بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

حول الجبهة المتحدة

تعتبر الجبهة المتحدة أسلوباً يستخدمه الاشتراكيون للتنظيم وبناء الوحدة في الحركة بين قطاعات عريضة من الجماهير، سواء من أجل تحقيق أهداف راهنة أو كسب شرائح أكبر من العمال إلى الاشتراكية. وقد اشتهر الثوري الروسي ليون تروتسكي بتطويره لتكتيك الجبهة المتحدة، وفي 2 مارس 1922 كتب مقالة “الجبهة المتحدة” (كجزء من التقرير الذي قدمه حول مسألة الشيوعية الفرنسية في الأممية الشيوعية الثالثة)، وذلك حينما كان الثوريون في القلب من حركة الطبقة العاملة في مرحلة الدفاع بعدما هدأت الفترة الثورية 1917 – 1918.

نقاط عامة حول الجبهة المتحدة

(1)

إن مهمة الحزب الشيوعي هي قيادة الثورة العمالية، ومن أجل دعوة الطبقة العاملة للاستيلاء المباشر على السلطة وتحقيق ذلك، يجب أن يستند الحزب الشيوعي على الأغلبية الساحقة من الطبقة العاملة. وطالما كان الحزب الشيوعي لا يحظى بتلك الأغلبية، فعليه أن يناضل لكسبها.

يمكن للحزب تحقيق ذلك فقط عبر الحفاظ على منظمة مستقلة ببرنامج واضح وانضباط داخلي صارم. ولهذا السبب فإن على الحزب أن ينفصل أيديولوجياً وتنظيمياً تماماً عن الإصلاحيين والوسطيين الذين لا يناضلون من أجل الثورة البروليتارية، والذين ليس لديهم القدرة ولا الرغبة في تحضير الجماهير للثورة، والذين أيضاً يؤدي عملهم بالكامل إلى تثبيطها.

أما إذا تحسر أي من أعضاء الحزب الشيوعي على الانفصال عن الوسطيين بدعاوى “وحدة القوى” و”وحدة الجبهة”، فهم يظهرون بذلك أنهم لا يفهمون ألف باء الشيوعية، وأنهم أعضاء بالحزب الشيوعي فقط لأن الصدفة شاءت ذلك.

(2)

بعد التأكيد على الاستقلال التنظيمي والانسجام الأيديولوجي الكامل بين قواعده، على الحزب الشيوعي أن يكافح من أجل التأثير على أغلبية الطبقة العاملة. وهذا النضال يمكن أن يتقدم أو يتراجع وفقاً للظروف الموضوعية من ناحية، والتكتيكات التي يوظفها الحزب من ناحية أخرى.

لكن من المؤكد أن الحياة الطبقية للعمال لا تتوقف خلال فترة الإعداد للثورة؛ حيث تستمر الصدامات مع رجال الأعمال، مع البرجوازيين، ومع سلطة الدولة.

وفي هذه الصدامات الطبقية – التي تتضمن المصالح الحيوية لكل الطبقة العاملة، أو أغلبيتها، أو حتى هذا القطاع أو ذاك من الطبقة العاملة – تشعر الطبقة العاملة بالحاجة إلى الوحدة في الفعل، تشعر بالحاجة إلى الوحدة في مقاومة طغيان الرأسمالية، أو على الجانب الآخر: الوحدة في الهجوم على الرأسمالية. وأي حزب يعارض هذه الحاجة لدى الطبقة العاملة للوحدة في الفعل، لن يجني من العمال سوى الاستنكار والإدانة.

وبالتالي، فإن مسألة الجبهة المتحدة، ليست على الإطلاق، لا في أصلها ولا في ممارستها، مسألة علاقات متبادلة بين الكتلة البرلمانية الشيوعية ونظريتها الاشتراكية، أو بين اللجان المركزية لحزبين مختلفين، إلخ. إن مسألة الجبهة المتحدة – بالرغم من حتمية الانقسام في مدى زمني معين بين المنظمات السياسية المختلفة المستندة إلى الطبقة العاملة – تنبع من الحاجة الملحة لتأمين إمكانية بناء وحدة الطبقة العاملة في النضال ضد الرأسمالية.

أما أولئك الذين لا يفهمون هذه المهمة، فكأنما يقولون أن الحزب ما هو إلا نادي دعائي وليس منظمة للفعل الجماهيري.

(3)

في الحالات التي يظل فيها الحزب الشيوعي، عددياً، أقلية غير مؤثرة، فإن مسألة الاتصال بالنضال الجماهيري والانغراس فيه لا تفترض بالضرورة تأثيراً عملياً وتنظيمياً حاسماً. ففي هذه الظروف، تبقى التحركات الجماهيرية تحت قيادة المنظمات القديمة التي، بسبب قوة تراثها وامتداده، تستمر في الاضطلاع بالدور الأكبر والأكثر تأثيراً في النضال.

وعلى نحو آخر، فإن مسألة الجبهة المتحدة ليست مطروحة في البلدان التي يُعد فيها الحزب الشيوعي هو المنظمة الوحيدة التي تقود نضال الجماهير – كما هو الوضع في بلغاريا مثلاً [*].

لكن طالما أن الحزب الشيوعي يشكل قوة سياسية منظمة، لكن ليس القوة الحاسمة في الصراع، طالما أن الحزب الشيوعي يضم تنظيمياً، لنقل رُبع أو ثُلث أو حتى نسبة أكبر من الطبيعة البروليتارية المنظمة، فهو يواجه قضية الجبهة المتحدة بكل ما لها من جوانب.

فإذا كان الحزب يضم ثُلث أو نصف الطليعة العمالية، فهذا يعني أن الإصلاحيين والوسطيين ينظمون النصف الآخر أو ثُلثي الطليعة العمالية. ولا يحتاج الأمر إلى توضيح، إذ أن أولئك العمال الذين لا يزالون يؤيدون الإصلاحيين والوسطيين مهتمين هم أيضاً بالحفاظ على أعلى مستويات معيشة وأوسع مساحات ممكنة من الحرية في النضال. لذا علينا ابتكار تكتيكنا لمنع الحزب الشيوعي، والذي سيضم ثلاثة أثلاث الطبقة العاملة، من التحول إلى عقبة تنظيمية في المسار النضالي الراهن للعمال.

بل وأكثر من ذلك، ينبغي على الحزب أن يبادر من أجل تأمين الوحدة بين هذه النضالات الراهنة. وفقط بهذه الطريقة يمكن للحزب أن يقترب أكثر من ثلثي الطبقة العاملة اللذين لم يتبعا قيادته بعد، اللذين لم يضعا بعد ثقتهما في الحزب لأنهما لا يفهمانه. فقط بهذه الطريقة يمكن للحزب أن يكسبهما.

(4)

إذا لم يكن الحزب قد انفصل بشكل نهائي وحاسم عن الاشتراكيين الديمقراطيين، لما كان سيصبح حزب الثورة العمالية، لم يكن ليقدر على اتخاذ الخطوات الجادة الأولى في طريق الثورة، لكان سيبقى أبداً صمام أمان برلماني ملتصق بالدولة البرجوازية.. ومن لا يفهم هذا، لا يعرف العنصر الأول في أبجديات الشيوعية.

وإذا لم يرغب الحزب الشيوعي في تحقيق مكاسب تنظيمية في كل لحظة يكون فيها العمل المنسق والمشترك بين الشيوعيين وغير الشيوعيين (بما يشمل الاشتراكيين الديمقراطيين) ممكناً، فسوف يكشف عن عدم قدرته على كسب أغلبية الطبقة العاملة، وهكذا سيتفكك متحولاً إلى نادي للدعاية الشيوعية وليس حزباً لحوذ السلطة.. فليس كافياً أن يمتلك المرء سيفاً، بل عليه أن يجعله حاداً، بل ليس كافياً أن يجعله حاداً، بل عليه أن يعرف كيف يستخدمه ببراعة.

أما بعد انفصال الشيوعيين عن الإصلاحيين، فلا يكفي دمج الشيوعيين معاً في منظمة منضبطة تنظيمية، بل أيضاً من الضروري أن تتعلم هذه المنظمة كيف ترشد كافة النضالات الجماعية في كافة نواحي النضال الحي.. هذا هو العنصر الثاني في أبجديات الشيوعية.

(5)

هل تمتد الجبهة المتحدة إلى الجماهير العمالية فقط، أم أنها تشمل أيضاً القادة الانتهازيين؟

إن طرح مثل هذا السؤال ينتج عنه الكثير من سوء الفهم. فإذا كنا قادرين على توحيد الجماهير العمالية حول رايتنا أو حول شعاراتنا السياسية الراهنة، متجاوزين التنظيمات الإصلاحية سواء كانت أحزاباً أو نقابات، لكان ذلك هو الشيء الأفضل في العالم. وحينها لن تُطرح مسألة الجبهة المتحدة على شكلها الحالي.

هنا تكمن المسألة؛ إذ تنتمي القطاعات الهامة في الطبقة العاملة لهذه التنظيمات الإصلاحية أو تؤيدها. والخبرة الراهنة لدى العمال في هذه القطاعات ليست كافية لتؤهلهم للانفصال عن التنظيمات الإصلاحية والانضمام إلينا. وقد تحدث بعض التغيرات في علاقة الجماهير بالتنظيمات الإصلاحية، بعد الاشتباك مع المعارك الجماهيرية اليومية على وجه التحديد، لكن الأمور لا تسير حالياً على هذا النحو.

إن الكتل المنظمة في الطبقة العاملة منقسمة اليوم إلى ثلاثة أقسام. الشيوعيون من ناحية، يناضلون من أجل الثورة الاجتماعية، ولهذا السبب بالتحديد يؤيدون كل نضال يجري على الأرض للكادحين والمستغَلين ضد الدولة البرجوازية مهما كان جزئياً.

أما الإصلاحيون، وهم قسم آخر يضم كتلاً عمالية منظمة، فهم يكافحون من أجل التوافق مع البرجوازية. لكن كي لا يفقدوا تأثيرهم ونفوذهم بين العمال فهم مجبرين – بالرغم من الرغبات الملحة لدى قادتهم – على دعم وتأييد نضالات المستغَلين الجزئية ضد مستغليهم.

وأخيراً، هناك الوسطيين المترددين الذين يتراوحوان دائماً بين الشيوعيين والإصلاحيين، والذين ليس لهم أي تأثير مستقل.

وهكذا فإن الظروف الراهنة تجعل الفعل المشترك ممكناً على عدد من القضايا الحيوية بين العمال المتحدين في التنظيمات الثلاثة السابق ذكرها وبين العمال غير المنظمين الملتفين حولهم.

وهنا على الشيوعيين، كما قلت من قبل، ألا يعارضوا هذا الفعل المشترك، بل على العكس ينبغي عليهم أن يبادروا من أجله، حيث أنه كلما اتسعت الشرائح الجماهيرية المنخرطة في الحركة، كلما زادت ثقتها بنفسها أكثر وأكثر، وزاد استعدادها وقدرتها على المضي قدماً بحزم، حتى برغم ما قد تبدو عليه الشعارات التي يتبنوها في البداية من اعتدال. وهذا يعني أن الأبعاد الجماهيرية للحركة تجعل هذه الحركة أكثر جذرية، وتخلق بذلك شروطاً أفضل وأرضاً خصبة لشعارات وأسلوب نضال وقيادة الحزب الشيوعي.

أما بالنسبة للإصلاحيين، فهم ينفزعون من الفرص الثورية للحركة الجماهيرية، فأماكنهم المفضلة والمأثورة هي في المنابر البرلمانية والمكاتب النقابية ومجالس التحكيم وأروقة الوزارات.

ونحن، على العكس وبرغم كل الاعتبارات الأخرى، مهتمين بسحب الإصلاحيين من أماكنهم ووضعهم بجانبنا أمام أعين الجماهير المناضلة، وباتباع التكتيك الصحيح سوف نكسب من ذلك. والشيوعي الذي يخاف أو يشك في ذلك إنما يشبه السباح الذي قد تعلم الطريقة الأفضل للسباحة لكنه لا يجرؤ على القفز في الماء.

(6)

تفترض وحدة الجبهة بالتالي أن يكون لدينا الاستعداد الكافي، في إطار وحدود معينة وعلى قضايا محددة، كي ننسق تحركتنا في الممارسة العملية مع تحركات التنظيمات الإصلاحية، طالما لا تزال تلك التنظيمات تعبر عن إرادة قطاعات هامة من البروليتاريا المناضلة.

لكن ألا نسعى حتى الآن للتوصل لاتفاق معهم؟ بلى، نحن نسعى للاتفاق والعمل المشترك معهم في كل الحالات التي تكون فيها الجماهير التي تتبعهم مستعدة للانخراط في نضال مشترك مع الجماهير التي تتبعنا، وحينما يكون الإصلاحيون بهذه الدرجة أو تلك مجبرين على أن يكونوا أداة في هذا النضال.

ألن يقولوا، بعد الانفصال عنهم أننا لازلنا بحاجة إليهم؟ بلى، سيردد بعض الثرثارين منهم مثل هذا الكلام، وقد ينتاب القلق بعضاً من بين قواعدنا هنا أو هناك جراء ذلك. لكن كما أشرنا، فإن هذه الجماهير العمالية العريضة – حتى أولئك الذين لم يتبعونا بعد ولم يفهموا أهدافنا لكنهم يرون منظمتين أو اثنين يقودون نضالاً موازياً – هذه الجماهير سوف تستنتج من سلوكنا أننا، بالرغم من الانقسام، نبذل كل ما بوسعنا من جهد لإفساح المجال أمام وحدة الجماهير في الحركة.

(7)

إن سياسة تهدف إلى تأمين الجبهة المتحدة لا تضمن بشكل تلقائي تحقيق الوحدة في الفعل في كل وقت. بل على العكس، في كثير من الحالات، بل في غالبيتها، تتحقق نصف الاتفاقات التنظيمية أو حتى لا تتحقق على الإطلاق. لكن من الضروري أن تتوفر لدى الجماهير الفرصة كي تقتنع بأن السبب الحقيقي وراء عدم تحقق الوحدة لم يكن غياب الرغبة في التوافق من جانبنا، بل غياب الإرادة الحقيقية للنضال على جانب الإصلاحيين.

وخلال عقد الاتفاقات مع التنظيمات الأخرى، نحن نلزم أنفسنا بشكل طبيعي بالتزام معين في الحركة، وهذا الالتزام ليس مطلقاً أو مجرداً؛ فعندما يبدأ الإصلاحيون في كبح جماح الحركة الجماهيرية، وعندما يبدأون في التصرف ضد توجه الجماهير ومزاجهم، فنحن – كتنظيم مستقل – نحافظ دائماً بحقنا في قيادة النضال حتى النهاية، حتى بدون أشباه الحلفاء المؤقتين.

قد يدفع ذلك النضال بيننا وبين الإصلاحيين إلى مرحلة أكثر حدة. لكن ذلك لن يتضمن تكراراً لنفس الأفكار التي دارت في دوائر مغلقة، بل سيدل – في حال صحة تكتيكنا – على امتداد تأثيرنا إلى كتل جديدة وأكثر حيوية من العمال.

(8)

من الممكن أن نرى في هذه السياسة تقارباً مع الإصلاحيين، وذلك فقط من وجهة نظر الصحفي الذي يظن أنه يطهّر نفسه من الإصلاحية فقط من خلال نقدها دون حتى أن يغادر مكتبه، والذي يخاف من التصادم مع الإصلاحيين أمام أعين الجماهير العمالية لإعطائهم الفرصة لتقييم كل من الشيوعيين والإصلاحيين معاً في مجرى النضال الجماهيري. وخلف ذلك الشعور الذي يبدو وكأنه خوفاً ثورياً من “التقارب” ينكشف نوع من السلبية السياسية التي تتوق إلى إدامة الوضع الراهن حيث يحافظ الشيوعيون والإصلاحيون على حد سواء للإبقاء على دوائر نفوذهما كما هي، وجماهيرهما في المؤتمرات والاجتماعات كما هم، وصحافتهما كما هي، وكل ذلك يخلق وهماً بالنضال السياسي الجاد.

(9)

لقد قطعنا صلتنا بالإصلاحيين والوسطيين من أجل ممارسة كامل حريتنا في نقد الغدر والخيانة والتردد والمراوحة في الحركة العمالية. ولهذا السبب، فإن كل الاتفاقات التنظيمية التي من شأنها أن تقيد حريتنا في النقد والتحريض هي مرفوضة تماماً. فنحن نشارك في الجبهة المتحدة لكن لا نذوب فيها ولو للحظة واحدة، ونعمل كفصيل مستقل داخل هذه الجبهة المتحدة. وخلال مجرى النضال على وجه التحديد، ينبغي أن تتعلم الجماهير من خبرتها أننا أفضل من الآخرين، أننا أكثر وضوحاً من الآخرين، وأننا الأكثر جسارة وحسماً منهم. بهذه الطريقة يمكننا أن نجعل الجبهة المتحدة الثورية تحت القيادة الشيوعية بلا منازع.

هوامش:
(*) بالرغم من النفوذ الجبار الذي حظى الحزب الشيوعي البلغاري في عشرينات القرن الماضي، إلى الدرجة التي وصفه به تروتسكي بـ”المنظمة الوحيدة التي تقود نضال الجماهير” والتي لم تكن بحاجة لبناء جبهة متحدة مع الإصلاحيين والوسطيين ضيقي النفوذ حينذاك، إلا أن الثورة في بلغاريا قد تلقت هزيمتين ثقيلتي الوطأة في العام 1923، حيث أهدر الحزب الشيوعي فرصة نادرة ومواتية للحركة الثورية إثر انتفاضة الفلاحين في يونيو ويوليو، وبعد ذلك عندما حاول إصلاح خطأه واندفع في عصيان سبتمبر دون أن يكون قد أعد بعد المقدمات السياسية والتنظيمية الضرورية لضمان انتصار العصيان. (للمزيد، برجاء الاطلاع على “دروس ثورة أكتوبر” لليون تروتسكي) – المترجم.

نص المقال باللغة الإنجليزية هنا