دور الحزب الثوري
مع سقوط الستالينية ظهرت ميول كثيرة نحو إرسال اللينينية أيضا إلى مزبلة التاريخ. وقد عبر إريك هوبسباوم عن ذلك بقوله: “لاشك أن ماركسية لينين تعاني من أزمة عميقة، وربما تؤدي للقضاء عليها في الوقت الحاضر، وفي اعتقادي، أن عصر ثورة أكتوبر قد ولى وانتهى.” (مجلة ماركسيزم توداي – يناير 1990).
وعادة مع يتم النظر لماركسية لينين على أنها تعني أمرين: أولهما هو النضال الثوري، وثانيهما – ربما بدرجة أكثر شيوعا – هو الحزب الثوري.
ويسود الاعتقاد بأن الحزب البلشفي الذي أسسه لينين هو الذي أدى إلى الستالينية. وجميع الكوارث التي حدثت خلال عقد الثلاثينات تلقى مسئوليتها على أولئك الذين بنوا حزبا عماليا ثوريا في روسيا عندما كانت تحت حكم القيصر. كما أن كثيرا من اليساريين يربطون بين اللينينية والنزعة المركزية وغياب الديمقراطية والنظام الاستبدادي الصارم.
وليس عسيرا ملاحظة أسباب ذلك الاعتقاد. فلقد سيطر حكم الحزب الواحد على الأنظمة “الشيوعية” المزعومة، وكانت عضوية الحزب في تلك الأنظمة تعني الحصول على المزايا والترقي بدلا من النضال المشترك.
ومع ذلك هناك كثيرون ممن لا زالوا يتبنون آراء لينين في التنظيم الثوري، والذين يرون أنها الطريقة الوحيدة لنجاح النضال ضد النظام الرأسمالي. ولفهم السبب في ذلك علينا أن نوضح ما نعنيه حقا بالحزب اللينيني ولماذا يشكل جزءا حيويا من نضال الطبقة العاملة.
إن الأحزاب عموما تمثل مصالح طبقات اجتماعية مختلفة، ولكنها لا تفعل ذلك بالضرورة بطريقة مباشرة. وينطبق ذلك على مجموع الأحزاب العمالية أيضا. فالأحزاب الإصلاحية التي تضم أعدادا كبيرة من الطبقة العاملة قد اتسعت وتزايد عددها خلال هذا القرن، وعادة في تزامن مع اتساع حق الانتخاب ليشمل جماهير الطبقة العاملة، وهي تسعى إلى تمثيل الطبقة العاملة ككل. وبالنسبة للعديد منها يعد الحزب هو الطبقة العاملة نفسها، ومصالح الطبقة تتطابق مع مصالح الحزب، والنضال والتغيير يجوز أن يحدث فقط داخل الحزب نفسه. كان هذا هو الرأي السائد لدى أغلب قيادات الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني قبل 1914، وهو أكبر حزب إصلاحي في الطبقة العاملة. وقد تبنى الحزب كل جوانب حياة العمال من نشر جرائدهم اليومية إلى إدارة الأندية العمالية.
وتتبنى العديد من الأحزاب الإصلاحية اليوم نفس هذه الأفكار، والتي لا تتصور أي نضال أو نشاط يتم خارج أطر الحزب وتعتقد أن أي نشاط عمالي يجب أن يتم من خلال حزبهم الذي يمثلهم تاريخيا. وفي الواقع لم تمثل الأحزاب الإصلاحية أبدا حركة الطبقة العاملة بأسرها – وهي قطعا لم تهيمن على كل أو حتى أغلب نضالات الطبقة العاملة. فعادة ما تقوم هذه النضالات خارج أطر الإصلاحية، وعلى الرغم من أنها تلقى تأييدا من بعض الإصلاحيين، إلا أن الأحزاب الإصلاحية غالبا ما تواجهها بالرفض أو السلبية.
الأمر الجوهري في ذلك هو أن أي حزب يتبنى بالفعل رؤية التغيير الثوري للمجتمع لا يستطيع ببساطة أن يمثل الطبقة كلها. فوعي الطبقة العاملة في ظل الرأسمالية وعي غير متكافئ: وأن يمثل الحزب الطبقة كلها يعنى أن يمثل أكثر قطاعاتها تخلفا تماما كما يمثل أكثر القطاعات تقدما. ولهذا السبب مثلا، نجد الأحزاب الإصلاحية دائما أشبه “بالملتقى الواسع” الذي يضم في صفوفه أعضاء عنصريين وعناصر تميز ضد المرأة، وفي نفس الوقت يضم في عضويته عناصر تناضل ضد العنصرية وضد التمييز ضد المرأة.
ولا تستطيع الأحزاب الإصلاحية أن تكون ملتقى واسع بهذا المعنى إلا إذا التزمت السلبية والنهج الانتخابي بدلا من النضال. ويسمح ذلك لهذه الأحزاب أن تصبح منظمات كبيرة، ولكنه في نفس الوقت يجعلها عديمة الفاعلية، وعاجزة عن النضال الحقيقي لتلبية مطالب أعضائها.
وقد أدى إدراك هذه الحقيقة على مر السنين إلى أن يهجر الاشتراكيون الأحزاب الإصلاحية وأن يبنوا منظمات اشتراكية مستقلة عنها. ويعد ذلك ضرورة حيوية إذا كنا نسعى لبناء منظمة ثورية حقا، ولكنه ليس بالأمر السهل. فالعمال لا يهجرون الأحزاب الإصلاحية بأعداد واسعة ويتجهون لأحزاب ثورية إلا خلال النضال. وفي غياب هذا النضال تتركز مهام الحزب الثوري على الدعاية الروتينية للأفكار إلى جانب مستوى منخفض من التحريض.
إن غياب التضامن الواسع من خلال النضال يمكن أن يؤدي إلى محاولات البحث عن طرق مختصرة، والتي عادة ما تأتي كوسيلة لتجاوز الفجوة بين ما هو ضروري لتحقيق الاشتراكية والمستوى المنخفض لنضال الطبقة العاملة. ولكنها أيضا تؤدي إلى نوع من النخبوية التي تفترض بداءة أن الحزب يدرك الأمور بطريقة أفضل. ويصبح الحزب بديلا للطبقة العاملة وبديلا عن النضال الحقيقي للطبقة العاملة، فيتحرك نيابة عنها. ويصبح الحزب في نظر أعضائه هو الطليعة التي تمتلك برنامجا صحيحا ولا ينقصه إلا أن تتبناه الطبقة العاملة.
غالبا ما يتم النظر إلى هذه المنظمات باعتبارها منظمات لينينية، وأحيانا ما يكون ذلك لأنها تستخدم نفس المقولات. غير أنها لا تشترك في كثير مما اعتبره لينين تنظيما ثوريا، ولا مع الحزب البلشفي بالصورة التي تطور بها قبل 1917.
فمفهوم لينين للحزب هو أن جذوره تمتد داخل الطبقة العاملة وأن هذا الحزب يكون جزءا من الطبقة العاملة نفسها. وهو حزب طليعي بمعنى أنه يضم أفضل المناضلين داخل الطبقة ويركز أفضل خبراتها. ويعد هذا الحزب ضروريا لسبب هام. فمستويات الوعي داخل الطبقة العاملة غير متساوية، وأقلية منها فقط يصبحون ثوريين على الأقل حتى يسود وضع ثوري متكامل. وعلى هؤلاء الثوريين أن يخوضوا نضالا للدفاع عن أفكارهم الثورية داخل الطبقة العاملة، وعليهم أن يفعلوا ذلك من خلال الممارسة – أي بتحدي النظام القائم على مستوى الأحداث اليومية من خلال الإضرابات والمظاهرات الخ – ومن خلال الأفكار.
ولذلك لابد أن يكون الحزب الثوري الحقيقي منظمة من المناضلين القادرين على التحرك الجماعي لتحقيق أعلى تأثير داخل مواقع عملهم وفي مناطق أخرى، ويجب كذلك أن يكون ذاكرة للطبقة – أي الإطار الذي يتم فيه مناقشة التاريخ، ويتم فيه الإعداد النظري المرتبط بالممارسة، وتعلم دروس النضال.
وحتى يستطيع الحزب الثوري أن يتحرك على هذين المستويين لابد أن يكون هيكله مختلفا تماما عن الأحزاب الإصلاحية – فيجب أن يعتمد على المركزية الديمقراطية في بنيته التنظيمية.
هذا المصطلح نفسه يبدو متناقضا. فكيف يمكن تطبيق الديمقراطية من خلال بنية تنظيمية مركزية؟ ولكن المركزية هي النتيجة المنطقية للمساجلات الديمقراطية الحقيقية. فيجب مناقشة القضايا والمساجلة حولها وأحيانا الصراع عليها. وبمجرد حسمها يجب على الجميع – بغض النظر عن موقفهم خلال المساجلة – أن يلتزم بالقرار ويعمل على أساسه. ربما تدور مناقشات ومساجلات داخل الأحزاب الإصلاحية – ولكن لا يوجد لديها ما يلزم الأعضاء بقرارات محددة. لذلك تكون العلاقة بين النقاش والنشاط الفعلي هامشية، ويذهب كل ذي موقف معين في اتجاهه الخاص. وفي الحقيقة أن هذا الشكل من غياب الالتزام والمحاسبة – مثلا عندما يتجاهل ممثلو الأحزاب الإصلاحية في البرلمان قرارات المؤتمر دون التعرض لعقاب – هذا الشكل تنعدم فيه الديمقراطية تماما.
هكذا، فالمركزية الديمقراطية تقوم على أساس احتياجات الطبقة، وليس على أساس رغبة قيادات المنظمة الثورية في السيطرة، أو على أساس أي نزعة استبدادية داخلية.
وليس الحزب الثوري قيادة ثابتة دائما ما تكون على حق. فمفهوم لينين للقيادة يختلف تماما عن الآراء النخبوية عن القيادة الشائعة في ظل الرأسمالية، وطبعا تختلف عن الآراء الاستبدالية التي يتبناها بعض اليساريين الذين يعتقدون أنهم يشكلون الطليعة. فهي تنطلق هي الأخرى من عدم تكافؤ الوعي داخل الطبقة العاملة، ومن حقيقة أن الأفكار السائدة في المجتمع هي أفكار الطبقة الحاكمة. ولمقاومة هذه الأفكار يحتاج أكفأ العمال من ناحية الوعي الطبقي لأن يخوضوا نضالا نشطا. ويتحقق ذلك من خلال تشكيل الحزب من جانب، ومن خلال النضال داخل حركة الطبقة العاملة أيضا. وعلى كل عضو في الحزب أن يحاول أن يكون قائدا داخل حركة الطبقة العاملة.
ولهذا فإن القيادة تعني معرفة كيف نناضل ضد أفكار الطبقة الحاكمة التي يقبلها أغلب العمال في معظم الأحيان، وهي أيضا تعني معرفة كيف نوجه قوة الطبقة العاملة سواء في إضراب صغير أو في الانتفاضة. وينبغي أن يكون أعضاء الحزب الثوري أكثر كفاءة بكثير من الآخرين في القيادة بهذا المعنى. وهذا لا يعني أنهم دائما ما يقومون بذلك، أو أنهم دائما على حق. فغالبا، خاصة في أوقات تصاعد الصراع الطبقي، يمكن أن يكون هؤلاء الثوريين الذين ناقشوا السياسة الاشتراكية طيلة سنوات أبطأ من يدركون الحالة النضالية داخل الطبقة العاملة.
وينطبق ذلك حتى على الحزب البلشفي في 1917، وقد وصف تروتسكي كيف ساد على الكثير من القادة البلاشفة ذوي الخبرات الرفيعة روح المحافظة والتلكؤ قائلا:
“إن كل حزب، حتى أكثر الأحزاب ثورية، لابد أن ينتج نزعة بيروقراطية محافظة بالضرورة، وإلا فسوف يفقد استقراره الضروري. وهذا الأمر برمته يتعلق بالدرجة. ففي أي حزب ثوري، يجب الدمج بين الجرعة الضرورية جدا من النزعة المحافظة مع التحرر الكامل من الروتينية، بالمبادرة في التوجه والجرأة في الفعل.”
ويستطرد قائلا: “إن كلا من النزعة المحافظة والمبادرة الثورية تجد التعبير المركز عنها في هيئات الحزب القيادية.” (كتاب دروس أكتوبر).
ولكن عموما، أينما وجدت حركة نضالية غالبا ما يكون الثوريون في مقدمتها، وجزءا منها، ويناضلون بدأب ضد الإصلاحيين من أجل قيادتها إلى الانتصار.
إن القيادة داخل الطبقة تعني أيضا القيادة داخل الحزب، والتي تناضل من أجل مواقفه السياسية وتناضل من أجل تنفيذ القرارات التي اتخذت. ولكن هذه القيادة يجب أن يتم اختبارها بصورة مستمرة حول مدى صحة قراراتها، وحول تنفيذ هذه القرارات …الخ.
إن نظرية الحزب اللينينية مثلها مثل الجزء الأعظم من النظرية الماركسية نشأت من خبرة محاولة بناء المنظمة. وكما أوضح جون مولينو:
“إن ميل المنظرين الستالينيين إلى كتابة تاريخ روسيا الثوري كما لو أن هناك بطلين اثنين فقط هما الشعب الروسي ولينين، خلق صورة للبلشفية وكأنها اختراع لينين مثلما كان المحرك البخاري اختراع وات. وفي الحقيقة إن تجاوز التدرج في مجال التنظيم كان نفسه تدريجيا ولم يكن عملية واعية تماما بل عملية شبه واعية على الرغم من أنها تتميز بكثير من الصراعات الواعية الحادة.” (كتاب: الماركسية والحزب).
إن التحول إلى منظمة مركزية ديمقراطية – أي تحويل حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي إلى منظمة “لينينية” – تحقق في عام 1903. وجاء نتيجة لأمرين: الأول هو ظروف القيصرية التي فرضت درجة من السرية والنظام حتى يتمكن الاشتراكيون من العمل والفاعلية، والأمر الثاني هو تطور شريحة من الاشتراكيين داخل الحركة لديهم استعداد للتحدث عن الاشتراكية ولكنهم غير مستعدين لربط حديثهم بممارسة ثورية.
هكذا فقد دفع لينين إلى الانشقاق المعروف للمناشفة والبلاشفة داخل حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي على أسس تفصيلية تافهة من الناحية الظاهرية – ولكن في حقيقته على أساس الالتزام الفعلي بالنضال من أجل الاشتراكية.
ومنذ ذلك الحين حتى انتصار الثورة في 1917، ناضل لينين باستمرار من أجل أن يكون الحزب كيانا قائدا داخل الطبقة العاملة، ولكنه أيضا يتجنب التواؤم مع تذبذب صراعات الطبقة العاملة – أي تجنب الذوبان داخل الصراع أو الوقوف معزولا عنه.
وجاء اختبار البلاشفة في 1917، عندما أصبح الحزب فعليا حزبا جماهيريا للطبقة العاملة وحيث سمحت له بنيته المركزية الديمقراطية بقيادة النضال خلال التقلبات العديدة صعودا وهبوطا وحتى الانتصار النهائي في أكتوبر.
إن مقارنة ذلك مع ألمانيا، حيث كانت حركة الطبقة العاملة أقوى من الناحية الظاهرية، توضح مدى اتساع الاختلاف. فقد أيد الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني – وهو أكبر أحزاب الطبقة العاملة آنذاك – الحرب الإمبريالية في 1914، وخان ثورة الطبقة العاملة في 18-1919. ووجد أولئك الذين تبنوا نفس مبادئ لينين السياسية، مثل روزا لوكسمبرج، وجدوا أنفسهم في عزلة بدون حزب ثوري جماهيري للمساعدة في قيادة الثورة.
وبعد 1917 حاول الاشتراكيون في جميع أنحاء العالم بناء أحزاب على النموذج اللينيني. وفي وضع ثوري مثل الذي ساد في أغلب أنحاء أوروبا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى كانت الأحزاب اللينينية تعتبر أكثر وسيلة فعالة في التنظيم. ودفعت تجربة روسيا كثيرا من العمال للإيمان بأن التنظيم اللينيني هو الوسيلة التي يستطيع العمال أنفسهم بواسطتها النجاح في تحدي سلطة الدولة الرأسمالية والاستيلاء على السلطة لأنفسهم.
كان النموذج البلشفي مناسبا في وقت كانت الأحزاب القديمة تفقد مصداقيتها وبدا أن الثورة على الأبواب. ولكن مع عودة الاستقرار للنظام الرأسمالي، ومع محاولة الأحزاب الإصلاحية الكبيرة الوقوف على رأس الصراع مرة أخرى، تبددت آمال الثورة المختلفة وتدهورت نحو الهزيمة.
وكان انعزال روسيا في المقابل يعني أن الثورة قد ضاعت. وبحلول نهاية العشرينات كان ستالين يدفع الاتحاد السوفيتي في اتجاه المنافسة مع الغرب – بكل ما يترتب على ذلك من نتائج. فقد تزايد معدل الاستغلال بصورة هائلة، وتم تطبيق التجميع القسري في الزراعة، وصحب ذلك كله درجة مهولة من القمع.
كثير من هذه الإجراءات تم تنفيذها باسم الحزب. ولكن في الواقع، كانت السلطة قد احتفظت بأبشع المصائر لأولئك الذين بنوا البلشفية قبل عام 1917. فقد صفى ستالين تقريبا كل “البلاشفة القدماء” البارزين. وعند ذاك أصبح الحزب حزب البيروقراطية التي كانت مسئولة عن استغلال العمال – وليس حزب الطبقة العاملة.
لم يكن ما حدث حتميا. فقد استمر انتشار الأفكار والحريات في كل جوانب الحياة، تلك التي انتعشت بعد 1917 مباشرة، لمدة طويلة بشكل ملحوظ في ضوء ظروف العزلة القاسية، والمجاعة والحرب الأهلية والندرة العامة والتخلف الثقافي، التي عانت منها روسيا بعد الثورة. ولكنها (أي الحريات والأفكار الثورية) لم تستطع الإفلات من الثورة المضادة الضرورية لدفع الاقتصاد “للحاق بالغرب وتجاوزه.”
يرى الكثيرون أن تاريخ روسيا قد أبطل من مشروع لينين. ولكن الأمر على عكس ذلك. فالثورة العمالية التي قادها البلاشفة والسنوات القليلة التي تلتها كانت الفترة الوحيدة في التاريخ الروسي التي سمحت سيطرة العمال على المجتمع بالحريات الحقيقية. وأي نظرية للتغيير الثوري اليوم يجب أن تحتوي مسألة التنظيم: أي الحزب الثوري.
فجميع جوانب المجتمع التي دفعت لينين لبناء الحزب البلشفي لازالت قائمة في عصرنا الحاضر. فالنظام القائم على الاستغلال الذي نعيش في ظله تدافع عنه آلة دولة تسعى لضمان استمرار حكم الرأسمالية. ولا يمكن مواجهتها إلا من خلال منظمة مركزية، لا تقوم على السعي وراء الانتخابات البرلمانية التي لم تكن أبدا قادرة على التصدي لسلطة الدولة، ولكن تقوم سياستها على مجالس العمال التي يمكن أن تصبح مرتكزا لسلطة بديلة – أي سلطة العمال.
هذا السبب وحده – أي الحاجة إلى مواجهة وتحطيم الدولة الرأسمالية – يعد مبررا كافيا لبناء حزب ثوري. ومن يرفضون فكرة بناء هذا الحزب الثوري هم أنفسهم الذين يعتقدون أن الدولة محايدة يمكن أن تخضع لسيطرة العمال. إن كل الخبرة التاريخية تكشف مخاطر هذه الرؤية، أي كيف يمكن أن تؤدي محاولة الإصلاح السلمي للنظام إلى ثورة مضادة عنيفة كما حدث في شيلي على سبيل المثال.
ولكن الحزب أيضا يلعب دورا في الأوقات العادية، أي حين يكون مستوى الصراع أقل كثيرا من الفترات الثورية مثل عام 1917. فأولا يحافظ الحزب على الصلات بين الاشتراكيين الثوريين وحركة الطبقة العاملة. وثانيا، يتيح الفرصة للاشتراكيين المتجمعين في اتحادات أو جبهات أو في مواقع العمل للمناقشة حول موقف أو تكتيك معين. وبالتالي فهو يمكن الاشتراكيين من الممارسة بطريقة أكثر كفاءة وفاعلية.
ويسعى الحزب أيضا إلى تجاوز الانقسام بين السياسة والاقتصاد في المجتمع الرأسمالي. ففكرة أن النضال السياسي ينفصل عن النضال الاقتصادي للعمال من خلال الإضرابات وما شابه ذلك، ليست فكرة خاطئة فقط – فلا يوجد فصل حقيقي بين الاقتصادي والسياسي بالنسبة للطبقة الرأسمالية – ولكنها فكرة تساعد أيضا على تقسيم وإضعاف نضال الطبقة العاملة. ويسعى الحزب الثوري باستمرار إلى التغلب على الفصل بين النضال الاقتصادي والنضال السياسي.
والحزب أيضا يكون مصدرا للأفكار الثورية داخل الطبقة العاملة. فالحزب كذاكرة للطبقة يسعى لتعميم خبرة الثورات الماضية، والنضالات العالمية، ودروس النضالات النقابية. ويقوم الحزب بذلك من خلال نشراته ومؤتمراته، ولكنه يقوم بذلك بشكل خاص عبر جريدته الثورية التي تربط بين المناضلين في مختلف مواقع النضال.
وحتى في الفترات غير الثورية، يمكن أن يعتمد نجاح أو فشل النضال والحملات على تدخل الثوريين. إن أهمية الأفكار الثورية وارتباطها بالطبقة العاملة يمكن أن تتضح في الطريقة التي تكسب بها هذه الأفكار تأييدا واسعا في نضالات الطبقة العاملة.
ورغم ما يدعيه كل أمثال هوبسباوم، يظل الصراع الطبقي عاملا رئيسيا في تحقيق التحول الاشتراكي. وهذا الصراع الطبقي يتصاعد سواء كان هناك حزبا ثوريا أو لم يكن. ولكن التدخل المنظم من قبل الثوريين الواعين طبقيا يمكن أن يؤدي إلى نتائج مختلفة تماما.
إن حزبا تمتد جذوره داخل الطبقة العاملة لهو أمر شديد الأهمية في هذا التدخل الواعي وهو العامل الرئيسي في النجاح النهائي للنضال. ولهذا، فعلى عكس الزعم بأن نظرية لينين عن الحزب لم تعد مناسبة للعصر، نجدها ضرورية إذا كان للطبقة العاملة أن تنجح في إنجاز الثورة الاشتراكية.