بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

حول بناء المنظمة الثورية

في ثلاثينيات القرن العشرين، وفي سياق الهزائم التي منيت بها أكبر موجة ثورية شهدتها الرأسمالية في تاريخها، تقلص حجم ونفوذ قوى الاشتراكية الثورية العالمية إلى الحد الذي أصبحت عنده منظماتها ضئيلة ومعزولة وعلى هامش الصراع الطبقي. في ظل هذا الوضع بات على مجموعات صغيرة، لا تزيد عضويتها على بضع عشرات أو مئات على الأكثر، أن تبقى تراث الاشتراكية الثورية حيًا تحت وطأة ظروف معاكسة وصعبة. كان تحت يد تلك المجموعات، وفي متناولها، الخبرة الغنية للثورة الروسية وللأممية الثالثة في مرحلتها الثورية، ولكن لا شيء تقريبًا أكثر من هذا. فمع وفاة تروتسكي مغتالاً على يد أحد عملاء الستالينية (1940)، محي تقريبًا كل وجود للقادة الثوريين عظام الهامة والقيمة: إما بالوفاة الطبيعية، أو بالاغتيال والإعدام على يد الستالينية، أو بالتنكر للماضي الثوري والخضوع للتيار الجارف للسلطة القابعة في الكرملين. من ناحية أخرى، كانت الحقائق الجديدة – الفاشية المنتصرة، الستالينية، إحباط الطبقة العاملة – تمحو كل تأثير سابق للأفكار الثورية على وعي وحركة الجماهير. ومع إفلات الرأسمالية العالمية من هزة التجذير الذي أحدثته الحرب العالمية الثانية، تجلى الواقع الجديد بكل قبحه: سيطرة هائلة للإصلاحية والستالينية وأيديولوجيات التحرر الوطني، مع عزلة شبه تامة لتيار الاشتراكية من أسفل، تيار التحرر الذاتي للطبقة العاملة.

البدء من جديد والنضال ضد التيار (ما أطلق عليه تروتسكي التراكم البدائي للكوادر) كان هنا هو الخيار الوحيد المتاح للثوريين. ولكن بعد أكثر من ستين عامًا نم المحاولات أثبت التاريخ أن هذا طريق – رغم أنه ممكن وضروري – وعر ومحفوف بالمصاعب، ربما بالذات بسبب الضغوط الموضوعية الهائلة التي فرضت العزلة والتهميش معظم الأحيان، ولكن أيضًا بسبب سجل الأخطاء المتعددة التي ارتكبها ثوريون تملؤهم الحماسة بينما يفتقرون للصلابة والخبرة الثورية. هذه الأخطاء تستحق بينما يفتقرون للصلابة والخبرة الثورية. هذه الأخطاء تستحق أن تمحص وتدرس، لا لذاتها وإنما كخبرة جديدة تضاف إلى خبراتنا حول هدفنا الاستراتيجي (وهدف كل ثوري): بناء الحزب العمالي الثوري.

لا تسمح المساحة هنا – ولا الإمكانيات – برصد التاريخ الطويل لأخطاء (ونجاحات) المجموعات الاشتراكية الثورية على مدى السنوات. هدفنا فقط سيكون مجرد الإشارة إلى مسألتين أساسيتين برزتا على الطريق، وكان لهما أثرهما الكبير: الدور الذي تلعبه النظرية الثورية الصحيحة، وحدود وطبيعة المجموعات الثورية الصغيرة.

دور النظرية الثورية:
“لا توجد حركة ثورية بدون نظرية ثورية” – أكد لينين على هذه الحقيقة عشرات المرات في كل معركة دخلها ضد الانتهازية التي تحط من شأن الوضوح النظري (استخلاص جوهر التجربة النضالية)، ولا تعترف إلا بالحركة بدون هدف. ولكن المشكلة ليست فقط في وجود أو عدم وجود النظرية، وإنما في صحتها وقدرتها على المرور بنجاح من اختبار التجربة العملية. هنا بالضبط – في الامتحان العملي – سقطت العديد من النظريات التي طورها الثوريون لفهم عالم وصراعات ما بعد الحرب العالمية الثانية.

واجه الثوريون في الخمسينات وما بعدها واقعًا جديدًا يحتاج للفهم والتحليل: الستالينية المنتصرة في الحرب العالمية الثانية وما تلا هذا من تكوين لما سمي بالكتلة الاشتراكية، الانتعاش الطويل للرأسمالية المستقرة، استعادة الإصلاحية لعافيتها والدور الذي لعبته، حركات التحرر الوطني وثورات العالم الثالث.. إلخ. الإرث النظري للماركسية الكلاسيكية ولماركسية تروتسكي كان يحتوي على تراث غني يمكن النهل من معينه شريطة التعامل معه بروح بنقدية ثورية وبنظرة متجددة غير جامدة. ولكن التروتسكية الأرثوذكسية كانت غير أهل للمهمة. عومل تراث تروتسكي كإنجيل مقدس، وأصبحت حرفية النص وتأويلها – لدى أقزام التروتسكية الجدد – بديلاً عن النظرية الثورية المتجددة الحية. ومن ناحية أخرى، انقلب “ثوريو النصف ساعة – مثقفو البرجوازية الصغيرة الذين تعاملوا مع التروتسكية كتقليعة مؤقتة – على تروتسكي، وصوبوا سهام النقد لا إلى أخطائه، وإنما إلى المضمون الثوري لأفكاره. وهكذا وقعت الاشتراكية الثورية بين مطرقة النصوصية الجامدة وسندان التحريف اليميني.

أما أن هذه “الحالة” قد نتج عنها كوارث أصابت في مقتل الجوهر الثوري الحي للاشتراكية، فهذا أمر تثبته الوقائع فعلاً. النصوصيون حولوا أخطاء تروتسكي في فهم طبيعة الستالينية إلى جريمة شنعاء. فقد سيطر في أوساط الأممية الرابعة (تنظيم التروتسكية الأرثوذكسية) بعد الحرب العالمية المنظور الذي يرى ليس فقط أن الاتحاد السوفيتي هو دولة عمالية ولكن مشوهة بيروقراطيًا، وإنما أيضًا أن كل دولة الكتلة الشرقية هي كذلك – هذا بالرغم من أن تحولها “الاشتراكي” المزعوم لم يحدث أبدًا نتيجة نضال عمالي ثوري من أسفل. هذا الموقف أدى بعديد من قادة الأممية إلى السير في طريق مضاد للاشتراكية الثورية على طول الخط. فلقد أعيد تكييف تعريف “الاشتراكية” ليتناسب مع الموقف الذي اتخذ من طبيعة دول الكتلة الاشتراكية. الاشتراكية أصبحت ملكية الدولة لوسائل الإنتاج وليست، كما فهمها ماركس، “التحرر الذاتي للطبقة العاملة من خلال النضال الثوري الجماعي من أسفل”.

ولم يكن التمسك الحرفي ببعض مقولات تروتسكي – وليس بجوهر تراثه الثوري – فيما يتعلق بطبيعة دول الكتلة الشرقية هو الخطيئة الوحيدة للنصوصية. كان هذا مجرد بداية لسيل لا ينتهي من التشويهات عن طبيعة ثورات العالم الثالث، وتطورات الرأسمالية العالمية، وغيرها من الأمور. ولم ينج من هذا التشويه إلا أقلية من التروتسكيين، ربما أهمهم هو تيار الاشتراكية الأممية في بريطانيا. الفضيلة الأساسية لهذا التيار هي إبقاؤه على شعلة الماركسية الثورية – ماركسية التحرر الذاتي للطبقة العاملة – حية في ظل مرحلة اليأس والقنوط في الخمسينات وبداية الستينات. وهو الأمر الذي مكنه أن يلعب دورًا ثوريًا محدودًا – ولكن مؤثر – في موجة المد في أواخر الستينات. فالنظرية لدى “الاشتراكيين الأمميين” كانت مرشدًا حقيقيًا وحيًا للفعل الثوري.

طبيعة المجموعات الصغيرة:
بالطبع لا يتوفر – ولن يتوفر – لدى أي مجموعة ثورية كتاب “إرشادات عملية” يشرح الخطوات الملموسة الواجب إتباعها لبناء الحزب! ذلك أن عملية بناء الحزب عملية حية تحكمها ظروف متجددة ذاتية وموضوعية غير معروفة مسبقًا. ولكن إذا كان لا يمكننا بالضبط أن نحدد كيف سيبنى الحزب العمالي الثوري في هذه الدولة أو ذلك، فأنه في المقابل في مقدورنا التأكد بأن أساليب معينة بالقطع لن تؤدي إلى بناء الحزب الذي نتمناه.

الغايات لا تنفصل عن الوسائل. وهناك وسائل لا تؤدي أبدًا إلى تحقيق الغايات. هذا بالتأكيد ما يمكن أن نصف به “وسائل وتراث البناء” لدى العديد من المجموعات الثورية في نصف القرن الأخير. ولعل أهم خطيئة ارتكبها ثوريون “مخلصون” عديدون هي عدم تقديرهم للفارق الكيفي بين الحزب والمجموعة الصغيرة.

فالحزب يختلف كثيرًا عن المجموعة الثورية الصغيرة. والفارق بينهما – وهو أمر لا يدركه كثيرون – فارق نوعي وليس فقط كمي. المجموعة ليست جنين حزب يسعى للنمو عديدًا ليصبح حزب حقيقي مكتمل، وإنما تكوين آخر يعيش في بيئته مختلفة نوعيًا وله صلة مختلفة نوعيًا بالصراع الطبقي وبالطبقة العاملة. إن هذا بالضبط هو ما قصده الاشتراكي الثوري الأمريكي “هال دابر” حين أكد على أن “طبيعة الحزب الثوري الجماهيري ووجوده لا يستمدان من برنامجه السياسي الكامل الذي يمكن نسخه على الآلة الكاتبة بواسطة كادر نشيط، أو الذي يمكن مطه أو كمشه حسب الرغبة كالأكورديون. طبيعة الحزب الثوري تستمد من انخراطه العضوي في حركة الطبقة العاملة كجزء منها، ومن انغماسه في الصراع الطبقي، ليس بناء على قرارات اللجنة المركزية وإنما بناء على أنه يعيش داخل هذا الصراع. هذه الطبيعة هي بالضبط الأمر الذي لا يمكن (لمجموعة صغيرة) تقليده على النطاق الصغير. إن الحزب الثوري ليس مثل القميص الذي ينكمش ولكنه يظل بالرغم من ذلك قميصًا، وإنما هو مثل التفاعل النووي: ظاهرة تبرز إلى الوجود فقط عند نقطة معينة من التطور، وقبلها لا تكون الظاهرة أصغر وإنما ببساطة تختفي تمامًا”.

ربما لا نكون مبالغين إذا قلنا أن 90% من المجموعات الثورية الصغيرة – خاصة التروتسكية – قامت على تقليد أعمى لشكليات الأحزاب الكبيرة، وعلى رأسها بالطبع الحزب البلشفي. اقتبست المجموعات برامج وتقسيم عمل وأدوات وحتى رطانة الأحزاب الكبيرة. والنتيجة كانت دائمًا النخبوية. فبدون تأثير على الجماهير أو صلة بها، وبدون وجود حقيقي في أوساط الطبقة العاملة ومنظماتها، لا يتبقى للمجموعة الصغيرة سوى الإدعاء الكاذب بأنها “تقود الطبقة العاملة بالخط والبرنامج السليم”! وهكذا يولد الكاريكاتير السقيم للبشلفية: بضع عشرات من الثوريين يفقدون تمامًا بوصلة الفهم الصحيح للعلاقة الجدلية بين الحزب والطبقة، ويندفعون في مغامرات رخيصة “لقيادة الجماهير”.

الحزب العمالي الثوري ليس موجودًا بعد. وبناؤه لن يتم بقرار فوقي من جانب حفنة معزولة من الثوريين. فبناء الحزب عمل شاق يحتاج بالطبع إلى صحة السياسات والتوجه وأساليب العمل، ولكنه أيضًا يحتاج إلى توفر الظروف الموضوعية المناسبة. فطالما ظلت المجموعات الصغيرة مضطرة – بسبب الجزر وتراجع الحركة العمالية وتآكل طليعتها – للدعاية والنمو أساسًا في أوساط الطلبة والمثقفين الراديكاليين البرجوازيين الصغار – طالما ظل الوضع على هذا الحال لا يمكن لأحد أن يدعي أن الحزب العمالي قد أصبح قاب قوسين أو أدنى. هذه الحقائق لا تنفي أهمية مرحلة التراكم البدائي. فالكفاح في هذه المرحلة هو الذي يغلق الكوادر الثورية التي تستطيع، عبر تطويرها لأدواتها، وعبر اتصالها وصحي والسياسي بالطبقة العاملة، أن ترتبط بشكل مسيس وصحي بالطبقة العاملة ونضالاتها، وهو الأمر الذي يمكنها فيما بعد من النمو – ثم التأثير – في أوساط العمال وفي كفاحها. ولكن هذه حدود التراكم البدائي، وهذه هي حدود الجزر. وفهمها ضروري لأنه يوضح لنا المهمة الصحيحة، ويخلق لنا الأساسي السياسي القوي للصبر الثوري.

خاتمـة:
إن المعضلة التي تواجه الثوريين في مرحلة كتلك التي تحدثنا عنها في هذا المقال هي معضلة أن يفهموا، من ناحية أولى، حدود المرحلة التي يمرون بها، ومن ناحية ثانية أهميتها القصوى للمراحل التي تليها. في هذه المرحلة يستطيع الثوريون أن يتدخلوا في النضالات، ويجذبوا من خلال ذلك عضويات وصلات هامة، ولكنهم لا يستطيعون أبدًا أن يؤثروا في المجرى العام للصراع الطبقي. المشكلة هنا هي أن يفهموا أن عدم قدرتهم على التأثير نابعة من وضعهم ومن وضع الصراع الطبقي، وأن يفهموا أن هذا لا يعني أبدًا أن ينعزلوا ولا يحققوا نموهم وتماسكهم عبر النضال داخل معارك وقضايا هذا الصراع.