بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

فلول الستالينية والدفاع عن الثورة الوطنية الديمقراطية

نشرت مجلة “الاشتراكية الثورية” في عدد فبراير الماضي مقالاً عن الحرب الأهلية في السودان، قدمت فيه نقدًا لستالينية الحزب الشيوعي السوداني ومشروعه بصدد الجبهة الشعبية. ويبدو أن هذا النقد قد استنفر بعضًا من الذين تبنوا على امتداد تاريخهم السياسي كله هذا المشروع، ولا زالوا مصرين حتى اليوم على الدفاع عنه على الرغم من كل التحولات التي جرت وكل الوقائع التي لم يعد من المقبول إنكارها.

وفي عدد مارس من مجلة “اليسار” انبرت الكاتبة فريدة النقاش للدفاع عن الثورة الوطنية الديمقراطية – غير “الملعونة” في مداخلة نقدية مع مقالة “الاشتراكية الثورية” والحقيقة أن مقالة فريدة النقاش قد امتلأت بالعديد من المغالطات والتحليلات الخاطئة يصل بعضها إلى درجة تحريف أحداث تاريخية لا جدال بصددها. وللوهلة الأولى مع قراءة المقال قد نشعر أنها تريد إعادة القداسة لبعض الأيقونات الصدئة، التي فقدت سحرها تحت وطأة طوفان الحقائق الحية ومجرى الأحداث الصاخبة. للوهلة الأولى تشعر أن فريدة النقاش ومن يدافعون معها عن “الثورة الوطنية الديمقراطية” لا زالوا يعتقدون في إمكانية تحقيق التنمية الرأسمالية المستقلة والديمقراطية البرجوازية على النسق الغربي في البلدان الرأسمالية الأكثر تخلفًا، كما يعتقد المؤمنون في يوم الحساب. لكن مع إعادة القراءة سوف نكتشف أنها تدافع عن شيئًَا آخر غير هذا القديم البالي. خاصة إذا استطعنا أن نربط ما بين أوهام التي تثرثر بها وبين مشاريعها السياسية الحقيقية التي تؤسسها وتدفع بها إلى الأمام.

إن مقال فريدة النقاش ودفاعها العقيم عن الثورة الوطنية الديمقراطية، يضعنا أمام مجموعة من الأسئلة لا تتعلق بالماضي بقدر ما تتعلق بالحاضر وبالسياسة الثورية للحظة الراهنة. وتدفعنا إلى الإجابة على هذه الأسئلة ضرورة إزالة التشوش القصدي حول مشروع الثورة الذي ندافع عنه كاشتراكيين ثوريين.

أولاً: هل صحيح أن مشروع الثورة الوطنية الديمقراطية في بلد كالسودان ضرورة موضوعية لا يمكن تجاوزها، ومرحلة تحضيرية سابقة بالضرورة على الثورة الاشتراكية؟؟
الحقيقة أن فريدة النقاش تضعنا أمام متاهة من الالتباسات. من وجهة نظرها فإن تعثر نمط الإنتاج الرأسمالي وتأخر الوعي الثوري للطبقة العاملة وعموم الكادحين، هي الأسباب الموضوعية وراء ضرورة الثورة الوطنية الديمقراطية في السودان. لكنها لا تقدم لنا إجابة واضحة عن السؤال الأكثر أهمية: وهو لماذا يناضل الثوريون ومن ورائهم جماهير العمال الكادحين بهدف إخراج الرأسمالية من عثرتها؟؟

نعم صحيح تمامًا أن نمط الإنتاج الرأسمالي المتعثر وراء انتشار الأمية والفقر والجهل، لكن التخلص من هذا التعثر – بفرض أن ذلك ممكنًا أصلاً – سيؤدي إلى المزيد من الفقر والاضطهاد. هذا الواقع نتيجة قائمة في صلب عملية الإنتاج الرأسمالي ولا مفر منها في إطار نمو الرأسمالية، وتاريخ الرأسمالية كله شاهد على ذلك.

نمط الإنتاج الرأسمالي هذا ليس تقنية منفصلة عن التاريخ والصراع الطبقي، ولكنه في حقيقة تطور للتقسيم الاجتماعي للعمل خرج من قلب المجتمعات ما قبل الرأسمالية، وينهض بالأساس على استغلال العمل المأجور وعلى القهر الاجتماعي والسياسي للطبقات المنتجة. لكن فريدة النقاش تعتقد أن الثورة الوطنية الديمقراطية عن طريق أخذها بيد نمط الإنتاج الرأسمالي في السودان لتخلصه من عثراته، قادرة أيضًا على تحرير الجماهير السودانية من تخلفها وفقرها!! وهي ثورة ستنهض في رأيها تحت قيادة “تحالف عمالي برجوازي صغير، هدفه” “الإطاحة بحكم كبار الملاك في الصناعة والزراعة” انطلاقًا من ذلك تدافع فريدة النقاش عن سياسة الحزب الشيوعي السوداني “الحزب الثوري – من وجهة نظرها” بالاندماج داخل تجمع قوى المعارضة السودانية – بافتراض أن هذا هو التجمع هو التحالف المنوط به انجاز مهام الثورة. هي تقول ذلك في الحقيقة بمنتهى البراءة والصفاقة، دون أن تشرح لنا: كيف يصبح تجمع قوى المعارضة في السودان الذي يقف في صدارته كبار ملاك الأرض وكبار المستثمرين في الصناعة والزراعة المتمثلين في حزبي الأمة والاتحادي، هو نفسه الطريق الثوري الصحيح “غير القادم من السماء” للإطاحة بكم كبار الملاك هؤلاء أنفسهم؟!!

الحقيقية أن دفاع فريدة النقاش يقوم على عدد من الفرضيات الخاطئة:

  • أن الرأسمالية في السودان لا زالت في مقتبل عمرها قادرة على الانطلاق إلى الأمام لتطوير الظروف الاقتصادية والاجتماعية لحياة الشعب السوداني إلى الأفضل.
  • أن الثورة الاشتراكية لا يمكن أن تنهض في بلد متخلف وأن تجاوز هذا التخلف شرطًا ضروريًا سابقًا على إمكانية تحقق الاشتراكية.

بناء على ذلك جميعا تصبح الثورة الوطنية الديمقراطية، هي المشروع الصحيح الذي يجب على الثوريين أن يناضلوا من أجلة في اللحظة الراهنة!!

الحقيقة أن دحض فرضيات فريدة النقاش واستنتاجاتها يجب أن يتم عبر الفهم التاريخي لمشروع الثورة الوطنية الديمقراطية، وتناقضاته الداخلية التي احتواها منذ لحظة ظهوره كمشروع سياسي يحمل مهام الثورات البرجوازية الأولى في عصر هيمنة الإمبريالية.

لقد ظهر نمط الإنتاج الرأسمالي في البلدان الرأسمالية الأولى من قلب أنماط الإنتاج ما قبل الرأسمالية، وفي مسار تطوره التاريخي تشكلت البرجوازية – الطبقة الاجتماعية المسيطرة على عملية الإنتاج الرأسمالي – كقوة صاعدة قادرة على فدع مجتمعاتها إلى الأمام خطوات واسعة. بينها وبين تحقيق اندفاعاتها. لذا أصبح مطروحًا عليها قيادة حلف طبقي واسع يضم الطبقة العاملة – التي كانت لا تزال في طور جنيني – والفلاحين وعامة البرجوازية الصغيرة. للإطاحة بالإقطاع وبناء دولة البرجوازية. هكذا يمكن الحديث عن الثورة الفرنسية الكبرى مثلاً في نهاية القرن الثامن عشر.

على امتداد القرن التاسع عشر استطاعت البرجوازية أن تفرض سلطتها الاقتصادية والسياسية في جميع البلدان الرأسمالية الأولى. في وأخريات هذا القرن اندفعت هذه البرجوازيات في موجات من المد الامبريالي، حيث أصبح التوسع باتجاه المستعمرات مخرجًا رئيسيًا من أزمات فيض الإنتاج الدورية التي كانت تعاني منها، وذلك بفتح أسواق جديدة والحصول على مواد خام أرخص وهكذا. نتج عن هذا التوسع أن أدخل نمط الإنتاج الرأسمالي في المستعمرات، والبلدان الرأسمالية المتأخرة عمومًا، من أعلى أي عن طريق الطبقات الحاكمة هناك الموالية للإمبريالية. ومع نهاية الحرب الإمبريالية الأولى كان قد تم بالفعل توحيد السوق العالمي، وأصبح نمط الإنتاج الرأسمالي سائدًا في غالبية أرجاء المعمورة. بالطبع بقت هناك أنماط إنتاج ما قبل رأسمالية، لكنها من ناحية أخرى أصبح تأثيرها – في أي بلد هي قائمة فيه – على التحولات الاقتصادية داخل هذا البلد وعلى الانعكاسات السياسية لهذه التحولات في تناقص مستمر وبمعدلات سريعة.

لم تتحرك الرأسمالية في. البلدان المتأخرة في نفس المسار الإمبريالية. لقد احترقت مراحل عديدة، واخترقت مراحل عديدة، واختزلت أطوارًا كانت بالفعل جزءًا من ماض غير قابل للاستعادة. البرجوازية ولدت منذ لحظتها الأولى في قلب الطبقات الحاكمة، وتم زرع صناعات متطورة وسط قرى بدائية، وتحول جزء رئيسي من الفلاحين الأكثر تخلفًا على عمال متقدمين من داخل تلك الصناعات. وتم تنظيم الأسواق الناشئة على أسس اقتصاد العصر الإمبريالي مما جعل منتجات الصناعة هي العماد الرئيسي لتلك الأسواق. ذلك كله أفرز حالة من الصراعات السياسية والاجتماعية المختلفة.

كتب تروتسكي في ملجده عن تاريخ الثورة الروسية (.. إن عدم التكافؤ قانون عام من أهم قوانين التطور التاريخي. ويبدو هذا الأمر بأكثر أشكاله حدة وتعقيدًا عند تحديد مصير البلاد المتخلف. إذ أن ضغط الضرورات الخارجية يجبر الحياة المتخلفة على التقدم بوثبات. ومن القانون الشامل الخاص بعدم التكافؤ يخرج قانون آخر سنطلق عليه اسم قانون التطور المركب نظرًا لعدم وجود تسمية أفضل. ونحن نقصد بذلك تقارب مختلف المراحل، وتشابك الفترات المحددة الواضحة، وتمازج الأشكال القديمة مع أكثر الأشكال العصرية حداثة. فإذا تجاهلنا هذا القانون، ولم نأخذه بكل محتواه المادي، تعذر علينا فهم تاريخ روسيا، وتاريخ كافة البلاد التي بدأت السير على طريق الحضارة في الصف الثاني أو الثالث أو العاشر).

لم يكن مطروحًا بأي درجة أن يتحرك سيناريو الثورة بنفس الطريقة التي حدثت وقت صعود الرأسمالية، في البلدان الأولى. وفي كتابه عن الثورة الأسبانية كان تروتسكي يسخر من الاشتراكيين الديمقراطيين الذين (.. يتفلسفوا بخصوص الثورة الاسبانية ليقولوا أنها ستكون مجرد نسخة أخرى عن الثورة الفرنسية الكبرى بعد تأخر مائة وخمسين عامًا. إن شرح مسألة الثورة لهؤلاء كمناقشة الأعمى في مسألة الألوان لأن أسبانيا بكل تخلفها تجاوزت كثيرًا فرنسا القرن الثامن عشر. فالمشاريع الصناعية الكبرى وعشرة آلاف ميل من السكك الحديدية، وثلاثين ألف ميل من التلغراف أهم بكثير، بالنسبة للثورة، من المخلفات التاريخية).

البرجوازية في البلدان الرأسمالية المتأخرة رجعية ومحافظة منذ البداية بسبب ارتباطها العضوي بالطبقات الحاكمة القديمة وبسبب دور الإمبريالية ولدت في خلقها، وأيضًا كانت ضعيفة نتيجة لضعف تنافسيتها في السوق العالمي. أما الطبقة العاملة فكانت قوة اجتماعية مركزية منذ لحظة ميلادها بسبب كونها القوة المنتجة في القطاع الرئيسي في اقتصاديات. البلدان المتأخرة. وعلى الرغم من ضعف حجمها النسبي في تلك البلدان بالمقارنة بجموع الفلاحين وعامة البرجوازية الصغيرة، إلا أنها بسبب مركزية دورها في “عملية الإنتاج كانت القوة القادرة على قيادة الحلف الطبقي للثورة. في “نتائج وتوقعات” كتب تروتسكي (.. بين قوى الإنتاج في بلد معين وبين قوة طبقاته السياسية تتدخل في كل لحظة من اللحظات، عوامل اجتماعية وسياسية مختلفة ذات طابع وطني ودولي، وقد تغير هذه العوامل التعبير السياسي عن العلاقات الاقتصادية إلى حد إنها قد تغيره تغييرًا تامًا. فبالرغم من كون قوى الإنتاج في الولايات المتحدة أضخم المرات من قوى الإنتاج في روسيا، إلا أن الدور الذي تلعبه البروليتاريا الروسية وتأثيرها على سياسة بلدها وإمكان تأثيرها على السياسة في العالم في المستقبل لهو بدون شك أعظم مما تستطيع أن تقوم به البروليتاريا في الولايات المتحدة).

لم يعد من الممكن حدوث ثورة برجوازية على النسق الكلاسيكي القديم تحت قيادة برجوازية البلدان المتأخرة، ولم يكن من المعقول سياسيًا أن تقود الطبقة العاملة ثورة تقف عند حدود المطالب البرجوازية. كان السيناريو الطروح للثورة هوما أصطلح على تسميته بالثورة الدائمة. أي تحول الانتفاضات الثورة القائمة على مطالب وطنية أو ديمقراطية في مهام الثورة الاشتراكية. يصف تروتسكي الثورة الدائمة في كتابه عنها (.. أنها ثورة تكتل الجماهير المضطهدة في المدينة والريف حول البروليتاريا المنظمة في السوفييت، وهي ثورة وطنية ترفع البروليتاريا إلى سدة الحكم وتفسح المجال أمام إنضاج الثورة الديمقراطية إلى ثورة اشتراكية. ليست الثورة الانمة قفزة معزولة تقوم بها البروليتاريا، إنها إعادة بناء الأمة تحت قيادتها).

خلال الفترة ما بين الحربين الإمبرياليتين بدأت تشتعل حركات التحرر الوطني في المستعمرات وشهدت ازدهارًا واسعًا ما بعد الحرب الامبريالية الثانية. برجوازية المستعمرات كانت بالفعل أضعف اقتصاديًا وسياسيًا، سواء على المستوى القومي أو العالمي، من أن تقود هذه الحركات، ذلك بسبب تحالفاتها وتكويناتها وأدوارها السياسية. في ذات الفترة كانت السلطة الستالينية السوفيتية تلعب أدوارًا تخريبية بالغة داخل الحركات الثورية على امتداد العالم، بإجبارها على الدخول في تحالفات شعبوية “وطنية ديمقراطية”، بما يحقق مصلح الاتحاد السوفيتي التنافسية داخل السوق العالمي. نتج عن ذلك افتقاد الطبقات العاملة في المستعمرات إلى قيادة ثورية قادرة على دفعها على قيادة حركات التحرر. أسفر ذلك الوضع عما يمكن أن نسميه بانحراف الثورة الدائمة، فبدلاً من أن تقود الطبقة العاملة الحلف الطبقي للثورة في المستعمرات، قامت أحزاب البرجوازية الصغيرة بقيادة هذا الحلف في مواجهة البرجوازية وفي مواجهة الطبقة العاملة في حالات عدة. كان المشروع السياسي الذي حاربت من أجله أحزاب البرجوازية الصغيرة ينصب علي تحقيق مهام الثورات البرجوازية عاجزة عن أدائها. والتي كان في القلب منها الهام الوطنية بضرورة التخلص من الاستعمار وتحرير السوق القومي وتوحيده تحت قيادة تلك الأحزاب ودفع الإنتاج الرأسمالي إلى الأمام باتجاه تنمية اقتصادية مستقلة. هذا المشروع السياسي هو ما أتفق علي تسميته منذ ذلك الحين بالثورة الوطنية الديمقراطية.

خلال الفترة التاريخية التالية للحزب الإمبريالية الثانية، انتهجت الرأسمالية العالمية سياسة اقتصادية قائمة على خلق أنواع بعينها من الاحتياجات داخل السوق مما يحافظ على انتظام عملية الإنتاج دون خطر الدخول في أزمات فيض الإنتاج الدورية السابقة. هذه السياسة سمحت للرأسمالية بفترة انتعاش طويلة، وأدت إلى أن أصبح للدولة دورًا مركزيًا في الاقتصاد داخل المجتمعات المختلفة، وأصبحت هي القوة الرافعة لعجلة الإنتاج الرأسمالي بها. هذا الوضع سمح لمشروع الثورة الوطنية الديمقراطية أن يلاقي ونجاحات في بلدان عدة خلال تلك الفترة. لكن مع مطلع السبعينات دخلت الرأسمالية العالمية في أزمة غير مسبوقة وغير قابلة للانتهاء، وهي قائمة حتى لحظتنا الحاضرة. هذه الأزمة أدت على تحطيم نموذج رأسمالية الدولة وتجاوزه، وطرح الشركات متعددة الجنسيات كبديل قادر على تدويل عملية الإنتاج في تقسيم عمل عالمي كمحاولة للخروج من الأزمة.

هذه النتيجة أسفرت في واقع الأمر عن تحويل مشروع الثورة الوطنية الديمقراطية إلى درس في كتب التاريخ، وهدف لم يعد من الممكن تحقيقه بعد الآن.

إن أهم ما يتعلق من وجهة نظرنا – بمسألة الثورة الوطنية الديمقراطية:

· إن شعار التنمية الرأسمالية المستقلة اليوم هو نوع من الأفكار الطوباوية ليس لها أي دلالة سياسية موضوعية. فالتنمية الرأسمالية في عصرنا الحاضر لا يمكن أن تحدث إلا بالاندماج في الاقتصاد العالمي، والتحرر من سيطرة الإمبريالية.. لا يمكن أن يتحقق إلا بالتحرر من الرأسمالية ذاتها.

· البرجوازية اليوم في السلطة وتحكم في جميع أرجاء العالم، ولم يعد هناك ما يمكن أن نطلق عليه مهام ثورية للبرجوازية. أما الطبقة العاملة فهي القوة الاجتماعية المركزية في جميع البلدان، بسبب كونها القوة المنتجة الرئيسية داخل الاقتصاد العالمي، وهي بالتالي الوحيدة القادرة على قيادة حلف طبقي ثوري.

· إن انحراف الثورة الدائمة لم يحدث نتيجة لضرورات اقتصادية، وإنما حدث لدوافع سياسية في الجوهر، أي بسبب ضعف الطبقة العاملة السياسي وافتقادها لأحزابها الثورية.

· إن المشروع الثوري الوحيد – الموضوعي والممكن – الذي يمكن للثوريين أن يناضلوا من أجله اليوم، هو الثورة الاشتراكية الأممية. وهي ليست ثورة واحدة منضبطة على مستوى العالم لكنها سلسلة من الثورات العمالية المنتصرة، التي بدأت في الحلقات الأضعف في الرأسمالية وتنتهي في المراكز الأكثر تقدمًا. وهي تنهض بقيادة اتحاد العمال المنتجين الأحرار على مستوى العالم لأحلاف طبقية ثورية تحشد ورائهم جموع الفلاحين وعامة الفقراء.

ثانيًا: هل كانت ثورة أكتوبر 1917 في روسيا ثورة وطنية ديمقراطية؟!!!
على الرغم من كل الغثاء الذي تحفل به مقالة فريدة النقاش، إلا أن الأكثر سخافة وابتذلاً كانت تلك الفقرة التي حاولت أن تقدم فيه الدليل على أن ثورة أكتوبر هي واحدة من ثوراتها الوطنية الديمقراطية – الغير ملعونة – هذه الفكرة بالإضافة لكونها نكتة تثير الرثاء على قائليها أكثر مما تثير السخرية منهم، هي أيضًا تدليس فاضح وفهم برجوازية صغير لتاريخ الثورة بالغ في تحريفيته.

فريدة النقاش تنسج فكرتها على كذبة مركزية تحاول إبهامنا بها، وهي أن الثورة العمالية لابد وأن تكون نقية وخالصة. أي أن الثورة التي تقوم على حلف طبقي تقوده الطبقة العاملة ويضم الجماهير البرجوازية الصغيرة، هي بالتأكيد ثورة وطنية ديمقراطية!! وعلى الرغم من أنها تتهم مقالة “الاشتراكية الثورية” بالتفكير المثالي، أي بالنزوع إلى “النقاء الخالص المبرأ من كل الأدران” إلا أنها هي التي تفعل ذلك في الحقيقة. لم يحدث أن تصور أحد من الثوريين – منذ آباء الماركسية الأوائل وحتى اليوم – أن الثورة العمالية يمكن أن تكون ثورة من العمال فقط. هذه الفكرة المثالية لا تنطلق من التحليل المادي التاريخي للمجتمع الرأسمالي المعاصر، لكنها تنطلق من رؤية برجوازية صغيرة مبتذلة في فهم التاريخ. وهي تجعل مشروع الثورة العمالية مجرد “حلم” يعيش عليه الثوريين “ويسبقون به وعي الجماهير غير الناضج”، وليس إمكانية موضوعية قائمة في التاريخ المعاصر.

فريدة النقاش تفعل ذلك وهي تخلط أمور مختلفة في إطار مشروع الثورة، وهي قيادة الثورة وحلفها الطبقي ومهامًا. هي تفترض أن الثورة العمالية الاشتراكية سوف تكون مسئولة فقط عن تحقيق المهام الاشتراكية، أي بناء المجتمع اللا طبقي، أما المهام الديمقراطية فيجب أن تكون منجزة سلفًا قبلها. وطالما أن الحلف الطبقي يضم العمال والبرجوازية الصغيرة، فإن الثورة بالضرورة ستكون وطنية ديمقراطية، وأن قيادتها ستنمو باتجاه تحقيق المصالح المباشرة الضيقة للبرجوازية الصغيرة، حتى على غير إرادتها أحيانًا. وهكذا افترضت أن لينين والبلاشفة الأوائل قد اكتشفوا فجأة عبر تتابع الأحداث الثورية بعد أكتوبر 1917 أن “استيلاء العمال على السلطة لا يعني أن الأرض ممهدة لبناء الاشتراكية”!!

فريدة النقاش تمارس هذا الخلط انطلاقًا من رؤية ستالينية اصطلح على تسميتها ببناء الاشتراكية في بلد واحد، وهي رؤية تنمو باتجاه مشروع التنمية الوطنية المستقلة، وتبتذل الطابع العمالي الثوري الأممي للاشتراكية. صحيح أن البلاشفة وحتى عدة شهور سابقة على الثورة، كانوا يرون أن الثورة المقبلة سوف تكون ثورة برجوازية تحت قيادة الطبقة العاملة للإطاحة بالدولة البرجوازية تحت راية الثورة الاشتراكية. كتب لينين في “موضوعات نيسان” تعليقًا على من يطرحون مسألة الثورة البرجوازية (إن من يضع على النمط القديم مسألة “إنجاز”الثورة البرجوازية، يضحي بالماركسية الحية لصالح الكلمة الميتة) ولم يكن لدى أحد من البلاشفة، وعلى رأسهم لينين وتروتسكي، أدنى انتشار الثورة وانتصارها في ربوع أوروبا وباقي أرجاء العالم. وفي موضوع آخر من “موضوعات نيسان” كتب لينين (ليس هناك سوى أممية فعلية واحدة وحيدة، هي العمل بتفان على تطوير الحركة الثورية والنضال الثوري يخوضه المرء في بلاده بالذات، ودعم هذا النضال نفسه، هذه الخطة نفسها، ووحدها فقط، في جميع البلدان بلا استثناء) بينما كتب تروتسكي في “الثورة الدائمة” (إن الطابع الأممي للثورة الاشتراكية يخرج من الوضع الراهن للاقتصاد ومن البنيان الاجتماعي في العالم. ليست الأممية مبدأ مجردًا وإنما هي انعكاس نظري وسياسي لطبيعة الاقتصاد العالمي ولتطور قوى الإنتاج وللصراع الطبقي على الصعيد العالمي. تبدأ الثورة الاشتراكية على أسس وطنية، ولكن لا يمكن انجازها ضمن هذا الإطار). في الوقت الذي كان فيه.. البلاشفة يقودون الثورة العمالية في روسيا كانت شرارات الثورة تندلع على الساحة الأوروبية بأكملها. كان البلاشفة منذ البداية يدركون أن الفلاحين في روسيا – وهم جزء رئيسي من الحلف الطبقي للثورة – سيتراجعون بالضرورة عند لحظة بعينها من المد الثوري، بعد أن يصبحوا مسيطرين. على الأرض، تحت تأثير وعيهم الفرحي البرجوازي الصغير. وكان الرهان الوحيد على دفع وعيهم الثوري إلى الأمام يكمن في قدرة الدولة العمالية على دعم وتطوير الإنتاج داخل الريف، وذلك لم يكن ليتحقق بدون مساندة الدول العمالية المنتصرة في المراكز الأكثر تقدمًا. كان لينين وتروتسكي يضعون انتصار الثورة في ألمانيا كشرط حاسم لاستقرار الدولة العمالية، حتى تعود الموجة الثورية في نهوض جديد إلى أوروبا. هذه التنازلات التي أطلق عليها اسم “السياسة الاقتصادية الجديدة”، والتي تحدثت عنها فريدة النقاش في مقالاتها على أساس أنها كانت ضرورة لا مفر منها نتيجة للطابع الطبقي الثوري!!

كان من الممكن للفكرة التي تحاول فريدة النقاش إيهامنا بها أن تكون صحيحة، لو أن ثورة أكتوبر أنتجت برلمان قومي يسيطر عليه ممثلين للعمال والفلاحين وعامة البرجوازية الصغيرة، واعتمد في سيطرته على أدوات الدولة البرجوازية (الجيش والشرطة وأجهزة الدولة البيروقراطية). لكن ثورة أكتوبر أطاحت بجهاز الدولة البرجوازية وأنتجت سلطة قائمة على المجالس الديمقراطية للعمال (السوفيتات) المتحالفة مع سوفيتات الفلاحين والجنود، يقوم على حراستها ميليشيات عمالية مسلحة. كانت ثورة أكتوبر التجربة الأولى في التاريخ لثورة عمالية منتصرة تؤسس دولة عمالية ثورية. أما تدليس فريدة النقاش الفضح بالقول أن ثورة أكتوبر كانت ثورة وطنية ديمقراطية ما هو إلا خلط بين قيادة الثورة أي الطبقة العاملة، وبين حلفها الطبقي الذي ضم جموع الفلاحين، وبين مهامها التي دمجت المطالب الديمقراطية داخل المهام الاشتراكية.

ثالثًا: ما هو المغزى السياسي للدفاع عن الثورة الوطنية الديمقراطية الآن في اللحظة الراهنة في مصر؟
هل تدافع فريدة النقاش حقًا عن الثورة الديمقراطية؟ بصيغة أخرى، هل تدعونا فريدة النقاش إلى بناء حزب ثوري يسعى لتأسيس حلف جبهوي مع حسنى مبارك ممثل البرجوازية المصرية بهدف إسقاط النظام الحاكم الذي يرأسه حسنى مبارك نفسه؟!!

الحقيقة أن فريدة النقاش تدعونا إلى التخلي عن مشروع الثورة برمته، ومحاولة إصلاح الأوضاع في إطار السلطة الطبقية الحاكمة. فريدة النقاش تدعونا إلى سياسة برجوازية صغيرة وهي تتحدث عن حزب يجب “أن يكون ابن واقعه… يخرج من بين أعطافه ولا يسقط عليه من السماء” إننا نتفق معها على أن الحزب الثوري ينهض بناؤه على الأرض ولا يسقط من السماء. لكن على أي أرض؟ هذا هو السؤال. الأحزاب الثورية للطبقة العاملة تناضل من أجل انتصار المشروع التاريخي، للطبقة العاملة – الثورة العمالية والدولة العمالية -، وتؤسس رؤيتها التاريخية والمستقبلة انطلاقًا من وجهة نظر هذا المشروع، تنظم الطليعة العمالية الثورية وينهض هيكلها التنظيمي على المواقع الطبقية للعمال. ومن وجهة نظر الماركسية اللينينية، فإن إنضاج الوعي الثوري للطبقة العاملة يتم عبر العملية السياسية تلك الأحزاب. ولأنها تناضل من أجل انتصار سلطة الجماهير، مناجل سيطرة الجماهير على السلطة السياسية والاقتصادية، فدور الجماهير المستغلة حاسم ومحوري في مشروعها السياسي.

لكن فريدة النقاش ترى أن الجماهير “أمية” لا تقرأ ولا تكتبن غارقة في “أدران القبلية والطائفية” ومكبلة “بقيود العالم القديم”، لذا هي غير صالحة “الآن” لأن تسيطر بمجالسها الجماعية على مقاليد الأمور. ولابد للحزب – بتحالفاته الجبهوية – أن يلعب هذا الدور نيابة عنها، خلال مرحلة ما “تحضيرية” تتخلص فيها الجماهير من فقرها وجهلها وتصبح قادرة على ممارسة ساطتها!!

فريدة النقاش برجوازية صغيرة، تدافع عن حرب برجوازي صغير، وتطرح سياسة برجوازية صغيرة، وتمثل تيار سياسي برجوازي صغير. لكن مأساتها في الواقع ومأساة هذا التيار الذي تمثله، هي أن البرجوازية الصغيرة لم تعد تؤيدهم. إن الدفاع عن مشروع الثورة الوطنية الديمقراطية ليس فقط نوعًا من الهراء بسبب وجود البرجوازية في الحكم بالفعل أو بسبب تجاوز الاقتصاد العالمي لمسألة التنمية المستقلة. لكن أيضًا لأن القوة الاجتماعية التي يستند إليها هذا المشروع، أي عامة البرجوازية الصغيرة، تحتشد الآن على امتداد المنطقة العربية في مشروع مناوئ لهؤلاء الستالينيين العلمانيين البرجوازية الصغار. إن فرائص هؤلاء أصبحت تهتز رعبًا وهم يشهدون الحركات الإسلامية الراديكالية وهي تعبئ وتنظم الجماهير البرجوازية الصغيرة في مشروع رجعي طوباوي آخر، ومعادي أيضًا للستالينية على طول الخط وهم لم يفقدوا جماهيرهم البرجوازية الصغيرة، لكنهم فقدوا أيضًا سندهم العالمي التاريخي بعد سقوط الاتحاد السوفيتي – غير المأسوف عليه – دفعهم ذلك كله للارتماء في أحضان البرجوازية، والاكتفاء بدور النجاح الإصلاحي المخصي للحلف الطبقي الذي تقوده. وبرغم ذلك لازالوا مصرين على أن يضعوا فوق أبنيتهم الخربة لافتة الثورية.

إن فريدة النقاش القطب التجمعي التي تتبنى سياسيًا خط ما اصطلح على تسميته بيسار التجمع أي “الحزب الشيوعي المصري” عندما تدافع عن الثورة الوطنية الديمقراطية، هي تقوم في الواقع بالدفاع عن استمرار السلطة المطلقة للبرجوازية في مصر. تعالوا معًا نقرا الفقرة التالية التي وردت في مشروع البرنامج العام للحزب الشيوعي المصري (المنشور في مجلة “الوعي” نشرة الحزب – عدد أكتوبر 1991):

“من البديهي أن دورًا طليعيًا كهذا (يقصد به الدور الطليعي للحزب الشيوعي المصري!!) يفترض عدم توقف الحزب عند حدود المصالح الطبقية المباشرة للعمال (!!)، بل يفترض على العكس من ذلك الدفاع عن الوطن في مجموعة والنضال اليومي المستمر دفاعًا عن مصالح المواطنين جميعًا طالما لم تتعارض مع مصالح الوطن(!!)”

هذه الفقرة تدعو الشيوعيين إلى عدم التوقف عند المصالح الطبقية الضيقة للعمال، وعلى أن يغلبوا مصالح الوطن إذا تعارضت مع مصالح المواطنين!! لكن بشكل ملموس أكثر يحدد البرنامج المطلبي للحزب (المنشور في ذات العدد) مهام “النضال”:

“يجب تشجيع القطاع الخاص الوطني على توجيه استثمارية إلى الصناعة والزراعة الجديدة على أن تكفل الدولة لهذه الاستثمارات الحصول على قروض بفوائد مخفضة”.

“يجب أن يحصل القطاع الخاص المنتج في مجالي الصناعة والزراعة على التسهيلات الائتمانية الأزمة لتشجيعه ويجب أن يحصل على تسهيلات تمكنه من استيراد مستلزمات الإنتاج”.

ملحوظة: هذا البرنامج منشور تحت عنوان رئيسي “البرنامج العاجل لمهام الثورة الوطنية الديمقراطية”.

هل يمكن لنا الآن أن ندرك ما هي الثورة الوطنية الديمقراطية التي تدعونا فريدة النقاش للنضال من أجلها؟ فريدة النقاش تدعونا إلى الدفاع عن شيء وهمي أسمه “الوطن مصالحة منفصلة ومستقلة ومتناقضة أحيانا مع مصالح الطبقة العاملة وجموع الفقراء. فريدة النقاش تدعونا على دعم البرجوازية “الوطنية” وتأكيد سيطرتها السياسية والاقتصادية. فريدة النقاش تدعو الطبقة العاملة على الاحتماء بالتنظيم النقابي الأصفر المنحط، تدعو جماهير الفقراء على انتظار المساعدات التي ستقدم لهم عبر مؤسسات المجتمع المدني المهتزئة. فريدة النقاش تدعونا إلى تذيا البرجوازية، إلى الإصلاحية المبتذلة.

وأخيرًا، فإننا لا نملك إلا أن نتذكر، ونحن نقرأ دفاع فريدة النقاش، أن رفاقها القدامى في الاتحاد السوفيتي السابق وأوروبا الشرقية، الذين سودوا مجلدات عديدة دفاعًا عن الثورة الوطنية الديمقراطية والجبهات الشعبية، قد أصبحوا الآن تجار عمله وجنود مرتزقة وزعماء لعصابات المافيا، ومنظرين وقادة لأشد الجماعات العنصرية والفاشية انحطاطًا في النظام العالمي الجديد.