كوابيس الحاضر. كلَّما تقدَّم النازيون في اتجاهٍ، كان بنجامين يرحل في اتجاهاتٍ أخرى، من بلدٍ لآخر، حتى صار عالقًا في النهاية بين إسبانيا وفرنسا.
كان هذا عندما كتب بنجامين عمله الأخير، “حول مفهوم التاريخ”. في أحلك أيامه، أشار بنجامين إلى عجز الأساليب التقليدية في التفكير والحركة. لقد شخَّصَ جذور المشكلة في “الخضوع الذليل لجهازٍ لا يمكن السيطرة عليه”، حتى من جانب أولئك الساعة، مثل الاشتراكيين الديمقراطيين الإصلاحيين، الذين كانوا مناهضين للفاشية.
تشير لنا رؤى بنجامين إلى أن العمل الثوري جنبًا إلى جنب مع النظرية الثورية هو الأجدر بتحدي النظام الذي يضطهدنا -والإمكانية الوحيدة للسعادة الحقيقية.
* المقال بقلم: إستر ليزلي – صحيفة “العامل الاشتراكي” البريطانية