دور العنف في التاريخ
ما هو بالتحديد الدور الذي يلعبه العنف في تاريخ البشرية وفي حاضرها: حول الإجابة على هذا السؤال دارت، ولا تزال تدور، نقاشات كثيرة لا تنتهي. فخصومنا – خصوم الاشتراكية – يرون أن العنف من طبيعة الإنسان، وإنه هو الخطيئة الأولى التي لوثت التاريخ كله بالدماء. وعلى أساس نظرية “العنف الغريزي أصل كل الشرور” يفسر هؤلاء كل أحداث تاريخنا “المشين” حسب ما يرون. فالعنف الغريزي هو الدافع وراء استعباد الإنسان للإنسان ووراء كل أشكال الاستغلال الطبقي، وهو أيضًا الذي يفسر الحروب والمجازر المتواصلة منذ ما قبل التاريخ وحتى عصر القنبلة الذرية! وغالبًا ما ينهي أصحابنا “المسالمين” أصحاب نظرية “العنف هو العلة الأولى” جولتهم في تفسير التاريخ الإنساني بإدانات أخلاقية مجردة لكل وأي شكل من أشكال العنف مهما كانت دوافعه. فلدى هؤلاء شعار واحد مبتدل لا يتبدل: “كل التاريخ عنف، وكل عنف مدان” – يتساوى في هذا عنف الطبقات الخاضعة من أجل إسقاط السيطرة الاستغلالية، وعنف الطبقات المستغلة من أجل الإبقاء عليها! وهكذا تؤدي الأخلاق الحميدة وكراهية العنف ليس فقط إلى الابتدال وإنما أيضًا إلى تبرير الخضوع للقهر.
على أن الأفكار التي يطرحها ويدافع عنها خصوم الاشتراكية قفي مسألة دور العنف في التاريخ لا تتصف بأي قدر من المصداقية أو العلمية، وإنما هي تصنف في خانة الدجل والشعوذة الذي يرتديا رداء العلم لكي يكتسبا الهيبة اللازمة للإقناع. فلا العنف من طبيعة البشر، ولا هو محرك التاريخ، ولا هو أساس الاستغلال الطبقي. العنف البشري ليس هدفًا وإنما هو مجرد وسيلة للإبقاء على الاستغلال الطبقي، ولتحقيق الطموحات السياسية للطبقات الصاعدة تاريخيًا. وبديهي أن العنف بهذا المعنى – كأي وسيلة أخرى – لا يفسر التاريخ، وإنما التاريخ هو الذي يفسره. فعلى أساس من فهمنا لتطور أساليب البشر في تنظيم علاقاتهم الإنتاجية يمكننا أن نفسر كيف أصبح عنف المنظم ضرورة في مرحلة تاريخية معينة لتحقيق أهداف أصبحت ممكنة موضوعيًا. وفي مسار التاريخ الإنساني لم يكن بمقدور أي طبقة محتضرة تنهشها عوامل التحلل الاقتصادي والاجتماعي، مهما استخدمت من وسائل عنيفة، أن تحتفظ لنفسها بحق الوجود والاستمرار. صحيح أن إنهاء الحكم السياسي للطبقات المسيطرة التي غربت شمسها وحلول طبقات أخرى محلها كان غالبًا ما يتطلب معركة عنيفة ويلاقي مقامة مستميتة، إلا أن هذا العنف يلعب هنا، على حد تعبير فريدريك انجلز (أحد مؤسسي المذهب الاشتراكي الثوري)، دور “الأداة التي تشق الحركة الاجتماعية الطريق بواسطتها وتحطم الأشكال السياسية الميتة المتحجرة”. ومن هذا المنطلق فإن الاشتراكيين لا يقدمون إدانات جاهزة لكل وأي عنف. فليس هناك – من وجهة نظر المعايير الأخلاقية الثورية – مسافة أبعد من تلك التي توجد بين العنف الجماهيري بغرض نيل الحرية والقضاء على الاستبعاد، وبين عنف وإرهاب المسيطرين بغية إطالة أمد عهد الذل الطبقي.
وفي هذا المقال سنحاول أن نجيب على مجموعة من الأسئلة حول العنف ودوره في التاريخ. وسنرد أيضًا على الأكاذيب التي تقول أن العنف من طبيعة البشر. ثم ندافع عن الموقف الثوري الصحيح في مسألة العنف ودوره في تحقيق الاشتراكية.
السؤال الأول: هل العنف طبيعة بشرية؟
ليس هناك في الحقيقة ما هو أكثر سخافة من الفكرة التي تقول أن العنف هو غريزة بشرية وأن الإنسان، كالحيوان بالضبط، تحركه غرائزه العدوانية. تستند هذه الفكرة إلى عدد من الأوهام والتلفيقات. فهي تدعي أن التعصب والعنف والاعتداء الجماعي هم صفات وراثية. يتهم أنصار هذه الفكرة الماركسية بأنها تنكر الأساس الوراثي البيولوجي لفظائع المجتمع الحديث، وتركز فقط على عوامل ثانوية هي البيئة والظروف الاجتماعية التاريخية. بل أن أحد أساتذة علم النفس المصريين ذكر مؤخرًا في حوار صحفي – بلهجة العالم الخبير – أن الدليل على أن العنف من طبيعة البشر هو السلوك العنيف للطفل الرضيع الذي يبدأ حياته “بعض” ثدي أمه!!
وجه الخطأ في هذه الفكرة التي تنكر وجود أي فروق أساسية بين الإنسان وأسلافه في مملكة الحيوان هي أنها تتجاهل أهم سمة مميزة للتكوين الوراثي للإنسان مقارنة بأقرب أقربائه من الحيوانات. فبينما نجد أنه حتى أكثر الحيوانات تشابهًا من الناحية الوراثية مع الإنسان – الغوريلا والشامبانزي، مبرمجة وراثيًا بطرق محدودة تجعلها قادرة على سلوك مناسب فقط للحياة في بيئات محددة؛ بينما نجد هذا في الحيوانات القريبة منا نجد في المقابل أن الإنسان ينفرد بصفة أنه يمتلك المرونة التي تجعله قادرًا على مواصلة العيش وتحقيق تقدم في كل مكان على ظهر الأرض. فالغوريلا لا تتواجد خارج الغابات الاستوائية المطيرة، والشمبانزي لا يعيش خارج غابات أفريقيا جنوب الصحراء، ولكن الإنسان استطاع منذ عصوره الأولى قبل نصف مليون عام على الأقل أن يعيش في مناطق مختلفة على مساحات شاسعة من أفريقيا وآسيا وأوربا. ولذلك فإن خصوصية الإنسان الجينية هي أنه بالضبط ليست لديه خصوصية وليس مقيدًا بإطار ضيق من السلوك الغريزي. وبالتالي فإن أي محاولة لإثبات “طبيعة الإنسان العنيفة” من مراقبة سلوك الحيوانات هي محاولة خاطئة لأنها ببساطة تتجاهل على الأقل 4 ملايين عام من التطور، وهي الأعوام التي تفصل بين عصرنا الراهن والوقت الذي انفصل فيه أسلاف الإنسان عن أسلاف أقرب أقربائنا من الحيوانات المعاصرة كالغوريلا. وقد تميز التطور الإنساني المستقل منذ ذلك الحين – وبالذات منذ 2.5 مليون عام – بالدور الجوهري للعمل واستخدام اليد – التي أصبحت حرة منذ أن وقف الإنسان على قدميه – في صنع الأدوات واستخدامها. وقد ميزا هذا التطور الإنسان – شيئًا فشيء وعلى مر السنين – بطريقة جوهرية عن باقي الحيوانات، حيث أصبحت أفعاله وسلوكه غير محددين وراثيًا وإنما يتم تعلمهما ومكتسبين بالخبرة، وأصبح عنفه بالتالي ليس صفة وراثية وإنما سلوك اجتماعي تفسره التطورات والصراعات الاجتماعية.
السؤال الثاني: هل كان الإنسان البدائي متوحشًا؟
معظم المفكرين الرجعيين – خاصة بعد الضربات التي تلقتها نظرية الأساس الغريزي للعنف البشري – بدأوا يتحولون إلى تبني نظرية ذات أساس ثقافي – اجتماعي لتفسير عنف البشر. فهم يدعون أن المجتمعات الإنسانية البدائية كانت فيها تمييزات طبقية واضحة، وكانت تعيش تحت نيران الطغيان الوحشي العدواني للرجال القتلة. وبما أن الإنسانية عاشت معظم عمرها تحت ظل التنظيم البدائي لا تحت ظل الحضارة، التي بدأت بوادرها فقط منذ ما لا يزيد على سبعة آلاف سنة، فإن النتيجة المنطقية التي يتوصل إليها هؤلاء الرجعيون هي أن ما يتوافق مع طبيعة البشر أكثر هو العنف والدموية!
ولكن الدراسات الحديثة للمجتمعات البدائية التي تعتمد على الصيد وجمع الثمار أو على أنواع من الزراعة الأولية – حتى تلك الدراسات التي أجراها باحثون غير متعاطفين مع الأفكار الاشتراكية – تثبت بالضبط عكس ما يدعيه الرجعيون. فمجتمعات الصيد وجمع الثمار عادة ما تكون تجمعات صغيرة ما بين ثلاثين إلى أربعين شخصًا. وبشكل دوري تلتقي هذه المجتمعات لتشكل جماعات أكبر لا تزيد على مئات قليلة. وفي هذه الجماعات لا توجد قيادات رسمية أو انقسامات طبقية أو ملكيات خاصة للموارد الطبيعية. والقيم التي يتم التركيز عليها هي قيم المساواة والكرم. فقبائل البوشمان التي تعيش في صحراء كالهاري في أفريقيا على سبيل المثال تعيش حياة مساواة كاملة بين أفرادها. وبين البوشمان توجد أنواع من الزعامة، ولكنها تختلف جذريًا عن تلك التي نعرفها في المجتمعات الطبقية، وذلك لأنها تعتمد على الإقناع لا فرض الإرادة. فمهما كانت مهاراتهم، لا توجد لزعامات البوشمان أي سلطة رسمية. ففي مقدورهم فقط أن يقنعوا الآخرين، لا أن يفرضوا إرادتهم عليهم.
وإلى جانب أنه لا يوجد أي أثر للعنف المنظم أو لأجهزة العنف المنفصلة عن المجتمع (جيش، شرطة،.. إلخ) في جماعات جمع الثمار والصيد، نجد أيضًا أن الدور الذي تلعبه الحروب فيما بين تلك الجماعات محدود جدًا. توجد بالطبع حالات من الصدام، ولكنها استثنائية وذات أهمية ثانوية. بل أن الدراسات قد أثبتت أن الميل للتعصب للجماعة لدى البدائيين محدود جدًا، حيث أن هناك حرية الفرد في الانفصال عن والانضمام إلى جماعات مختلفة.
أما المجتمعات غير الطبقية الأكثر تقدمًا، وهي الجماعات التي عرفت الزراعة الأولية والاستقرار، فيها أيضًا تنظيم اجتماعي مدهش لا يعتمد في أساسه على القسر والإجبار والعنف المنظم. فلننظر مثلاً إلى قبيلة سينيكا من الأيروكوا الذين ينتمون للهنود الحمر القاطنين في أمريكا الشمالية. فقد قدم أنجلز وصفًا تفصيليًا لشروط حياتهم وتنظيمهم الاجتماعي في كتابه “أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة” اعتمادًا على دراسات الباحث الأمريكي لويس هنري مورجان: 1) كل عشيرة في سينيكا (والعشيرة هي فرع من القبيلة) تنتخب زعيمًا (قائد عسكري) وساخما (شيخ في زمن السلم)؛ وبالرغم من أن وظيفة الساخم تنتقل غالبًا وفق خط وراثي إلا أن هذا ينبغي أن يتم بالانتخاب. 2) من حق العشيرة، وبكامل إرادتها، إقالة الساخم والزعيم. وهذا أمر يقرره الرجال والنساء معًا. وبعد الإقالة يصبح المقالون محاربين عاديين وأفرادًا عاديين. ومن ناحية أخرى يحق لمجلس القبيلة أيضًا (والقبيلة سلطة أعلى من العشيرة) إقالة الساخم والزعيم. 3) أعضاء العشيرة ملزمين تجاه بعضهم البعض بتقديم المساعدة والحماية. وكل فرد يعتمد على حماية العشيرة فيما يتعلق بضمان أمنه وسلامته. 4) بوسع العشيرة أن تتبنى أغرابًا وإذا ما تبنتهم يصبحون أعضاء كاملين في القبيلة. وأسرى الحرب الذين لا يقتلون يصبحون – بحكم تبنيهم في عشيرة ما – أعضاء في قبيلة سينيكا. 5) للعشيرة مجلس هو عبارة عن جمعية ديمقراطية لجميع أعضاء العشيرة الراشدين، رجالاً ونساءًا، ولجميعهم الحق نفسه في التصويت. وهذا المجلس هو الذي ينتخب الساخمات والزعماء ويتخذ القرارات الأساسية بصفته السلطة العليا في العشيرة.
ويعطينا التعليق التالي لإنجلز على التنظيم الاجتماعي لحياة الإيروكوا صورة واضحة عن المفارقة الكاملة بين حياة من نسميهم بالبدائيين وننسب إليهم كل المساوئ التي تسبب فيها نظامنا الاجتماعي وعلى رأسها العنف، وبين حياتنا نحن في المجتمعات الطبقية “المتحضرة”: “أي تنظيم عجيب هذا النظام العشائري مع كل سذاجته وبساطته! فبدون جنود وشرطة، وبدون نبلاء وملوك وحكام ومدراء وقضاء، بدون سجون، بدون محاكمات، يسير كل شيء حسب النظام المقرر. وجميع المنازعات والمخاصمات يحلها معًا أولئك الذين تمسهم – تحلها العشيرة أو القبيلة، أو بعض العشائر فيما بينها؛ ولا يظهر التهديد بالثأر إلا بوصفه الوسيلة الأخيرة، الوسيلة التي نادرًا ما تطبق.. ولا يمكن أن يكون ثمة فقراء ومعوزون، لأن الاقتصاد الشيوعي والعشيرة يعرفان واجباتهما حيال الشيوخ والمرضى ومشوهي الحرب. الجميع متساوون وأحرار، بمن فيهم النساء.”
إن هذه الصورة التي تقدمها، والتي تفقأ الأعين، لمجتمعات بدائية حقيقية ليست صورة مثالية أو استثنائية، وإنما هي صورة التنظيم الاجتماعي للبشر في معظم تاريخهم، في المرحلة التي سبقت ظهور الطبقات. ولم تكن محدودية العنف في تلك المجتمعات نابعة من “طبيعة وراثية غير عنيفة للبشر، وإنما كانت نابعة من الظروف الاجتماعية – التاريخية للإنتاج في المجتمعات ما قبل الطبقية. فمجتمعات الصيد وجمع الثمار في معظمها مجتمعات متنقلة غير مستقرة، وهذا معناه عدم القدرة على الاحتفاظ بفائض إنتاجي، وعدم القدرة على التوسع في الإنجاب وإلا صعب هذا إمكانية التنقل. والتعاون فيما بين أعضاء مجتمع الصيد والجمع هو ضرورة تفرضها شروط الإنتاج، إذ يقوم معظم الرجال بالصيد وتقوم معظم النساء بالجمع. وبما أن معظم الغذاء يأتي من الجمع، فإن هذا قد منح النساء سيطرة على جزء أساسي من المنتج الاجتماعي، وبالتالي وضعهم على قدم المساواة مع الرجال. أيضًا فإن هناك ضرورة للتبادل فيما بين من يقومون بعمليتي الجمع والصيد، لأنه في حين كانت الثمار هي الغذاء الأساسي إلا أن اللحوم كانت غذاءًا ثمينًا وهامًا. وفي مجتمع كمجتمعات الصيد والجمع المتنقلة لا يمكن للحرب أن تلعب دورًا جوهريًا فيما بين التجمعات المختلفة، وذلك لأنه لا يوجد فائض أو أراضي تم التنازع حولها في الأساس. وهذا الانخفاض في الفائض ذاته هو الذي يسمح بتقسيم العمل على نطاق واسع فيما بين أعضاء كل جماعة.
أما في مجتمعات الزراعة البدائية فإن حالة المساواة لا تزال موجودة والتعاون لا يزال يلعب دورًا جوهريًا، والعنف داخل الجماعة محدود جدًا، وبالتالي فلا توجد حاجة لأجهزة القمع والإخضاع (جيش أو شرطة). ولكن الاستقرار واختراع الأواني الفخارية وما صاحبهم من قدرة على الاحتفاظ بفوائض قد خلقوا شروطًا جديدة بحيث أصبحت الحروب فيما بين القبائل مرًا معتادًا ومستمرًا، حتى أننا مثلاً نجد أن السينيكا تنتخب قائدًا عسكريًا، وبها فئة للمحاربين لهم وضعية استثنائية (وإن كانت غير رسمية وغير معتمدة على القوة الجبرية). بل أن السينيكا تعتبر أن كل القبائل تعد في حالة حرب معها ما عدا تلك التي عقدت معها صلحًا رسميًا. وذلك كله ليس بسبب حب العنف أو الميل العدائي للبشر، وإنما بسبب التطورات الاقتصادية – الاجتماعية. فوجود فوائض وأراضي ونطاقات للسيطرة يعني في حد ذاته أن هناك شيئًا ما أصبح التنازع حوله ممكنًا. ولكن هذا بالطبع ليس الأمر الحاسم. فمجرد وجود شيء يمكن التنازع حوله لا يعني أن يقتل البشر بعضهم البعض من أجله، وإلا كان هذا معناه العودة لنظريات الطبيعة البشرية إياها. الشيء الحاسم بالفعل هو ما يخلقه الاستقرار الزراعي من توسع هائل في الجماعات البشرية. إذ يعطي الاستقرار الفرصة لأول مرة للجماعة البشرية أن تتوسع في الإنجاب، بل ويجعل هذا أمرًا مطلوبًا لأن كل طفل جديد هو إضافة “لليد العاملة” في العملية الزراعية التي تحتاج لعمل الكثيرين. ومع التوسع فإن تجاور القبائل في مناطق ضيقة – هي المناطق الأفضل للزراعة البدائية – يدفعها إلى الصراع حول الأراضي من أجل توسيع حدود قراها ومزارعها ومن أجل السيطرة على مصادر المياه.
السؤال الثالث: لماذا إذن أصبح للعنف دور كبير في المجتمعات الإنسانية؟
كتب إنجلز عن تحطيم المشاعات البدائية وإحلال المجتمعات الطبقية محلها يقول: “مهما بدا أن أناس ذلك الزمن (يقصد البدائيين) مهيبين في عيوننا، فإنه لا يمكن تمييز بعضهم عن بعض، ولم ينفصلوا بعد…. عن حبل المشاعة السري. كان ينبغي تحطيم سلطة هذه المشاعة البدائية فحطمت. ولكنها حطمت بتأثيرات تبدو لنا من الوهلة الأولى، بمثابة انحطاط، بمثابة خطيئة أصلية بالمقارنة بالمستوى الأخلاقي العالي الذي بلغة المجتمع العشائري القديم” الذي يتحدث عنه إنجلز هو الضرورة “المنطقية” لتحطيم المشاعات الأولى بكل بدائيتها وسذاجتها ومستواها الإنتاجي والتقني المنخفض. ولكن إنجلز لا يشرح لنا كيف حدث هذا عمليًا؟ حقًا، كيف ولماذا تحولت مجتمعات عاشت آلاف السنوات على المساواة والحرية إلى مجتمعات طبقية تعتمد على العنف المنظم من أجل صيانة سيطرة أقلية على أغلبية السكان؟ كيف ولماذا أصبح العنف أداة ضرورية للحفاظ على وحدة المجتمع الذي تمزقه التناقضات الطبقية؟ الإجابة الساذجة التي لا تجيب على أي شيء هي أن العنف هو سبب الاستعباد الطبقي وليس نتيجته. هذه إجابة لا تقود إلى نظريات الطبيعة البشرية العنيفة. أما الإجابة الصحيحة فهي التي تبدأ من الاعتراف بأن العنف المنظم داخل المجتمعات كان وسيلة استخدمتها طبقات برزت إلى الوجود ثم اضطرت إلى اللجوء إلى العنف كوسيلة للاحتفاظ بوضعها المميز.
تنشأ الطبقات كنتيجة للتناقضات والانقسامات التي تتزايد في المجتمع عندما يبرز في طريق جديد لتطوير الإنتاج. فئة اجتماعية بعينها تكتشف أنها تستطيع أن تضاعف الثروة الاجتماعية إذا ما أحكمت سيطرتها على الموارد وإذا ما نظمت عمل الآخرين تحت إدارتها هي. في هذه اللحظة تبدو مصلحة المجتمع ككل في عين الجماعة متطابقة مع مصلحتها هي بالذات في السيطرة. فلنعط مثلاً على ذلك. المجتمعات الزراعية الأولى توطنت في بداية نشأتها في مناطق شديدة الخصوبة. وهذا كان معناه عدم الحاجة لتطوير أساليب إنتاج زراعية متقدمة أو لتطوير تقسيم العمل الاجتماعي، فخصوبة الأرض تنتج ما يكفي ويزيد. وكان من التوسع وزيادة السكان وهلاك التربة بدأت المشاكل، وأصبحت هناك ضرورة لتطوير عملية الإنتاج من الناحيتين الاجتماعية والتكنولوجية لزيادة الإنتاجية والفائض المستخلص من كل فرد. وهذا أمر كان يحتاج تنظيم عمل نطاق أوسع من الفلاح أو الأسرة الفلاحية ويحتاج إلى إدارة وتنظيم معقدين نسبيًا. هنا تبرز الجماعات ذات الوزن الأدبي الكبير – كجماعات المحاربين أو الساخمات الذين كانوا يمتلكون نفوذًا أدبيًا بدون سلطة – لتضع على عاتقها مهمة تنظيم عمليات التوسع وحفر القنوات..الخ. وتبدأ في اعتبار سيطرتها على الفائض ضرورة وتنظيمها للإنتاج أمرًا حتميًا حتى حين يفقد نشاطها ضرورته الاجتماعية الحقيقية. ولكن هل تستطيع مواصلة سيطرتها – بالذات في ظل ظروف اقتصادية صعبة يمر بها المجتمع الذي لم يعتد بعد على اللامساواة – فإنها تحتاج بالطبع إلى فرض إرادتها بالقوة – بالعنف – على باقي المجتمع الذي يقاوم هذه السلطة الناشئة من رحم مجتمع المساواة القديم.
أقوى أشكال العنف وأكثرها بروازًا واستمرارية، وهو العنف الطبقي مثلاً في صورة الدولة وجهازها العتيد، ظهر إلى السطح إذن، كما أكد ماركس وإنجلز مرارًا وتكرارًا، عندما واجهت الندرة مجتمعًا ينمو ويحتاج بشدة إلى تطور تكنولوجي وتنظيمي كبير. وهذا هو الوجه التقدمي الإيجابي للعنف. فعلى حد تعبير إنجلز “هناك شيء واحد واضح تمامًا: طالما كان العمل البشري لا يزال قليل الإنتاجية ولا يقدم إلا فائضًا ضئيلاً عن الوسائل الحياتية الضرورية، فإن نمو القوى المنتجة وتوسيع التبادل وتطور الدولة والقانون وتكوين الفنون والعلوم – كل ذلك ما كان بالإمكان تحقيقه إلا بواسطة التقسيم المشدد للعمل الذي استند إلى أساس من التقسيم الكبير للعمل بين الجمهور المشغول بالعمل البدني البسيط وبين القليل من ذوي الامتيازات الذين يشرفون على الأعمال ويمارسون التجارة ويقومون بتصريف شئون الدولة، وفيما بعد بالفنون والعلوم وكذلك.”
ولم يكن هذا العنف الدموي الذي فرض إرادة الأقلية على الأغلبية، والذي استمر طوال آلاف السنين من بدايات ظهور الدولة حتى العبودية حتى الحروب الصليبية في العصور الوسطى حتى فظائع التراكم البدائي لرأس المال حتى مجازر الإمبريالية؛ لم يكن هذا العنف سببه تحقيق المتعة الشخصية لمن يمارسونه وإنما كان أداة لتحقيق أهداف اقتصادية طبقية. فلولا أن العبودية القديمة (في اليونان والإمبراطورية الرومانية) كنظام للإنتاج كانت مثمرة، لما أنفق المستغلون الوقت والجهد والمال من أجل الدفاع عنها بالعنف مئات وآلاف السنين. وفي المقابل، ففي بعض الولايات الأمريكية الواقعة على الحدود لم تكن العبودية الحديثة في القرن التاسع عشر مربحة اقتصاديًا فانقرضت دون الحاجة إلى حرب أهلية كتلك التي احتاجتها ولايات الشمال الأمريكي للقضاء على العبودية وتحرير ولايات الجنوب. وهكذا فإن العنف لا يفسر العملية التاريخية وإنما يلعب دور الأداة في مسار تطورها.
السؤال الرابع: هل هناك دور للعنف في الثورة الاشتراكية؟
نأتي إلى النقطة الأخيرة، التي ربما تكون أهم نقطة، وهي مسألة الدور الذي نتوقع أن يلعبه العنف في الثورة الاشتراكية. فكثيرون ممن يقولون عن أنفسهم أنهم اشتراكيون يكرهون العنف كراهية التحريم، ويؤكدون أن الإنسانية ليست بحاجة إلى يكرهون العنف كراهية التحريم، ويؤكدون أن الإنسانية ليست بحاجة إلى إراقة الدماء حتى تحرر نفسها من ظلم واستغلال الرأسمالية. ويضيف هؤلاء أنه إذا كانت الرأسمالية قد احتاجت إلى العنف وفرض الإرادة بالإجبار لكي تولد وتستمر عبر القرون الأخيرة، فذلك لأنها تقوم على استغلال الأقلية للأغلبية. أما الاشتراكية، فهم يؤكدون أنها لا تحتاج إلى ذلك كله لأنها تتوافق مع مصالح أغلبية المجتمع الساحقة، والأغلبية لا تحتاج إلى العنف من أجل فرض مصالحها على أقلية محدودة، هذا فضلاً عن أن الاشتراكيين ينبغي أن يرفضوا العنف بشكل تام لأن إراقة الدماء هي شر مطلق ولا يمكن أن نتخيل أن يؤدي سفك الدماء – مهما كانت مبرراته – إلى تحرير الإنسانية من العبودية!!
هل هذا التفكير صحيح؟ هل يمكن فعلاً أن تكون الثورة الاشتراكية بيضاء بدون نقطة دم واحدة؟ وهل العنف شر مطلق كما يقولون؟ بالطبع لا، فكل هذه التصورات لا تزيد عن كونها أوهام وأكاذيب تخدم مصالح الطبقات الحاكمة. والاشتراكي الثوري الروسي ليون تروتسكي (توفى عام 1940) كان كثيرًا ما يتندر على أولئك الذين يرفعون شعارات أخلاقية مجردة مطلقة بدون النظر إلى الظروف والملابسات. تروتسكي كان يؤكد في هذه المسألة أن الأخلاق تتشكل “نتيجة للتطور الاجتماعي، وإنه ليس هناك شيء ثابت بشأنها، وأنها تخدم المصالح الاجتماعية”. “فإطلاق النار مسألة لا أهمية لها في حد ذاتها، أما إطلاق النار على كلب مسعور يهدد طفلاً فهذه فضيلة، ومن يقتل في شروط استثنائية بغرض الدفاع عن النفس فإن المحكمة تبرئ ساحته.
إن ما يؤكده تروتسكي هو ما ذكرناه من قبل في هذا المقال: إن العنف مجرد وسيلة لتحقيق أغراض معينة، وحتى نستطيع اتخاذ موقف أخلاقي محدد من أي ممارسة للعنف، علينا أن نعرف الظروف والملابسات والأهداف. فاستخدام العنف من أجل الإطاحة بالنظام القهري الاستغلالي فلا يمكن إلا أن نكون صحيح ومبرر أخلاقيًا. وكل من يعارض هذا النوع من التفكير هو نصاب لا أكثر ولا أقل – يعبر عن حبه الشديد للإنسانية ورغبته الكاملة في تحريرها، ثم يرفض تمامًا أن يعطيها الحق الأخلاقي في استخدام السلاح الوحيد الذي يمكنها بواسطته أن تحرر نفسها. فكيف إذن يمكن للجماهير المصرية المستغلة والمسحوقة أن تتحرر من نظام مبارك وأن تخلق نظامًا حرًا على أنقاضه وتحافظ عليه؟ كيف تمكن مواجهة الأمن المركزي والشرطة والجيش والمحاكم والقضاة والبلدوزرات..الخ؟
وفي كتاباته بعد ثورة أكتوبر 1917 الاشتراكية في روسيا، دافع لينين (قائد الثورة) عن العنف وضرورته في الثورة بالرغم من أنها ثورة أغلبية ضد أقلية. ذكر لينين أنه “من الممكن هزيمة المستغلين دفعة واحدة بانتفاضة ناجحة أو بتمرد تقوم به قوات الجيش. ولكن لا يمكن إبادتهم دفعة واحدة إلا في بعض الحالات النادرة جدًا والاستثنائية: لا يمكن دفعة واحدة مصادرة أملاك جميع الملاك العقاريين وجميع الرأسماليين في بلد كبير نوعًا. ثم أن مصادرة الملكية… أبعد من أن تحل المشكلة. ذلك لأنه ينبغي فعلاً خلع الملاك والرأسماليين واستبدالهم فعلاً بإدارة أخرى.. هي الإدارة العمالية”. وأكد على أن الإجراءات الثورية – التي توصف بأنها ديكتاتورية الأغلبية على الأقلية – ضرورية لأنها تحقق الأهداف الآتية: سحق مقاومة البرجوازية، بعث الخوف في نفوس الرجعيين، دعم سلطة الشعب المسلح ضد البرجوازية، وتمكين البروليتاريا من قمع أعدائها بالعنف.
إن التاريخ الحديث للصراع الطبقي في العالم وفي مصر ملئ بالمواقف التي يظهر فيها الصراع بين الثوريين الأشداء وبين غيرهم من الإصلاحيين – الذين يحبون أن يظل العالم كما هو ويرتعبون كلما اقتربت لحظة تغييره، بشكل جذري – في صورة صراع حول مسألة العنف. فبينما يبارك الأولون عنف الجماهير (لا العنف الفردي بالطبع، حيث أنه يؤدي إلى نتيجة، يرفع الأخيرون شعارات سلمية براقة ولكن كاذبة حول الشرعية والديمقراطية والإقناع. وينتهي هؤلاء السلميون دائمًا إلى خانة واحدة: إدانة نضال الجماهير بوصفه عمل أو رعن أو حتى عمل لا أخلاقي ولذلك، فإن الدفاع عن العنف الثوري للجماهير المسلحة، والنضال من أجل انتصاره ونجاحه في تحقيق أغراضه، هو مهمة أساسية للاشتراكيين الثوريين – هذا إذا كانوا يريدون فعلاً تحطيم – لا مجرد إصلاح – نظام القمع والقهر والاستغلال.