هذا البلاغ ضد الماركسية!

الكتاب: بلاغ ضد الماركسية
المؤلف: عبد القادر ياسين
الناشر: هفن
تاريخ النشر: 2008
بهذا العنوان المثير يقدم المؤرخ الفلسطيني الماركسي عبد القادر ياسين آخر مؤلفاته. الكتاب يتسم بالتكثيف الشديد ويقع في 80 صفحة من القطع الصغير.
في أول فصول الكتاب يعرض الكاتب جذور الحركة العمالية التي تبلورت في ظل أسلوب الإنتاج الرأسمالي، من مرحلة الجماهير السلبية إلى البروليتاريا، ثم تشكُّل الطبقة العاملة كقوة اجتماعية واعية. وفي الفصل نفسه، وتحت عنوان “خلاصة الماركسية”، يقول ياسين أن ما يقدمه مجرد “فكرة” موجزة عن الماركسية لمن لم يطّلع عليها، ثم يعرض باختصار لأسس الفكر الماركسي، وهي المادية الديالكتيكية، والاقتصاد السياسي، والاشتراكية. ثم يعرض، في السياق نفسه، لثلاثة أسس أخرى لم يُشر إليها، وهي المادية التاريخية، وتكتيكات البروليتاريا، والحزب.
لكن للأسف لم يفلح هذا الفصل، في رأيي، في بلوغ هدفه. حيث أن حشد كل هذه الأفكار في هذا العدد الصغير من الصفحات أدى إلى تعقيدها، وغموضها، حتى أن القاريء غير المطلع على مباديء الماركسية يجد مشقة في فهمه.
يختتم الكاتب الفصل الأول بقوله إن تبلور الفكر الماركسي في الأقطار العربية قد سبق تبلور الطبقة العاملة، مما أخر ظهور الأحزاب الشيوعية فيها. وهذا هو موضوع الفصل الثاني “ولادة عربية متأخرة”. حيث يحدثنا ياسين عن نشأة الأحزاب الشيوعية العربية التي ارتبطت بثورة أكتوبر1917، وبالتطور الاقتصادي الاجتماعي في ظل الأممية الثالثة التي اتخذت موقفا ثوريا من قضايا المستعمرات، لذا فقد انخرط الشيوعيون العرب في قضايا الاستقلال الوطني.
يسرد الكاتب تواريخ ظهور الأحزاب الشيوعية لأول مرة في كل قطر عربي، بداية من فلسطين 1919، والجزائر 1920، وتونس 1921، ومصر 1922، وحتى البحرين 1955، والسعودية 1958.
ويقول ياسين إن تفاقم الأزمة المالية 20-1921، 30-1932، التي لم يسلم منها إلا أشباه الإقطاعيين والبرجوازيين المرتبطين بالاستعمار، قد أدى إلى نمو المقاومة العمالية. كما ازدادت قوى التحرر الوطني عقب الحرب العالمية الثانية. حيث أوصى الكومنترن بمساندة كل حركات التحرر الوطني أيا كانت مرجعيتها. ورغم تقدم الشيوعيون العرب طليعة حركات التحرر، إلى جانب سعيهم لتطوير وعي الطبقة العاملة، فإن ذلك لم يحُل دون الوقوع في أخطاء، هي موضوع الفصل الثالث.
وتثار لدى كاتب هذه السطور، على قدر معلوماته المتواضعة، أسئلة حول مدى إصابة المؤلف في توحيد حكمه على الحركات الشيوعية في الأقطار العربية كلها، على اختلاف ظروف كل منها، خاصة فلسطين. كما أنه لم يُشر إلى دور الأجانب في تأسيس الأحزاب الشيوعية، واستغلال الاستعمار والرجعية لذلك.
وفي الفصل الثالث المعنون “أين أخطأ الشيوعيون العرب” يعرض الكاتب أوجه القصور المشتركة التي شابت نشاط الشيوعيين العرب. أهم تلك الأوجه من وجهة نظر ياسين هو العزوف عن التصدي للحملة التي شنتها الإمبريالية والصهيونية والرجعية لتشويه الفكر الماركسي. فالنظام الرأسمالي يقوم على أساس امتصاص أكبر قدر من فائض القيمة، علاوة على الطبيعة الفوضوية للرأسمالية التي تجعلها دوما عرضة للأزمات، والتي أدت إلى المزيد من الاحتكارات وعسكرة الاقتصاد، لتصل الرأسمالية إلى أعلى مراحلها وهي الإمبريالية. لذا فإن عداء الإمبريالية للفكر الاشتراكي أمر منطقي.
أما مقولة الفكر المستورد فيرى ياسين أنها فكرة شديدة السخرية تستخدمها الرجعية لمواجهة أية فكرة تكون ضدها. إلا أن الفكر الاشتراكي في الوطن العربي، كما يقول ياسين، كان حكرا على النخب الحزبية، وهو يلتمس العذر للاشتراكيين العرب الذين لم يسلموا بتاتا من ملاحقة الأنظمة لهم بالاعتقال والتصفية.
أما عن تهمة الإلحاد التي توجه دوما للشيوعيين استنادا إلى مقولة ماركس”الدين أفيون الشعوب”، دون تكملتها “وروح لعالم بلا روح، وعزاء لمن لا عزاء لهم”، ناهيك عن أنها مقتطعة من سياقها الزماني والمكاني، فيذكر الكاتب مقولة لينين: “إعلان الحرب على الدين كمهمة سياسية للحزب ليس إلا كلاما فوضويا”. ويوضح ياسين أن موقف الماركسية يقوم على التحليل العلمي للظواهر الدينية في سياق الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك موقف الماركسية من الكنيسة التي كانت جزءا من النظام الإقطاعي، بينما لم يكن لدى ماركس أو إنجلز معلومات عن الشرق. ويختتم ياسين قوله بأن الماركسية ضد التزمت والهوس الديني، وضد تسييس الدين أو تديين السياسة.
وإن كان الكاتب يأخذ على الاشتراكيين عدم الاهتمام بالتراث، فإنه يطرح تساؤلا بسيطا: هل يحترم أعداء الاشتراكية الدين؟ وهل شخص مثل بوش ينفذ وحي الرب كما يدعي؟
وفي الفصل الرابع “مآخذ على الماركسية” الذي أهمله الناشر في تحرير الكتاب، ووضعه مع الفصل الخامس في متن الفصل الثالث، يعرض ياسين مآخذ على سياسات الاتحاد السوفييتي، وأولها قرار التقسيم. ويرى ياسين أن الاتحاد السوفييتي لم يغير موقفه من الصهيونية باعتبارها حركة رجعية، وإنما باعتبار أن التقسيم حلا عمليا، وهو ما لا يعتبره المؤلف مبررا، وإن كان سببا ضمن عدة أسباب من بينها مقاطعة الوفود العربية للسوفييت وتذيلهم للقوى الإمبريالية، وكذلك ما تعرض له اليهود على يد النازيين. ولا يعفي الكاتب الشيوعيين العرب من المسئولية، حيث انصاعوا للقرار دون أية مساعي لدى الاتحاد السوفييتي لتغييره.
أما عن هجرة اليهود السوفييت إلى إسرائيل، فيرى الكاتب أن الاتحاد السوفييتي تعرض لضغوط شديدة من جانب أوروبا وأمريكا، فحاول وضع قيود قانونية ومالية على الهجرة، إلا أن انفراط عقد الاتحاد السوفييتي، قد أدى إلى ارتفاع المهاجرين إلى مليون.
وهنا علينا القول أن نقد الكاتب لممارسات الاتحاد السوفيتي لم يتسم بالجذرية الكافية التي تمكنه من ربط الأداءات المتذبذبة والمتناقضة لتلك الدولة بطبيعتها الجوهرية التي لا تمت للاشتراكية بصلة.
يعرض الكاتب بعد ذلك، في انتقال غير سلس، موقف الحزب الشيوعي السوري من قضية الوحدة بين مصر وسوريا تحت عنوان “القومية والوحدة”. يبدأ ياسين بعرض موجز للتحولات في موقف عبد الناصر من القضية الفلسطينية اعتبارا من انتفاضة غزة 1955، وتشكيل الكتيبة 141 فدائيين، ثم العدوان الثلاثي، وبروز فكرة الوحدة التي رأى فيها الحزب الشيوعي السوري حاجة واقعية ونتيجة لتطور تاريخي مستقل، وليست مجرد عاطفة أو فكرة طارئة. كما أن الشيوعيين في مصر وسوريا، إلى جانب غزة، قد رحبوا بالوحدة، بينما وجهوا النقد إلى الممارسات الخاطئة التي ادت إلى إجهاض حلم الوحدة، والتي اعترف بها عبد الناصر، بعد فوات الأوان.
في الفصل الخامس والأخير، “سقوط وانفراط”، يتناول عبد القادر ياسين سقوط المعسكر الاشتراكي، وما أثارته الإمبريالية عن فشل الاشتراكية، وما أذاعه الشيوعيون في المقابل باعتبار السقوط مؤامرة إمبريالية.
يرى ياسين أن سقوط المعسكر الاشتراكي يرجع إلى النصّية الجامدة في التعامل مع الفكر الماركسي، وغياب الديمقراطية، والانتشار الوبائي للبيروقراطية، والاتساع المتزايد للتباينات الطبقية. وفي سبعينيات القرن العشرين وصل الاتحاد السوفييتي إلى حالة متردية على الصعيد الداخلي والخارجي، وأخيرا جاءت سياسة البيروسترويكا (إعادة البناء) التي استحدثها جورباتشوف، وكانت بوابة قوى الردة.
ينهي الكاتب الفصل والكتاب بقوله: “..إذا كان سقوط التجربة الاشتراكية منطقيا، إلا أنه ليس آخر الدنيا.. وإن كانت الاشتراكية، كما عرفها الاتحاد السوفييتي ودول شرق أوروبا، لن تعود مرة أخرى، وفي هذا كل الفائدة للبشرية كلها”.