75 عاما على رحيل لينين

في هذه الأيام تحل علينا الذكرى الخامسة والسبعين لوفاة لينين، القائد لأول ثورة اشتراكية منتصرة، ومؤسس الأداة التي جعلت هذا النصر ممكنا…”الحزب البلشفي”. طوال سنوات حاولت الستالينية تحويل فكر لينين إلى صنم للعبادة، وتقديمه وكأنه كتلة من الصخر وجدت مرة واحدة من عقل عبقري، ولكنهم بذلك كانوا ينكرون فعليا الميزة الأساسية لفكر لينين، وهي الاستجابة لمتطلبات الواقع والتطور الدائم بالاستفادة من خبرات ودروس الأحداث. إن تلك هي أهم شروط فكر حي وخلاق، وتلك هي الميزات التي جعلت من لينين أحد أهم المفكرين الثوريين منذ ماركس.
وحتى عندما يستخدم لينين لهجة حادة مع خصومه كان يعتبر أن ذلك لأهداف واقعية محددة، فهو يقول “بهجماتي القاطعة والجارحة ضد المناشفة عشية انتخابات بطرسبرج، قمت فعلا بزعزعة صفوف البروليتاريا التي كانت تؤمن بهم وتتبعهم، وكان ذلك هدفي، وكان واجبي، لأنه بعد الانشقاق كان ينبغي تحطيم صفوف المناشفة الذين كانوا يدفعون البروليتاريا لاحتذاء حذو الكاديت (البرحوازيون الليبراليون)”
التنظيم
بالنسبة لفكر حي مثل فكر لينين، لم يكن الدفاع عن التنظيم والتمسك به – حيث قال “إننا نتمسك بتنظيمنا ولو كان جنينيا، وندافع عنه بالقبضات والأسنان”- هدفا مجردا، بل كان استجابة لمشكلة واقعية هي تشتت الحركة الثورية في روسيا. فكما تقول روزا لوكسمبورج (والتي اختلفت مع آراء لينين التنظيمية): “المشكلة التي كان على الاشتراكية الديمقراطية الروسية أن تسويها، إنما كانت تجاوز نموذج التنظيم القائم على حلقات ومجموعات محلية، وتمتاز باستقلال كل من المجموعات وتشتتها.” وكما أكد لينين “إن الملمح الأساسي لحركتنا، إنما هو تشتتها.”
لقد توصل لينين إلى هذه النتيجة عبر خبرة ودراسة لعمل الاشتراكيين الروس، ففي عام 1895 شارك لينين في حلقة ثورية صغيرة اسمها “عصبة النضال من أجل تحرير الطبقة العاملة” وبسبب الأخطاء التنظيمية الفادحة، تم القبض عليه ونفيه إلى سيبيريا لمدة خمس سنوات، استفاد منها لينين في دراسة أخطاء الحركة وتركيز الخبرات التي بدأ بعد عودته من المنفى – عام 1900 – في تحويلها إلى مشروع واقعي ارتبط به بقية حياته. بدأ لينين هذا المشروع بالمشاركة في تأسيس “إيسكرا”، وشرح أفكاره على صفحاتها، وكان مركز أفكاره توحيد الحركة الثورية المشتتة في تنظيم موحد وتكون أداة هذا التنظيم الأساسية هي الجريدة السياسية التي لا يقتصر دورها “على مجرد نشر الأفكار والتثقيف السياسي، وتجنيد الحلفاء. فالجريدة ليست فقط الداعية الجماعي والمحرض الجماعي، وإنما هي أيضا المنظم الجماعي.”
ومن فهم لينين لأهمية التنظيم توصل لأهمية المركزية، والتي عن طريقها فقط يستطيع الثوريون إسقاط الحكم الاستبدادي، وذلك بتوحيد الحركات الجماهيرية المتعددة التي تقوم في البلاد ضد السلطة في حركة موحدة لكل البلد، ليس هذا فقط، فالمركزية تعمل على تماسك التنظيم ووحدته وحمايته ضد التأثيرات السياسية الخارجية، وكما وصفها لينين المركزية دائما “حالة طوارئ ضد المصادر الكثيرة للتذبذبات السياسية.”
ولم يتوصل لينين إلى تطوير مبدأ المركزية الديمقراطية إلا بعد ثورة 1905، فقبل ذلك كانت أفكاره تقترب من المركزية المطلقة، فهو يقول “إن المطالبة بتطبيق قواعد ديمقراطية ليست طوبوية وحسب، بل مسخرة أيضا” ولكن بعد النهوض الثوري، وفي مؤتمر لندن عام 1905، يؤكد لينين على “الأولوية الكاملة للمبدأ الانتخابي”. لقد اكتشف لينين في الثورة أن مبدأ اختيار المستويات العليا للمسئولين في المستويات الأدنى عجز عن أن يكون أشخاصا على مستوى الأحداث الثورية، لذلك تخلى عنه ببساطة لصالح المبدأ الانتخابي، والذي لا يتعارض مع المركزية، ودائما يندمج معها ليشكلا المركزية الديمقراطية، أو “حرية المناقشة ووحدة العمل.”
لا يتخلى لينين عن أخطائه بكثير من الصخب، ولكن في هدوء. فقبل 1905 كان يقول أن عفوية العمال لا يمكن أن تصل إلى الوعي الاشتراكي وأنها تصل فقط إلى الوعي النقابي. وأن الأفكار الاشتراكية هي نتاج تطور النظريات الفلسفية والتاريخية والاقتصادية التي وضعها المثقفون، لذلك يجب نقل الاشتراكية إلى العمال من الخارج، أي من خارج الطبقة العاملة، ولكن مع النهوض العفوي للعمال في 1905 وتكوين السوفيت (جنين الحكومة الثورية) تحول لينين عن رأيه القديم الذي شرحه في “ما العمل؟” ليصرح بأن “الطبقة العاملة اشتراكية ديمقراطية عفويا وغريزيا”، إن هذا الرأي الأخير الذي لم يفصله لينين كما فصل رأيه الأول يثبته استقراء التاريخ، فأفكار ماركس “الهيجلية اليسارية” لم تتطور باتجاه طبقي إلا بعد اتصاله بحلقات العمال الثوريين في باريس، وبعد استيعابه لخبرة إنجلز مع الطبقة العاملة الإنجليزية. وكانت كوميونة باريس أول شكل لديكتاتورية البروليتاريا، ولم تنشأ من رأس مفكر عبقري، وإنما من مبادرة الطبقة العاملة، والأمر بالنسبة للسوفيت لم يختلف كثيرا، وأفكار تروتسكي عن الثورة الدائمة تطورت عن طريق اتصاله بخبرة الصراع الطبقي، وكذلك أفكار لينين في كتابه “الدولة والثورة”.
إن تمسك لينين بالوحدة والتماسك والمركزية لم يدفعه أبدا إلى أن يخشى النمو ودخول أعضاء جدد أقل وعيا وأقل ثباتا، فهو يقول “سوف يكون دائما في كل حزب حي في طور النمو، عناصر غير ثابتة، متذبذبة ومترددة. لكن هذه العناصر ستترك نفسها تتأثر بالنواة الصلبة والمتماسكة.”
التكتيك
وكما كان فكر لينين حيا وخلاقا في مجال التنظيم، كذلك كان في مجال التكتيك، فعندما اتخذ بلاشفة الداخل – كان لينين منفيا قبل 1905 – موقفا عدائيا من السوفيت، ووجهوا إلى السوفيت إنذارا بأن عليه أن يوافق على برنامج الحزب ويخضع لقيادته! انتقد لينين هؤلاء البلاشفة عندما رأى أن أغلبية العمال يتبعون السوفيت، وأوضح أن المسألة ليست سوفييت نواب العمال أم الحزب، بل سوفييت نواب العمال والحزب معا. وأوضح أن كون البلاشفة ليسوا الوحيدين في السوفيت هو ميزة تجعل على الثوريين أن ينشطوا بهمة أكبر ليقوى نفوذ حزبهم في السوفيت.
وكذلك في انتخابات الدوما، فكما رأى لينين أن مقاطعة الدوما الأول وكذلك الثاني، كانت مفيدة لدرجة أن الجماهير المستجيبة لدعوة المقاطعة أجبرت السلطة على إلغاء الدوما الأول والثاني، ولكن مع هبوط الحركة وتشتتها اقتنع لينين أن المقاطعة ستكون دعوة خاسرة وحارب بشدة البلاشفة الذين أصروا على المقاطعة باعتبارها مبدأ، متجاهلين أن المقاطعة أو الاشتراك هي جزء من عملية طويلة ومعقدة من أجل تعزيز نفوذ الحزب بين الجماهير وتثبيته.
وكان موقفه من حرب الأنصار خير دليل على مرونة تفكيره وتفاعله مع الواقع، فعلى عكس المناشفة الذين رأوا في المصادرات الثورية والغارات على الشرطة انحطاطا للحركة الثورية، كان رأي لينين أن الاشتراكيين لا يفرضون على الجماهير شكل حركتهم بل هم يستفيدون من إبداع الحركات الجماهيرية، ويعملون على تعميم خبراتها، فالأفكار الثورية ليست عقيدة جامدة تجبر الجماهير على أن يسيروا وراءها، ولكنها منهج للعمل من أجل كسب الجماهير للهدف الأسمى، وهو الثورة، ولم يكن هناك من يفكر ويعمل للثورة 24 ساعة يوميا مثل لينين.
الثورة: من قيادة البرجوازية إلى ديكتاتورية البروليتاريا:
إن تطور فكر لينين حول الاستراتيجية الثورية يمر بثلاث مراحل: الأولى قبل 1905، فكان لينين في البداية مثله مثل كل الماركسيين الروس، يرى أن القضاء على القيصر سيكون بواسطة ثورة تقودها البرجوازية الليبرالية، توزع الأرض على الفلاحين وتقيم جمهورية برلمانية، ويكون دور الطبقة العاملة والماركسيين هو تقديم دعم مشروط للحكام الجدد، وإن كان كثير من الماركسيين الروس وبينهم لينين وبليخانوف اعتقدوا أ ن على الطبقة العاملة أن تدفع البرجوازية دفعا لتتولى دور قيادة الثورة.
ولكن بعد ثورة 1905 ظهر ضعف البرجوازية بشدة وعدم قدرتها على النضال ضد القيصرية، ورأى لينين أن “الليبرالي عندما يشتمه الشرطي، يشكر الرب لأنه لم يضربه، وعندما يضربه يشكر الرب لأنه لم يسجنه، وعندما يسجنه يشكر الرب لأنه لم يشنقه، وعندما يضعه في حبل المشنقة يشكر الرب لأنه سيخلص روحه الخالدة من جسده الزائل.” ولكن، بينما توصل تروتسكي إلى أن الأحداث الثورية ستجعل الحكومة الثورية حكومة اشتراكية، توقف لينين في المنتصف بين رؤيته السابقة ورؤية الثورة الدائمة التي صاغها تروتسكي، فكان رأيه الذي شرحه في كتاب “خطتان للاشتراكية الديمقراطية في الثورة” هو أن البرجوازية غير قادرة على قيادة الثورة، فعلى الطبقة العاملة أن تتحالف مع الفلاحين لإقامة حكومة ديمقراطية تكمل الثورة البرجوازية، أي تدمر بقايا الإقطاع وتحافظ على الملكية الخاصة وتقيم برلمانا، وقد صاغ لينين مقولته الشهيرة “بالديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفلاحين”، هذه الصياغة التي رأى أنها ستحكم عملية تحقيق الثورة البرجوازية الديمقراطية. ولكن لينين في هذا الكتاب بالغ في تقدير تماسك الفلاحين وتوحدهم، كما أن صيغته تقع في تناقض هام هو أن الأحداث الثورية والأزمة المحتدمة سوف تدفع الجماهير التي استغلت لزمن طويل وقمعت واضطهدت إلى تحدي أساس كل ذلك والمتمثل في الملكية الخاصة، فالجماهير المحرومة سوف تهجم على مظاهر التفاوت الطبقي وتدمرها، وعلى البضائع المكدسة لدى الرأسماليين وتنهبها، والعمال الذين رضخوا طويلا لعجرفة وتعالي مديري المصانع وأصحابها سوف يطردونهم بلا أدنى شفقة ويستولون على المصانع، عندئذ إما أن يعترف حزب العمال الموجود في السلطة بشرعية عمل الجماهير ويعطيه صيغة قانونية فيكون قد بدأ اتخاذ إجراءات اشتراكية، وتجاوز مفهوم الثورة البرجوازية الديمقراطية، أو يرفضها فيصبح على “يمين” الجماهير ويخاطر بفقدان تأييدها أو بهزيمة الثورة ككل. وقد شرح تروتسكي ذلك تفصيلا في كتابه الثورة الدائمة في مواجهة آراء المناشفة وآراء لينين والبلاشفة.
في عام 1917 تخلى لينين ببساطة ودون صخب عن أفكاره حول “الديكتاتورية الديمقراطية للعمال والفلاحين” ليتبنى شعار (كل السلطة للسوفييتات) ويطرح على الجماهير برنامجا اشتراكيا في “موضوعات أبريل”. وفي نفس الوقت يتبنى برنامج الاشتراكيين الثوريين في توزيع الأرض على الفلاحين لكسب تأييدهم للثورة العمالية.
والحديث عن تجربة هذا الاشتراكي الثوري الفذ – لينين – لا تكفيه تلك السطور القليلة، ولكننا أردنا فقط أن نشدد على أهمية استلهام خبرة لينين وشجاعته وإرادته الصلبة التي تجلت في أكثر من مناسبة، منها موقفه من الحرب الإمبريالية عام 1914 التي شاركت فيها روسيا، وانحطت خلالها الأممية الثانية إلى تأييد أكبر أحزابها – الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني – لاعتمادات الحرب، وأصر لينين على تبني الثوريين لموقف الانهزامية الثورية، وتحويل الحرب الإمبريالية إلى حرب أهلية من أجل انتصار الثورة العمالية وديكتاتورية البروليتاريا. لقد أثبت لينين دائما، وفي كل الأحداث، قدرته الفائقة على الاستجابة لحاجات الواقع والاستفادة القصوى من خبرات ودروس الأحداث وصياغة كل ذلك في ارتباط وثيق مع الماركسية من أجل صياغة نموذج للنظرية المنتصرة في الواقع، فكانت اللينينية هي الطريق الذي سار فيه البلاشفة – ليس بدون أخطاء، وليس بدون تعرجات – يحركهم شغف واحد وهدف واحد وفكرة واحدة.. الثورة.