حول الدين والسياسة في مصر.. نحو نقد ثوري للدين
يلعب الدين دورًا مركزيًا في مختلف نواحي الحياة في مصر، من الشخصي الخاص إلى السياسي العام، مرورًا بالعديد من الظواهر والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية التي يختلط فيها الخاص بالعام، والشخصي بالسياسي. على المستوي الشخصي، هناك تزايد ملحوظ، ربما على امتداد العقود الثلاثة الأخيرة، في الالتزام بالتعاليم والطقوس الدينية، وتنامي في المشاعر الدينية، بحيث يمكن الحديث عن “ظاهرة العودة للدين” على حد تعبير تقرير الحالة الدينية في مصر الصادر عن مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام في 1995. وعلى المستوى السياسي، فإذا كان الدين الإسلامي يعد احد الركائز المعتدلين والراديكاليين يستمد إيديولوجيته السياسية من الإسلام أيضًا.
وما بين هيمنته على الشخصي والسياسي، يحتل الدين مكانة بارزة على العديد من الأصعدة المختلفة. فالحبل الدائر حول فوائد البنوك، وهي قضية اقتصادية تخص علاقة النظام البنكي بالاقتصاد الرأسمالي العام، هو بالأساس جدل ديني يتعلق بالحلال والحرام ويتم حسمه بالعودة للنصوص الدينية العتيقة، وليس بالبحث في قوانين السوق والاقتصاد. وإذا ما طرحت قضية مثل عمل المرأة، وهي قضية اجتماعية تختص بدور المرأة في المجتمع المعاصر، فإن الخلاف حولها سرعان ما يأخذ شكل مباراة فقهية في تأويل كتابات رجال يفصلهم عن هذا المجتمع ألف عام أو يزيد. ويستطيع القارئ بالطبع أن يعدد أمثلة أخرى كثيرة.
وفي ظل المناخ الديني السائد، تختفي حرية الفكر والتعبير أو تكاد أن وتنتشر الخزعبلات الفكرية والخرافات بشكل مرضي. لا نحتاج للتوسع في الحديث عن سطوة الأزهر- تلك المؤسسة الممعنة في الرجعية والتعفن- في مصادرة الكتب التي تحتوي على أقل القليل من نقد التراث الديني، ودور القضاء في التنكيل بأصحاب هذه الكتب إلى حد الفصل بين رجل وزوجته على أساس قوانين بربرية تعود بجذورها إلى صدر الإسلام. ويحق للجامعة المصرية أن تفخر بأنها لم تتخلف عن الركب، فراحت تؤدب أساتذتها السذج ممن صدقوا بوجود الحرية الأكاديمية وتجرئوا على ممارستها. أما عن الخرافات والخزعبلات فحدث ولا حرج. فهذا مفكر يحاول التوفيق بين العلم والدين بالبحث عن القوانين والاكتشافات العلمية الحديثة في النصوص القرانية، وذلك آخر يدعو “لاسلمة” العلوم الطبيعية والاجتماعية، وهذه زمرة من نخبة العلماء تتحدث في التليفزيون حديثًا جادًا (بمعني أنه يأخذونه مأخذ الجد) عن حكم الشرع في العلاقات الجنسية، السوية منها أو المثلية، بين الأنس والجن، وتلك صحيفة معارضة محترمة تؤكد أن تلاوة آيات معينة من القرآن على النبات تزيد من خصوبته.. الخ.
ويصبح هذا المناخ خانقًا حقًا عندما نجد أن أغلب من يتصدون لمواجهة هذه الهيمنة الدينية من ليبراليين ويساريين تتسم مواقفهم بتخاذل يدعو إلى الضحك والبكاء معًا. أنهم مثلاً يدافعون عن رجل مثل نصر حامد أبو زيد على أساس أنه لم يخرج عن الإسلام وليس على أساس حرية العقيدة، وهم يعارضون ختان النساء على أساس أن القرآن والسنة لم ينصا عليها (كما لو كان النص عليه في القرآن والسنة يقلل شيئًا من كونه جريمة إنسانية ذات أبعاد صحية ونفسية وجنسية واجتماعية كارثية) وهم يعارضون الحركة الإسلامية الراديكالية انطلاقا من “الإسلام الصحيح”.
البرجوازية المصرية والثورة الثقافية الغائبة
لماذا لم يقترن التحديث الرأسمالي للمجتمع المصري بالحد من نفوذ الدين ودورة في المجتمع على غرار ما حدث في أوربا مثلاً؟ ترتبط الإجابة على هذا السؤال بنمط التطور الرأسمالي المصري المختلف إلى حد كبير عن النموذج الأوربي عمومًا، والفرنسي على وجه الخصوص. لقد كانت الثورة الفرنسية تتويجًا سياسيًا لصراع اقتصادي اجتماعي فكري محتدم بين البرجوازية الصاعدة والنظام الإقطاعي القديم. وقد وجهت البرجوازية، من خلال مفكري التنوير سهام النقد اللاذع للترسانة الأيديولوجية للنظام القديم، بما فيها الدين المسيحي متجسدًا في الكنيسة الكاثوليكية الكلية الجبروت في القرون الوسطى الأوربية. وخلال الثورة وضعت البرجوازية المنتصرة فكرها موضع التطبيق، فهي لم تفوض الملكية ومعها كافة معوقات الهيمنة البرجوازية على المجتمع والسياسة فحسب، وإنما أيضًا قلصت دور الكنيسة وفصلت تمامًا بين الدين والدولة. ولم يكن كل ذلك ممكنًا بغير تعبئة الجماهير البائسة في الريف والمدينة خلف قيادة البرجوازية في معركتها مع العالم القديم. كانت هذه التعبئة ضرورية بالنسبة للبرجوازية للانتصار على المجتمع القديم. وكانت ممكنة أيضًا لأن الجماهير الشعبية لم تكن قد تبلورت بعد في هيئة بروليتاريا ناضجة يمكن أن تهدد بتقويض العالم البرجوازي. هكذا كانت الثورة الفرنسية الكبرى في أحد جوانبها ثورة ثقافية خاضت حربًا أيديولوجية ضد العالم القديم، ومهدت الطريق لمجتمع برجوازي حديث صفى حساباته إلى حد كبير مع الدين والتراث الديني.
أما التطور الرأسمالي في مصر فهو قصة أخرى تمامًا. لقد خرجت البرجوازية المصرية من زحم الدولة قبل الرأسمالية (أو بالأحرى دولة محمد علي الانتقالية) ثم نمت في كنف الامبريالية ورأس المال الأجنبي. إذا كان جوهر الثورة البرجوازية هو أن بتحول البلد المعني إلى مركز للتراكم الرأسمالي يرتبط بالاقتصاد الرأسمالي العالمي، فإن الثورة البرجوازية تكون قد قامت في مصر بالتأكيد. إلا أنها جاءت من أعلى لا من أسفل، ومن الخارج لا الداخل (اندمجت مصر في الاقتصاد الرأسمالي العالمي من خلال تصدير القطن في عهد محمد علي قبل ظهور البرجوازية داخليًا). وكان من استتباعات هذا النمط من التطور الرأسمالي أن البرجوازية المصرية لم تكن بحاجة لتصفية حسابات تاريخية جذرية لا مع النظام الاقتصادي. القبل رأسمالي في مصر، ولا مع بنيته الفوقية الأيديولوجية بما في ذلك الدين. ولم تكن هذه البرجوازية بالتالي بحاجة لتعبئة الجماهير الشعبية من أجل انجاز أهدافها، كما أن خشيتها من هذه الجماهير- وفي القلب منها البروليتاريا الحديثة- كانت أقوى من أية تناقضات هامشية بينها وبين الدولة أو الإمبريالية.
لا يعني ذلك أن البرجوازية المصرية لم تكن بحاجة لتحديث. فالتطور الرأسمالي ينطوي بالطبع على تحديث للمجتمع. لكن الثورة البرجوازية من أعلى وضعت قيودًا على هذا التحديث الذي اتخذ شكل الجمع بين منجزات العصر التكنولوجية من جانب، والموروث الثقافي القديم من جانب آخر. هكذا جاء مشروع مفكري الحداثة البرجوازيين في مصر توفيقيًا يجمع في سطحية بين الأصالة والمعاصرة من خلال الخليط البراجماتي من منجزات العمل (لا منهجه وثقافته) وخزعبلات الدين. ومن هنا يأتي الطابع المتردد والمتراجع دومًا لفكر التحديث البرجوازي المصري من رفاعة الطهطاوي إلى طه حسين.
وإذا كانت الناصرية قد مثلت ذروة التناقض بين الرأسمالية المصرية والإمبريالية (كان ذلك موضوعيًا تمامًا في حينه إذ أن العصر كان عصر النزوع بدرجات متفاوتة نحو رأسمالية الدولة في العالم كله، وعصر التأكيد على التنمية الاقتصادية المستقلة نسبيًا في كل بلد أو مجموعة إقليمية من البلدان على حدي)، فإن الناصرية مع ذلك لم تشذ كثيرًا عن تراث البرجوازية المصرية سواء فيما يتعلق بالعجز عن تعبئة الجماهير ضد الإمبريالية أو تصفية الحساب مع التراث الديني إن عبد الناصر المتهم بالعلمانية من خصومه اليمينيين كان بريئًا في الواقع من هذه التهمة. فعلى الرغم من أن عبد الناصر – على حد تعبير غالي شكري في كتابه الهام رغم يمينيته الثورة المضادة في مصر – “لم يكن بالزعيم الذي تستهويه التجارة بورقة الدين، فلم يخلع على نفسه قط صفات الإيمان ولم يختتم خطبه مطلقًا بالآيات القرآنية”، إلا أن موقفه من علاقة الدين بالدولة كان أبعد ما يكون عن الحسم في اتجاه الفصل. ألم يجعل الإسلام “الدين الرسمي للدولة” وفقًا للدستور؟ ألم يجعل مادة الدين مادة أساسية في مختلف مراحل التعليم تؤدي إلى النجاح أو الرسوب؟ وهو ما كان نتيجته أن “بدا تلاميذ المدارس يعرفون التفرقة الدينية وهم بعد صغار، كما أنهم – مسيحيين ومسلمين – بدوا يولون القيم الدينية اهتمامًا زائدًا خوفًا من السقوط، ويتدرج بغالبيتهم الأمر إلى تغليب الفكر الديني في غياب الفكر العلمي ثم إلى تغليب الحس الديني على الحس الوطني والقومي” (غالي شكري). ثم أن تأميم عبد الناصر للأزهر كان أبعد ما يكون عن روح العلمانية وفصل الدين عن الدولة، إذ راح عبد الناصر يستخدم شيوخ الأزهر المعينين في إضفاء الشرعية الدينية على سياساته.
هكذا تطورت الرأسمالية المصرية بمعزل عن الثورة الثقافية التي تصفي الحسابات مع التراث الديني، وتفصل الدين عن الدولة، وتنشر الفكر العلمي والإنساني في المجتمع.
هزيمة 1967 ونصيحة مريم العذراء للشعب المصري
إن التحليل السابق يعطي تفسيرًا اجتماعيًا تاريخيًا لاحتفاظ الدين بمكانته المرموقة في المجتمع في خضم التطور الرأسمالي في مصر. ولكن كيف نفسر الزيادة الملموسة في هذه المكانة على مدى العقود الثلاثة الأخيرة؟ إننا هنا نحتاج لتفسير اجتماعي سياسي بالأساس. لقد جاءت هزيمة 1967 الشنعاء لكي تعلن عن تفاقم مأزق الناصرية ووصولها إلى حافة الانهيار. كانت الأزمة شاملة: اقتصادية – انخفاض معدل الربح في الصناعة والعجز عن بناء قاعدة قوية في مجال صناعة وسائل الإنتاج، اجتماعية – تفاقم التناقضات الطبقية خاصة بين “البرجوازية الجديدة” داخل القطاع العام وجهاز الدولة والطبقة العاملة النافرة من الوصاية الناصرية؛ عسكرية؛ سياسية – احتلال الأرض والعجز عن التصدي للإمبريالية فضلاً عن العجز المزمن عن بناء مؤسسات سياسية جماهيرية بحق.
إن تفاقم الأزمة، جنبًا إلى جنب مع تزايد السخط في صفوف جماهير العمال والطلبة والارتفاع الملحوظ في مستوى الصراع الطبقي بدءًا من عام 1968، كان مبشرًا بميلاد واقع جديد خصب ممتلئ بإمكانات التجذير والثورة والتحرر. وفي الوقت ذاته، فإن مرارة الواقع والإحباط الناجم عن هول الهزيمة كان ينذر بمستقبل صعب يزداد فيه الاغتراب ويتصاعد فيه دور الدين كسلوى وعزاء عن بؤس الواقع (الدين كتعبير عن البؤس الحقيقي واحتجاج في الوقت نفسه عليه).
كان تحقق البديل الثاني في نهاية المطاف (رغم استمرار المد في الصراع الطبقي حتى عام 1977) محصلة عدة عوامل، لعل أبرزها هو غياب البديل اليساري الثوري القادر على بلورة إمكانات التجذر الحقيقة والموضوعية. وعادة ما تنسب هذه النتيجة إلى سياسات وتطورات السبعينيات الساداتية، ومع ذلك فقد شهدت أواخر الستينيات ظاهرة تستحق التأمل من زاوية كونها تدشينًا رمزيًا لتزايد سطوة الدين في المجتمع.
في الخامس من مايو خرجت صحيفة الأهرام على الناس حاملة بيان للبابا كيرلس السادس أكد فيه ظهور مريم العذراء في كنيسة الزيتون، كما نشرت الأهرام على صفحتها الأولى صورة اعتبرتها تصويرًا فوتوغرافيًا للعذراء أو لطيفها. وراحت كافة إمكانات الصحافة ووسائل الإعلام تحتشد لنقل وقائع المؤتمر الصحفي الذي أعلن فيه البابا هذا النبأ، ثم “انغمست الصحافة المصرية بأسرها تقريبًا في هوس ديني مفاجئ فتبنت هذه القضية الوطنية الكبرى وأخذت تروج لها وتجهد نفسها في البحث عن البراهين العلمية القاطعة على حقيقة المعجزات، والتنقيب عن العلماء وأساتذة الجامعات ليشهدا أن ظهور العذراء حقيقة واقعة لا يمكن الشك فيها، وحشد الشهود والوثائق والتقارير الطبية للتدليل على أن القضية التي احتضنتها الصحافة وأجهزة الإعلام حقيقية موضوعية ثابتة. وبينت الصحافة بكل وضوح أن ظهور العذراء يتضمن غازي سياسية واجتماعية وكفاحية وسياحية بعيدة المدى بالنسبة للشعب العربي في مصر وبالنسبة لاستعادة الأراضي المحتلة من بعد الخامس من يونيو” (صادق جلال العظيم، نقد الفكري الديني).
أن الأمر الجدير بالتأمل في هذه الحادثة ليس هو الاعتقاد التقليدي بحقيقة المعجزات وحقيقة ظهور العذراء، وذلك أن “قصص وحكايات وقوع المعجزات الخارقة لقوانين الطبيعة والشافية للبشر من آلامهم وأوجاعهم قديمة قدم الإنسان نفسه، وليست وقفًا على دين دون غيره.. ونحن نعرف بأنه لا تكاد تخلو قرية في الدنيا من الحكايات والروايات التي يتداولها الناس على أنها حقائق قاطعة عن كرامات الأولياء ومعجزات القديسين (صادق العظم). إنما الجدير بالتأمل حقًا هو أن “تحرك أبناء الشعب، بدافع اعتقاداتهم الدينية المتوارثة، لم يأخذ مجرى عفوي حج بموجبه المؤمنون إلى الكنيسة المعنية.. كان مجرى الأمور على العكس من ذلك تمامًا في مصر حيث تبنت أجهزة الدولة – بصحافتها ووسائل إعلامها ووزاراتها – قصة ظهور العذراء واحتضنتها وروجت لها.. فحولت بذلك إلى هستريا دينية اجتاحت قسمًا كبيرًا من المواطنين” (نفس المرجع).
وفي المؤتمر الصحفي الحاشد الذي أعلن فيه عن ظهور العذراء، ذكر أحد رجال الدين المسيحي في معرض تعليل ظهورها ما يلي: “فقد قلنا أن القديسين والشهداء يظهرون للمؤمنين في وقت الشدة لمساندتهم وشد أزرهم. ولذلك جاءت العذراء لشد أزر الشعب المصري المؤمن المبارك بنص الكتاب المقدس، في الشدة والأزمة التي يمر بها الآن وتبصيره بأن الله لم ينس وعده لهم بأنهم شعب مبارك لديه.. ودعوة أبناء مصر إلى التمسك بإيمانهم وعقائدهم في هذا الوقت بالذات، الذي تنتشر فيه دعوات الإلحاد وأصوات الكفر وصرخات الابتعاد عن الله وعن الإيمان.. ونحن لا ننسى حتى الآن ذلك الإنسان الذي أرسل إلى الفضاء وعاد ليقول أنه بحث عن الله في السماء فلم يجده!” (الأهرام، 5 مايو 1968).
أرادت الدولة الناصرية إذن أن تنمي جوًا من الهستريا الدينية تغطي به على أزمتها المتعددة الجوانب، وتتجنب به احتمالات التجذر والاندفاع يسارًا داخل المجتمع المصري. كم كان غالي شكري غير موفق عندما قال عن دولة عبد الناصر: “أنها في غمرة هزيمة 1967 لم تتوسل الدين في مواجهة اليأس الاجتماعي الشامل، رغم أنه كان النغمة المرشحة تلقائيًا للسيادة” (غالي شكري، الثورة المضادة في مصر). كان الدين هو النغمة المرشحة للسيادة، وكانت الدولة هي المايسترو الذي راح يقود الأوركسترا!
ومع مجيء السبعينيات راحت الدولة تدفع نفسها والمجتمع معها نحو مزيد من التدين. إلا أن تدين المجتمع كان كالقنبلة الموقوتة. كان هذا التدين أقوى ما يكون ما أوسط شرائح البرجوازية الصغيرة في مصر، وبقدر ما كان تدينها نوعًا من التكيف مع اليأس المتصاعد، بقدر ما كان تعبيرًا عن سخط شديد ورغبة وعارمة في التمرد والتغيير. وانعكست بالتالي تناقضات البرجوازية الصغيرة وتذبذبها الدائم على الظاهرة الدينية السياسية وصبغها بطباعها.
اليسار الثوري والحاجة لنقد ثوري للدين
ليس صدفة أن اليسار الستاليني في بلادنا لم يحاول أن يقدم نقدًا ثوريًا للدور الذي يلعبه الدين في حياتنا. فالطابع الإصلاحي لهذا اليسار أوقفه دائمًا على نفس الأرضية الطبقية للطبقة الحاكمة ذاتها. وما دام اليسار قد تخلى عن مشروع التغيير الثوري لبنية المجتمع التحتية (علاقات الإنتاج الرأسمالية السائدة)، فمن الطبيعي أن يتخلى كذلك عن النقد الجذري للبنية الفوقية بما فيها الدين. أن نقد الأرض ونقد السماء وجهان لعملة واحدة. وقد كان يسارنا متسقًا مع ذاته فتخلى عن نقد الاثنين معًا!
والواقع أن هذا ينطبق على مجمل اليسار الستاليني العربي. وفي معرض تفسير هذه الأحجام عن توجيه سهام النقد إلى الدين، يتعلل هذا اليسار بحجج زائفة متعددة لعل أبرزها هو القول بعدم الاصطدام بالمشاعر الدينية للجماهير الشعبية. وفي كتابه: نحو رؤية ماركسية للتراث العربي يعبر الماركسي الأكاديمي العربي د. توفيق سلوم تعبيرًا كلاسيكيًا عن هذا الموقف. يقول سلوم أن مشكلة الماركسية تتمثل في كونها تبدو للجماهير فكرًا مستوردًا ومن ثم فالمطلوب هو تعريب الماركسية، أي تقديم الفكر الماركسي في قالب عربي، وعرضه في صورة قريبة من معارك الجمهور العربي. ويضيف سلوم: “ولكي يكف جمهورنا عن اعتبار الماركسية فكرًا وافدًا وغريبًا، ينبغي أن تعرض له في صورة، تبدو معها وكأنها نابعة من صميم ماضينا وتراثنا، من أعماق تاريخنا وفكرنا: من اشتراكية أبي ذر وعلي ابن أبي طالب والقرامطة، وعقلانية المعتزلة، ومادية ابن سينا وابن رشد، وأطروحات ابن خلدون المادية التاريخية، وديالكتيك أخوان الصفا”.
بدلاً إذن من أن نسعى لتطوير الوعي لأممي للبروليتاريا العربية، المطلوب هو تعريب الماركسية بمعنى خصيها وابتذالها في سياق توفيقي كوميدي بين الماركسية والتراث! بل أن سلوم يمضي إلى ما هو أبعد من ذلك فيقول أن على الماركسيين أن يطرحوا الماركسية من داخل الإسلام استغلالاً لكون الإسلام دينًا فضفاضًا يمكن تأويله على أكثر من نحو. ولتوضيح فكرته يضرب سلوم هذا المثل الملموس. أنه يقول أن هناك رأي عام شعبي يرى “أن الدين بما هو دين يتعارض مع أخلاقية التعذيب”، “وأن الدين نقيض للعدوان والجلادين عصاة أو فساق لا يخافون الله”. فهل يعمل الماركسيون على التشكيك في هذا الرأي العام عن طريق الكتابة عن “تاريخ التعذيب في الإسلام” وتفنيد الأوهام التبسيطية لدى الجماهير! يرد سلوم على هذا التساؤل بسخرية قائلاً: “يا ترى، لو تخلى الجمهور المتدين – لا سمح الله – عن هذه القناعات، وأمن – بتأثير كتابات كهذه – بأن الدين يبارك التعذيب: هل يتخلى عن الدين، كما يتوهم أصحاب هذه الكتابات، أم يستحسن ويبارك تعذيب الحاكم المؤمن للشيوعي الكافر؟! أليست هذه هي المازوخية بعينها، التلذذ بتعذيب الذات!! كلا لا مصلحة للمناضلين في سبيل الاشتراكية والشيوعية بزعزعة قناعات إنسانية كهذه. وليس لهم مصلحة في التشكيك – باسم العلم والحقيقة – بما تكون في وعي الجماهير الفقيرة المتدينة من صورة زاهية عن عدالة واستقامة الرسول وأبي ذر وأبي بكر وعمر وعلي، وعن دعوة الإسلام إلى المساواة وتحرير العبيد.. على العكس تمامًا: نحن معنيون بترسيخ مثل هذه الصور وبتدعيم مثل هذه القناعات. أما قضية الحقيقة التاريخية، التي قد تقلق بال بعض الدارسين، فلعل من الأفضل – في أمور كهذه – ترك البت فيها للباحثين بالمعاهد الأكاديمية، التي ننشئها بعد أن نصل بالجمهور، التي تلهمه تلك الصور والقناعات، إلى مجتمعنا الاشتراكي المنشود”.
يا للوقاحة! المطلوب هو تزييف وعي الجماهير حتى “الوصول بهم إلى المجتمع المنشود ثم مفاجئتهم بالحقيقة المرة! أي احتقار للجماهير هذا! الواقع أن الماركسية لا تستقيم مع التعامل مع الجماهير باعتبارهم أغنامًا يساقون إلى الثورة من خلال الخداع والتزييف. ومن سوء حظ الدكتور سلوم أن الجماهير في الواقع أذكى كثيرًا مما يعتقد، وهي تشتم بسهولة رائحة الانتهازية في هذا السلوك الذي يقترحه فتنفر من اليسار بالتالي إذا ما اتبعه!
إن السبب الحقيقي وراء عدم إقدام اليسار الستاليني على نقد ثوري للدين والتراث هو ببساطة إصلاحية هذا اليسار. ماذا يعني ذلك بالنسبة لليسار الثوري؟ أنه يعني أن علينا أن نشرع في نقد ماركسي ثوري للدين يقوم على الأسس التالية:
- الدين بالطبع لا يمكن أن يكون عدونا الأساسي، ذلك أن الدين هو نتاج للمجتمع الطبقي واغتراب الإنسان داخل هذا المجتمع.
- عدونا الأساسي إذن هو المجتمع الطبقي ذاته الذي ينبغي النضال لإسقاطه بواسطة الصراع الطبقي.
- ولكن حيث أن الدين هو جزء من الأيديولوجية السائدة، وهذه الأيديولوجية هي عامل مؤثر داخل الصراع الطبقي، فإن علينا أن نخوض صراعًا أيديولوجيًا مبدئيا ضد الدين.
- لا بد أن يخضع هذا الصراع الأيديولوجي لمقتضيات الصراع الطبقي، ويثير هذا بالطبع قضية الحنكة السياسية في اختيار الأولويات والوسائل.
وفي الختام، فقد كانت هذه مقدمة نحو المهمة المطلوب الشروع فيها، إلا وهي تقديم نقد ماركسي ثوري للدين يربط ما بين نقد الأرض ونقد السماء. وسنحاول في مقالات تالية حول الدين والسياسة في مصر إلقاء الضوء على العلاقة العقدة لكل من الإسلام والمسيحية، على الترتيب، بالسياسة في المجتمع المصري المعاصر.