كيف تتحرر فلسطين؟
كيف تتحرر فلسطين؟ تمثل الإجابات المختلفة على هذا السؤال تاريخًا طويلاً من النضال، وأيضًا من الفشل والعجز والخيانة والتواطؤ. فربما لم يحدث على مدار التاريخ أن وقعت حركة تحرر وطني أسيرة للفشل والهزيمة كما وقعت حركة التحرر الوطني الفلسطينية. واليوم عندما يقارن أي مناضل فلسطيني – أيا ما كان التيار السياسي الذي ينتمي إليه – بين ما حققته الحركة الفلسطينية وبين ما حققه – مثلاً – المؤتمر الوطني في جنوب أفريقيا ليس من الممكن إلا أن يصاب بالخيبة وبقدر غير قليل من اليأس. ففي جنوب أفريقيا – وبالرغم من هيمنة أنصاف الحلول – سقطت دولة الفصل العنصري، ولكن في فلسطين لم تزل إسرائيل قائمة. ليس هذا فقط، بل إن مشروع دويلة فلسطينية مجاورة (ومتعاونة!) مع إسرائيل على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة يتقلص ويبعد يومًا بعد يوم. هنا يتكرس الفصل العنصري ويحقق انتصارات، وهناك تنهزم دولته وتسقط بالرغم من كل المشاكل والنقائض.
وتاريخ التحرر الوطني الفلسطيني على مدى ثلاثة أرباع قرن أو أكثر هو أيضًا تاريخ الصراع الطبقي في فلسطين والمنطقة العربية، وهو من ناحية أخرى تاريخ تغلغل الإمبريالية وتطورات حركة مقاومتها في المنطقة. ربما لا يكون هذا واضحًا لأول وهلة. ولكنه هو لب القضية ومحورها الأساسي. فعندما نتحدث عن “فشل” حركة التحرر الوطني الفلسطينية نحن في الحقيقة نتحدث عن فشل استراتيجيات معينة مجربة في تحرر فلسطين، ونتحدث أيضًا عن فشل البرجوازية والبرجوازية الصغيرة الفلسطينية والعربية في تحرر فلسطين. وهذا الفشل لم يكن صدفة ولم يكن نتيجة أي تآمر، وإنما كان نتيجة إفلاس البرجوازية وروابطها العميقة بالإمبريالية ومصالحها. وما يشير إليه هذا الفشل هو أنه في فلسطين أكثر من أي مكان آخر يحتاج الانتصار على الإمبريالية والاستعمار إلى قيادة طبقية أخرى أكثر جذرية تستطيع أن تقطع الروابط مع الأنظمة ومع الاستعمار وتفتح الطريق أمام النضال الجماهيري من أسفل. إن انتصار الثورة الفلسطينية وحل القضية الوطنية للشعب المضطهد والمشتت هو أمر – كما تؤكد التجربة التاريخية – يرتبط مصيره بانتصار الطبقة العاملة ومشروعها الاشتراكي في المنطقة العربية.
ولكن لماذا سارت المسألة الفلسطينية في هذا المسار وأخذت هذا الطابع؟ أو بمعنى آخر: لماذا أصبحت مقاومة الرأسمالية من جذورها شرطًا لازمًا وضروريًا لتحرير فلسطين؟ ولماذا حتمًا لا بد أن تفشل كل الاستراتيجيات الأخرى للتحرير؟
أصل المسألة الفلسطينية:
ليس من قبيل البلاغة اللغوية أن نتحدث عن إسرائيل بوصفها واحدة من أغرب الدول في التاريخ. فالدول القومية التي نشأت في التاريخ الحديث تبدأ دائمًا من نقاط معروفة ومحددة. الدول القومية الحديثة تخلق عادة كتتويج للنضال الطبقة البرجوازية من أجل السيطرة السياسية على أرضها، أو لانتصار حركة تحرر وطني برجوازية صغيرة ضد الاستعمار العالمي أو الإقليمي. وأحيانًا كثيرة كانت تنشأ دول كنتيجة لتقسيم مناطق نفوذ بين الدول الاستعمارية الكبرى (مثلاً تقسيم دولة إلى دولتين بعد حرب… الخ). المختلف في حالة إسرائيل هو أن الحركة القومية التي أسستها (إذا جاز لنا أن نصف “الصهيونية” بأنها حركة قومية كغيرها من الحركات القومية) كانت بلا أرض وتبحث لنفسها عن وطن قومي غير معروف جغرافيًا. الحركة القومية اليهودية – نقصد الصهيونية – نشأت في أوروبا الشرقية في أواخر القرن الماضي، واكتسبت نفوذًَا واسعًا في أوساط اليهود عندما فتحت هزيمة مرحة الثورات العمالية في أوروبا في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين الباب لمرحلة جديدة من الاضطهاد الوحشي لليهود على يد هتلر وغيره. ومنذ نشأتها كانت الصهيونية حركة شديدة الرجعية ترى أن انتصارها وتحقيقها لأهدافها مرتبط تمامًا بالإمبريالية. قادة الصهيونية الأوائل – هرتزل ووايزمان – كانوا يرون أن دولتهم لن تظهر للوجود إلا إذا اقتنعت على الأقل واحدة من الدول الإمبريالية الكبرى بأن هذه الدولة تحقق لها مصالح إستراتيجية هامة. ولذلك سعى هؤلاء لإقناع الدول الكبرى بأهمية إسرائيل لهم. وعندما استقر الرأي على فلسطين كوطن مختار، كان الاختيار الحقيقي للصهيونية هو أن تثبت أن دولتها – إذا نشأت – سيكون لها دور محوري في حماية مصالح الإمبريالية في الشرق الأوسط. وهذا بالتأكيد ما نجحت الصهيونية كما نعلم في إثباته المرة وراء المرة.
ولأن الصهيونية له طبيعة شديدة الرجعية، ولأن صلتها بالإمبريالية صلة حياة أو موت، فإنها فقدت كل ما يربطها بالحركات القومية التقليدية. لقد كانت الصهيونية – ولا تزال – في حقيقتها حركة استعمار استيطاني وفصل عنصري. منذ بداية الموجات الأولى للهجرة اليهودية وحتى تأسيس الدولة في 1948 وما بعد ذلك، اتبعت الصهيونية سياسة عزل الاقتصاد والمجتمع اليهودي عن مثيليهما الفلسطينيين. وقد توسع هذا الفصل العنصري وتوسع كلما اكتسبت الصهيونية قوة على أرض فلسطين. وفي النقطة الفاصلة، عندما قررت الصهيونية أن تقيم دولتها بعد أن اقتنعت الإمبريالية تمامًا بأهمية هذه الدولة لمصالحها، – (1948) – تطورت سياسة الفصل العنصري إلى نتيجتها المنطقية وهي التطهير العرقي. في حرب 1948 قام الصهاينة بالطرد على نطاق واسع لمئات الآلاف من الفلسطينيين من أراضيهم ومنازلهم “لتطهير” الدولة الوليدة من الوجود الفلسطيني.
إن أهمية الحديث عن مسألة طرد الفلسطينيين وتطوراتها تنبع في الحقيقة من تأثيرها الشديد على مصير حركة التحرر الفلسطينية. فعندما طرد الفلسطينيون من أراضيهم في 1948 هربوا إلى ذلك الجزء من فلسطين الذي لم تحتله إسرائيل هو الضفة الغربية وقطاع غزة أساسًا، وهربوا أيضًا إلى الدول المجاورة كإمارة شرق الأردن. ولكن مصير الفلسطينيين من طبقات مختلفة كان متباينًا. بالقطع لم يميز الاستعمار الصهيوني بين فلسطيني غني وفلسطيني فقير عندما قام بالطرد. ولكن كبار ملاك الأراضي الفلسطينيين والبرجوازية الناشئة استطاعًا – عن طريق تحويل ذلك الجزء من ثرواتهم القابل للتحويل إلى الدول العربية – أن يجدا لنفسيهما حماية وفرها المال والثروة. أما العمال والفلاحون الفقراء والمعدمون وبعض المهنيين وأبناء الطبقة الوسطى فلم يجدوا أمامهم إلا المخيمات. لقد كان الشتات الفلسطيني كارثة قومية نزلت على كل الطبقات في فلسطين، ولكن معني الكارثة ومضمونها اختلفًا اختلافًا عميقًا بين طبقة وأخرى.
بعد الشتات الأول في 1948 أصبح واضحًا تمامًا أن الائتمان الطبقي هو الذي يحدد مصير الفلسطيني الذي فقد وطنه. فمن ناحية أولى ترعرعت ونشطت البرجوازية الفلسطينية في الدول العربية المجاورة وحققت نجاحات وراكمت ثروات وأصبح تشابك المصالح بينها وبين الأنظمة والبرجوازيات العربية أعمق وأعمق. ومن ناحية ثانية كان الباب مفتوحًا لأعداد واسعة من المهنيين لكي يعرضوا مهاراتهم ويبيعوها لرأس المال العربي (خاصة في دول الخليج التي تحتاج لهذه المهارات). أما عمال فلسطين وفلاحوها الفقراء فلم يجدوا مخرجًا. محصلة الاستعمار والطرد بالنسبة لهم كانت تدهورًا حادًا في أوضاعهم: فقدان الأرض، زيادة معدلات البطالة، اضطهاد واسع من الدول المستقبلة لهم.. الخ. المفارقة في هذا الوضع – وهي مفارقة حددت مصير وطبيعة النضال الفلسطيني – هي أن الخيط الواهي والوهمي الذي وحد الفلسطينيين من كل الطبقات – خيط الرغبة في إقامة وطن قومي مستقل – كان مجرد غطاء فضفاض يخفي التباين العميق في الوضع والمصالح والأهداف الإستراتيجية بين طبقة وأخرى. الجميع كان يتحدث عن التحرير، بل و”الثورة الفلسطينية”، ولكن المعنى كان مختلفًا تمامًا على جانبي السد الذي يفصل بين الطبقات.
إفلاس إستراتيجيات المقاومة:
بمعنى ما – شكلي وخارجي بالطبع – وصلت حركة النضال الفلسطيني في النصف الثاني من الثمانينات إلى محطة شبيهة بتلك التي بدأت منها في العشرينات والثلاثينات: النضال الجماهيري الفلسطيني من أسفل. ولكن شتان الفارق في المضمون والإمكانيات بين البداية ومحطة النصف الثاني من الثمانينات. فقد بدأت حركة مقاومة الاستعمار الفلسطينية (الاستعمار البريطاني وقتها؛ ومعه الموجات الأولى من العصابات الصهيونية) بمبادرة من الجماهير المستغلة والمقهورة في شكل إضرابات ومظاهرات ومصادمات شوارع وحركة مقاطعة. وقد وصلت مقاومة الجماهير في تلك المرحلة إلى إحدى ذراها العليا في ثورة 1936. وفي النصف الثاني من الثمانينات – تحديدًا بدءًا من ديسمبر 1987 – انتزعت المبادرة الجماهيرية لنفسها مرة أخرى موقع الصدارة في الأحداث مع انطلاق الانتفاضة الفلسطينية. وبين البداية والانتفاضة (ثم ما بعدها) مرت حركة المقاومة الفلسطينية بمنعطفات هامة كشفت عن موقع وحدود دور كل طبقة وكل حركة سياسية في المعركة ضد الاستعمار. كشف التاريخ أيضًا عن حقيقة أخرى مريرة وهي أن كل هزيمة للمقاومة كانت تنقل المشروع الاستعماري الصهيوني إلى مرحلة أخرى من مراحله أشد عنفًا وتغلغلاً. ومحصلة التاريخ وخبراته هي أن الحدود الضيقة للنضال الوطني القائم على التحالف بين الطبقات كانت وراء كل هزيمة، وأنها اليوم أكثر من أي وقت مضى أصبحت مفلسة ولا تؤدي إلا إلى الاستسلام على طاولة المفاوضات.
في المعارك الجماهيرية الأولى في العشرينات والثلاثينات كانت الطبقات المالكة (كبار ملاك الأراضي أساسًا) تسعى بكل طاقاتها لكبح جماح حركة الجماهير واستقلالها. كان كل توسع في مبادرة الجماهير يقلق كبار الملاك وممثليهم السياسيين ويثير خوفهم من أن تفلت الأمور من الزمام. والأكيد أن هؤلاء سعوا إلى مساومة مع الاستعمار وقطعوا الطريق على تنامي الثورة وتوسعها، وهو ما أدى إلى الهزيمة وبالتالي إلى انتعاش المشروع الاستيطاني الصهيوني ( بعد ما يزيد قليلاً على عقد واحد من الزمان من ثورة 1936 أعلنت دولة إسرائيل).
ومع إعلان الدولة الصهيونية ونجاح سياسة التطهير العرقي، تغيرت الظروف الموضوعية للمقاومة الفلسطينية. لقد أصبح معظم الشعب الفلسطيني وقتها خارج حدود دولة إسرائيل. فمن أين وكيف تطلق المقاومة؟ بعد فترة ركود جاءت الإجابة الأساسية والأهم في بداية الستينات على يد حركة فتح التي تأسست على يد مجموعة من مهنيي الطبقة الوسطى دوي الحال الميسور. كانت إجابة فتح سهلة وبسيطة: على المقاومة أن تنطلق من الدول العربية المجاورة لإسرائيل (حينذاك كانت الضفة تحت سيطرة الأردن وغزة تحت سيطرة مصر)، وستكون بأيدي الفلسطينيين ذاتهم وفي شكل حركة مسلحة، والهدف هو الضغط على الأنظمة العربية ودفعها لأن تقوم هي بمواجهة كبرى مع إسرائيل تتحرر نتيجة لها فلسطين. إجابة فتح كانت تقوم على مجموعة من الركائز وأهمها هو “عدم التدخل في شئون الدول العربية الداخلية”. لماذا طرحت فتح هذا الشعار المركزي وصممت عليه من البداية للنهاية؟ السبب هو في طبيعة فتح ذاتها. هذه المنطقة كانت تعكس الآمال والطموحات السياسية للمهنيين والطلاب ميسوري الحال في إنشاء وطن قومي مستقل للفلسطينيين. هؤلاء كانوا “وطنيين” لكن وطنيتهم كانت أسيرة تمامًا لمصالح البرجوازية. الخط الأحمر لدى قادة فتح كان هو هز استقرار سلطة البرجوازيات في المنطقة. بل إن فتح سعت، بالعكس، إلى دفع تلك الأنظمة ذاتها إلى “تيني” القضية الفلسطينية و”تبني” الحركة ماليًا وسياسيًا. وقد اعتبرت فتح أن أحد أهم انتصاراتها هو ما أعلنه مؤتمر القمة العربي في الرباط من أن منظمة التحرير الفلسطينية (التي تهيمن عليها فتح) هي الممثل الشرعي والوحيد لشعب فلسطين. هذا “الانتصار” كان في الحقيقة تعبيرًا عن نجاح في إقناع البرجوازية الفلسطينية والأنظمة العربية بأنها تستطيع أن “تحتوي” حركة المقاومة الفلسطينية في حدود آمنة بالنسبة لهم.
ولكن هل يمكن ألا تتناقض حركة حقيقية المقاومة الفلسطينية مع الأنظمة العربية؟ التاريخ يثبت بشكل دامغ عكس ذلك. فلقد لعب الفقراء في المخيمات، وفي الشتات عمومًا، دائمًا دورًا مفجرًا في النضال الطبقي في الدول العربية. في الدول الخليجية – في السعودية بالذات – كان الفلسطينيون، الذين أصبحوا كتلة هامة عن عمال النفط في الخمسينات والستينات، وهم قادة ومحرضو الإضرابات العمالية التي هزت العروش ودعت إلى تدخلات من الجيش. وفي الأردن كان التجذير الذي خلقه التواجد الواسع للفلسطينيين هو السبب وراء اهتزاز عرش الملك حسين بشكل خطير على مدى شهور عام 1970. وفي لبنان كان وجود المقاومة الفلسطينية عاملاًَ من عوامل خلق الوضع ما قبل الثوري هناك في أوائل السبعينات. ولم يكن كل هذا صدفة. فدرجة تسييس الفلسطينيين عالية، ووضعيتهم في الدول المضيفة لهم قائمة على الاضطهاد (لهم وضع أدنى في الحقوق والمعاملة.. الخ)، وتجربة الحياة في المخيمات تجربة تطرح ضرورة المقاومة، والقضية الوطنية مشتعلة ومركزية. كل هذا كان معناه من وجهة نظر الأنظمة العربية أن هناك ضرورة لاحتواء الفلسطينيين، وإن لزم الأمر قمعهم. ولذلك فإن أي تنظيم سياسي للفلسطينيين، في الدول العربية كان يعد خطرًا رهيبًا. وأي نشاط سياسي لهم حتى ولو ضد إسرائيل فقط كان يقابل بحزم. ولعل ذلك يفسر بدرجة كبيرة لماذا كانت فتح نفسها – بالرغم من مواقفها القائمة على عدم التدخل في الشئون الداخلية للأنظمة – تتصادم مع الدول العربية من آن لأخر (خاصة عندما كانت تضطر تحت وطأة الضغط من أسفل للسير في موجة المقاومة الشعبية).
الحكام العب كانوا يخشون إذن من حركة المقاومة الفلسطينية، ويرتعدون من إمكانية توسعها لتلتحم بحركة الجماهير العربية لتصبح قوة حقيقية تكنس الأنظمة. وقد كان لهذا الخوف الكثير مما يبرره (رأي الحكام العرب جميعًا صورة مستقبلهم – إذا يقمعوا المقاومة الجماهيرية الفلسطينية – في وضعية الملك حسين المتهاوية عام 1970). ولذلك، فقد كانت الأنظمة تكبح جماح أي حركة حقيقية للمقاومة الفلسطينية، وتستخدم القضية الفلسطينية فقط كورقة ضغط في “لعبة الأمم”. وفتح هنا كانت هي القوة السياسية الوحيدة المقبولة، بالضبط لأنها وضعت كل رهانها على الأنظمة وعلى الإمبريالية.
والحقيقة أن الهوس بالأنظمة وبالتحالف بين الطبقات والخوف من الجماهير (أو احتقارها) لم يكن فقط سمة مميزة لساسة فتح، وإنما ميز أيضًا بدرجة القوى الأكثر جذرية. فالجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية لتحير فلسطين (النموذج الفلسطيني للستالينية) وهما على يسار فتح، اعتمدتا أيضًا على الأنظمة التي يقال عنها “راديكالية” في المنطقة العربية (كسوريا). ومن وجهة نظر أكثر عمومية فإن ستالينية هاتين الحركتين قد منعتهما من تطوير نقدهما الصحيح بدرجة كبيرة لفتح ليصبح إستراتيجية متكاملة لتحرير فلسطين من وجة نظر اشتراكية ثورية. السبب هو اعتناق المنظمتين لأفكار الستالينية الأساسية حول الثورة على مراحل وحول ضرورة إقامة صلات وثيقة مع الدول التي كانت مسماة اشتراكية. كل هذا التأثر بخط موسكو عنا أنهما كانتا أولاً في سعي دائم للتحالف مع موسكو وأتباعها في المنطقة (وهو ما يعني بالتأكيد تقييد الحركة الجماهيرية، فلم تكن مذابح الأسد حليف موسكو للفلسطينيين بأقل من مذابح الملك حسين لهم)، وثانيًا أنهما إستراتيجية كانت ضد التجذير الثوري للمقاومة في اتجاه اشتراكي اعتمادًا على بناء تحالف وثيق مع الطبقات العاملة في المنطقة.
أما حماس (حركة المقاومة الإسلامية)، والجهاد الإسلامي في فلسطين، وهما القوتان الأهم المعارضتان لمنظمة التحرير الفلسطينية ولفتح اليوم، فإن إيديولوجيتها المختلفة شكلاً لا تعني اختلافًا كبيرًا في المضمون. فصلات الود والقنوات التي تفتحها حماس مع الأنظمة العربية معروفة للجميع (استقبل الشيخ ياسين زعيم حماس الروحي استقبال الأبطال في الأردن بعد إطلاق سراحه من السجون الإسرائيلية، وزاره الملك حسين)، والتذبذب بين المهادنة والإرهاب الفردي أصبح سمة مميزة للحركة. والثوريون يفهمون جيدًا الطبيعة الطبقية لحركات سياسية برجوازية صغيرة مثل حماس. فبالرغم من اللغة المتشددة أحيانًا، وبالرغم من بطولة المناضلين الذي ينفذون عمليات انتحارية في إسرائيل، إلا أن احتقار الجماهير والتعالي عليها هو في صلب الاختيار الإستراتيجي لحماس. وهذا ما يمكن أن نفهمه إذا ما أدركنا المعنى الحقيقي لسياسة الإرهاب الفردي الحماسية. حماس لا تعتمد على الجماهير ولا تضعها في حسبانها؛ حماس ترى فقط المعارك الخاطفة لمناضلين أفراد. والنتيجة المعلومة سلفًَا لهذه السياسة هي زيادة القمع الوحشي الإسرائيلي، بدون أن تهتز أسس الاحتلال.
الانتفاضة والطريق للبديل الثوري:
عندما انطلقت الانتفاضة الفلسطينية في أواخر 1987 أعتقد كثير من المناضلين أن الإجابة على سؤال كيف تتحرر فلسطين قد أعلنت على يد الجماهير. وبلا شك فالانتفاضة قد قلبت الكثير من الموازين وكلفت إسرائيل أموالاًَ كثيرة وخلقت موجة من التعاطف العالمي مع القضية الفلسطينية. بل أن الانتفاضة قد أشعلت حركة مؤثرة – بالرغم من صغر نطاقها – للتضامن مع الشعب الفلسطيني في الدول العربية، وأكدت بذلك على أن القضية الفلسطينية يمكنها أن تلعب دومًا دورًا مفجرًا في الصراع الطبقي في المنطقة.
ولكن بعد سنوات من الانتفاضة كانت المحصلة هي أن إسرائيل أصبحت في وضع أقوى بينما عرفات يجلس على طاولة المفاوضات يستجدي حكم ذاتي محدود! فلماذا حدث هذا؟ جزء أساسي من الإجابة بالطبع يكمن في الدور القذر الذي لعبه عرفات ومنظمة التحرير والأنظمة العربية لو أد الانتفاضة واستخدامها لمصالحهم في نفس الوقت. فقد أعادت الانتفاضة القضية الفلسطينية إلى مقدمة مسرح الأحداث، وأعطت منظمة التحرير الفلسطينية دفعة استمدتها من قيادتها للانتفاضة (لم يكن هناك بدائل). عند هذه النقطة – وبضغط من الأنظمة العربية المذعورة من تصاعد الانتفاضة وحركة التضامن معها – بدأت زعيمة الإمبريالية العالمية (الولايات المتحدة) في الاعتراف بمنطقة التحرير وفي دفع إسرائيل للدخول في مفاوضات سلام. البرجوازية الفلسطينية – التي يمثلها عرفات – عثرت على ضالتها المنشودة أخيرًا. فلطالما حلمت بالحصول على دويلتها المستقلة الصغيرة (لتحمي فيها مصالحها) عن طريق الأنظمة العربية والإمبريالية. وها هم يعطونها ما تريد بفضل الانتفاضة. وهكذا أصبحت الانتفاضة مجرد ورقة ضغط في المناورات الدبلوماسية: يحتويها ثم يقضي عليها عرفات في مقابل رضا الأنظمة والإمبريالية، وفي مقابل قطعة أرض وعلم ونشيد وطني.
ولكن لم يكن الأمر فقط في دور البرجوازية الفلسطينية والبرجوازيات العربية المتحالفين مع الإمبريالية. كان هناك أيضًا التأثير الذي أحدثته الاستعمار والفصل العنصري على الوضع في الأراضي المحتلة (احتلت إسرائيل الضفة والقطاع عام 1967، وبذا أصبح الشعب الفلسطيني مرة أخرى تحت الهيمنة العسكرية المباشرة للاحتلال) وبالتالي على حدود الانتفاضة. فلقد أثرت الانتفاضة بشدة على إسرائيل اقتصاديًا وسياسيًا، ولكنها لم تستطع – ولم يكن في مقدروها في حدود قدراتها الذاتية – أن تقضي على الدولة الاستعمارية الاستيطانية. فالانتفاضة لم تكن ثورة، وإنما كانت مقاومة جماعية عنيدة وباسلة واسعة النطاق. ومعنى أنها لم تكن ثورة هو أنها لم تستطع أن تخلق شكل – ولو جنيني – لسلطة بديلة في فلسطين المحتلة بكاملها أو حتى في الأرض المحتلة بعد 1976 فقط. ولم يكن هذا وليد الصدفة، وإنما كانت له أسبابه. فبالرغم من أن التطورات الاقتصادية قد خلقت طبقة عاملة فلسطينية في الأراضي المختلة؛ إلا أن هذه الطبقة ضعيفة (منع الاستعمار الصهيوني أي تطور ذي شأن لرأسمالية صناعية فلسطينية داخل الضفة والقطاع). أما العمال الفلسطينيون الذين يعملون في إسرائيل ذاتها فمعظمهم عمال غير مهرة ويعملون في أعمال متدنية وليسوا في قلب الإنتاج الصناعي الإسرائيلي. إضرابات هؤلاء تؤثر في الرأسمالية الإسرائيلية ولكن يمكن تحملها بسهولة نسبية (بل إن إسرائيل بمرور السنوات أن تقلص حاجتها لهؤلاء العمال بعد موجات هجرة يهودية جديدة وبعد استيراد عمال أجانب). وعلى ذلك، فلم يكن في مقدور الطبقة العاملة الفلسطينية أن تلعب دور بديل سياسي للقيادة البرجوازية لحركة مقاومة، ولم يكن بمقدورها أن تطرح مشروع سلطتها.
من ناحية أخرى كان لسياسات الفصل العنصري الصهيونية نتيجة أخرى غير هامشية الطبقة العاملة الفلسطينية النسبية، وهي خلق حاجز منيع بينها وبين الطبقة العاملة الإسرائيلية. فحتى أثناء أعلى ذروات الانتفاضة ظلت الطبقة العاملة الإسرائيلية خاضعة تمامًا للوعي الصهيوني خاصة فيما يتعلق بالمسألة الفلسطينية. ويمكننا أن نفهم عمق تأثر الطبقة العاملة الإسرائيلية بالأيديولوجية الصهيونية، ليس فقط على أنه نتيجة للأسوار العازلة بينها وبين العمال الفلسطينيين، وإنما أيضًا على أنه نتيجة مباشرة لخصوصية دولة إسرائيل التي تشكل فيها النزعة القومية الرجعية في مواجهة الأعداء المحيطين وقودًا يوميًا لا ينتهي للعصرية، والتي تدعمها الإمبريالية ماليًا بلا انقطاع لتضمن تماسكها الداخلي وعدم بروز تشققات وتصدعات في بنائها. وعلى أي حال، فإنه من وجهة النظر الإستراتيجية تحتاج الطبقة العاملة الإسرائيلية إلى تجذير ثوري واسع النطاق حتى تنفض عن نفسها الصهيونية والقومية الرجعية.
الانتفاضة إذن لم تستطع أن تكون “وحدها” بديلاً إستراتيجيًا لتحرير فلسطين. وهنا أصبح السؤال: “ماذا بعد الانتفاضة؟” سؤالاً جوهريًا. وبصياغة أخرى أصبح السؤال هو: هل تكون الانتفاضة بداية الثورة أشمل وأوسع نطاقًا تحل معضلة تحرير فلسطين؟ أم تكون ورقة ضغط على طاولة المفاوضات؟ ومن الواضح أن كل من البديلين يمثل مشروعًا طبقيًا مختلفًا تمامًا الاختلاف عن الآخر. الأول هو مشروع الثورة الاشتراكية ويعبر عن مصالح الجماهير العمالية والفقيرة. والثاني هو مشروع البرجوازية التي تريد دولة ولا تريد حركة الجماهير، تريد دولة تحصل عليها بطريق التفاوض والتواطؤ مع الإمبريالية.
ومن الواضح أن الأمور سارت حتى اليوم على طريق البديل الثاني. ومن الواضح أيضًا أن هذا البديل لم يأت بالدولة أو حتى بدويلة، وذلك بالضبط لأن البرجوازية الفلسطينية أضعف من أن تحصل على دولتها (حتى ولو كانت صغيرة ومنزوعة السلاح ومعترفة بالهيمنة الإسرائيلية)، وأيضًا لأن إسرائيل من الأهمية بمكان بالنسبة للإمبريالية العالمية بحيث لا يمكن المساس بوضعها بأي شكل.
أما البديل الأول – البديل الاشتراكي – فهو في الحقيقة البديل الوحيد لتحرير شامل لفلسطين. ويقوم على فهم عميق لطبيعة ودور إسرائيل وصلتها بالإمبريالية. فإسرائيل هي كلب حراسة مصالح الإمبريالية، والمواجهة معها تعني المواجهة مع الإمبريالية ومع الأنظمة المتحالفة معها. وليس هناك يثبت التاريخ من طبقة لها مصلحة وقدرة على مثل تلك المواجهة الشاملة إلا الطبقة العاملة، ليس داخل حدود الأرض المحتلة فقط وإنما في المنطقة العربية كلها. فإسرائيل لم تخلق لكي تضطهد الشعب الفلسطيني وحده وإنما لتؤدب وتضطهد شعوب المنطقة كلها، ولتقضي على أي ثورة أو مقاومة للإمبريالية في المنطقة كلها. ولعل في منطق هذا البديل الإجابة الواضحة التي تحل معضلة الحدود الذاتية الضيقة لحركة جماهير فلسطين (الانتفاضة). فهذا البديل يرى أن توسع الثورة الفلسطينية لتصبح جزءًا من ثورة أشمل تلعب الدور القيادي فيها الطبقة العاملة في الدول الكبرى من المنطقة (كمصر وسوريا وإيران)، هو الحل للمعضلة.
فإذا كانت جماهير فلسطين قد لعبت كثيرًا دور المفجر للصراع الطبقي في المنطقة، فإن الطبقة العاملة المصرية والسورية والإيرانية ينبغي أن تضع على عاتقها لعب دور القائد للنضال ضد الإمبريالية وإسرائيل، ودور الطبقة الثورية المنتصرة التي تضع على عاتقها عبء مناصرة حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني (تمامًا كما فعلت الطبقة العاملة الروسية بعد انتصار ثورتها مع الشعوب المضطهدة في الإمبراطورية الروسية). ولن يكون الهدف الإستراتيجي وقتها هو إقامة دولة فلسطينية بجوار الدولة الصهيونية، وإنما سيكون تدمير الدولة الصهيونية، وإقامة دولة اشتراكية موحدة على أنقاضها يعيش فيها المستغلون العرب واليهود على قدم المساواة.