بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

كيف يمكن أن يرتبط الثوريون بالطبقة العاملة؟

المعضلة الرئيسية التي تواجه الاشتراكيين الثوريين في أي بلد من البلدان هي الارتباط بالطبقة الثورية – الطبقة العاملة في المصانع وفي مواقع العمل المختلفة – وخلق جذور ممتدة ومتشعبة وصلبة في أوساطها كطريقة وحيدة لبناء الحزب العمالي الثوري الذي يصهر الآلاف – بل وعشرات الآلاف – من العمال الثوريين في بوتقة سياسية واحدة منسجمة وفاعلة وديمقراطية. وكما تثبت كل التجارب التاريخية فإن الطرق لتحقيق هذا الهدف صعب وطويل وشاق وملئ بالمنعطفات، وكل مرحلة من مراحله لها سماتها الخاصة وأساليبها المحددة.

وفي مصر، لم يكن لليسار الثوري (ذلك الذي يضم تيارات سياسية مختلفة من الاشتراكيين الثوريين، إلى العالمثالثيين، إلى بعض الستالينيين اليساريين) حظ كبير من النجاح في حل معضلة الارتباط بالطبقة العاملة. بالطبع لا يمكن إنكار بعض ومضات النجاح المحدود كتلك التي صاحبت تكوين الحرب الشيوعي الأول في العشرينات، أو تلك التي ارتبطت بمرحلة المد في الأربعينات. ولكن حتى هذه النجاحات تعتبر محدودة إذا ما قورنت بتجارب دول أخرى تقترب ظروفها من ظروفنا إلى حد ما (كدول جنوب أوروبا، أمريكا اللاتينية. وغيرها).

وحتى نضع الأمر في سياقه الصحيح، لابد أن نذكر أنه على الأقل طوال الستين عامًا الماضية لم يكن اليسار الثوري المصري وحده هو الذي يعاني العزلة والافتقاد للجذور ذات الشأن في أوساط العمال، بل كانت هذه ظاهرة عمالية (ربما يمكن أن نستثني جزئيًا – وأؤكد جزئيًا – السنوات من 1968 إلى 1975 في بعض دول أوروبا حينما استطاع الثوريون خلق جذور محدودة ولكن مؤثرة بين صفوف العمال بفضل موجة المد في الصراع الطبقي آنذاك).

وجذور هذه الظاهرة تكمن بالأساس في الظروف الموضوعية الصعبة للصراع الطبقي خلال تلك المرحلة. ولكن بالتأكيد ليست الظروف الموضوعية وحدها هي المسئولة، بل الأخطاء – وأحيانًا الجرائم – التي ارتكبها الثوريون.

ولكن ذكرنا لهذا الاستدراك حول السياق العالمي للحركة الثورية لا ينبغي له أن يؤدي إلى محو الفوارق المحلية. فاليسار الثوري المصري – مقارنًا بغيره – لم يكن قادرًا، حتى في أيامه الزاهية، أن يجتذب إلى صفوف أكثر يمن مئات (وربما ألف أو أكثر قليلاً) من العمال. ربما بدأ هذا اليسار أحيانًا بصورة أكبر من حجمه، وربما كان تأثيره – لخليط من الأسباب – يفوق قوته العددية الحقيقية (على سبيل المثال أيام كان نظام السادات يعتبر الشيوعيين عدوه الأول)، إلا أن جذور العمالية بقيت شديدة المحدودية.

العزلة وأخطاء اليسار الثوري:
إذا ما نحينا مؤقتًا العوامل الموضوعية التي تحكم على اليسار الثوري بالتهميش لآماد طويلة (كخفوت مستوى الصراع الطبقي، وظروف العمل السري النابعة من قمعية الدولة)، فإننا نجد أن المنظور السياسي لليساريين الثوريين في أي بلد من البلدان وطرق عملهم ونشاطهم (أي الظروف الذاتية) يلعبان أدورًا شديدة الأهمية في تعميق عزلتهم وهامشيتهم، وفي منعهم من الاستفادة من ظروف مواتية تسمح لهم بالنمو وخلق الجذور العمالية.

فعلى مستوى المبادئ والبرنامج السياسي لا يمكن أن نتوقع أن تيارات اليسار الثوري التي ترفض الثورة العمالية أو التي أن المجتمع لم ينضج لها بعد وتطرح كبديل عنها مشروعًا للثورة الفلاحية، أو الطلابية، أو ثورة المهمشين (تلك التيارات المتأثرة بثوريين كماو وجيفارا وغيرهم)، لا يمكن أن نتوقع أن يكون أمثال هؤلاء ساعين بجدية – أو حتى بأقل درجة – للاتصال بالطبقة العاملة أو للتواجد في معاركها. ولطالما شهد اليسار الثوري العالمي منظمات ثورية (بمعنى منظمات هادفة للثورة وضد الإصلاح) انغمست تمامًا في أوساط الطلاب أو أوساط مهمشي الأحياء الشعبية وذلك كترجمة عملية أمينة لمشروعها السياسي الذي يرفض الفكرة الاشتراكية الثورية الأساسية التي تقول بأن الطبقة العاملة هي الطبقة الثورية الأساسية في المجتمع.

وحتى بالنسبة لهؤلاء الثوريين (أو أنصاف الثوريين) الذين اعترفوا بدور هام للطبقة العاملة في الثورة ولكنهم تأثروا بالستالينية بهذا القرار أو ذاك وقبلوا جانب من فكرة “الثورة الوطنية الديمقراطية” كبديل للثورة العمالية في البلدان المتخلفة التي – كما يدعون – لم تنضج ظروفها بعد لتحقيق التحول الاشتراكي (والثورة الوطنية الديمقراطية هي ثورة لا تقودها الطبقة العاملة ولا تحقق السلطة العمالية، وإنما هي ثورة تحالف وطني شعبي يضم خليط متنافر من الطبقات من العمال إلى الفلاحين إلى المثقفين الوطنيين إلى البرجوازية الوطنية وهدفها ليس الاشتراكية وإنما الوصول إلى مجتمع “رأسمالي” أكثر عدلاً وديمقراطية!) – حتى هؤلاء، فقد أدى خضوعهم للأفكار الستالينية إلى تأثيرًا عميقة على روابطهم العمالية: صحيح أنهم كانوا كثيرًا ما ينجحون في خلق نفوذ عمالي واسع أو هام (كما حدث في اندونيسيا، السودان، بل وفي مصر في الأربعينات إلى حد ما).

ولكن صحيح أيضًا أن سياسياتهم كانت تؤدي إلى هزائم هائلة للطبقة العاملة و- غالبًا – إلى بحور من الدماء. في مصر مثلاً كان لتنظيم الفجر الجديد – الذي حقق روابط عمالية هامة ومثيرة للإعجاب في الأربعينات – رؤية وطنية للثورة دفعته إلى التقارب مع الوفد – حزب البرجوازية الشعبي المعارض – وإلى السعي لعدم إغضابه. هكذا كان الحال أيضًا مع التنظيم الأكبر والأكثر ستالينية – حدتو – الذي مثل اتحادًا بين عدد من المنظمات الأصغر. والنتيجة كانت أن كلا التنظيمين – كل بطريقته – كانا يرفعان في أوساط العمل شعارات وطنية شعبية ويتجنبان أي نقد واضح وثوري وحاسم للوفد في وقت كانت فيه الطبقة العاملة قد بدأت – بناءًا على تجربتها النضالية – تتخلص من التأثير الطاغي للوفد. بينما كانت الحركة الجماهيرية تسير إلى اليسار، كان الشيوعيون يسيرون يمينًا، ومن المفهوم أن هذا لم يمهد فقط للهزيمة اللاحقة وإنما حرم اليسار المصري من فرصة ذهبية للنمو في أوساط الطبقة العاملة على حساب الوفد.

ولكن ليست فقط الأفكار السياسية المباشرة وحدها هي التي تقضي على اليسار الثوري بالعزلة. هناك أيضًا طرائق وأساليب النضال. فمن بين صفوف الاشتراكيين الثوريين حاملي مشروع الثورة العمالية والناقدين بجذرية للستالينية تنشأ انحرافات، تنتعش خصوصًا في ظل المنظمات ذات الحجم الصغير، أو المحدودة الخبرة، أو المفتقدة لقيادات مدربة وكفؤ.. الخ، تؤدي إلى القضاء على أي فرصة لخلق صلات وجذور عمالية.

وفي هذا السياق فإن نموذج الحلقات الثورية الصغيرة المنغلقة على ذاتها والرافضة لأي انغماس في معارك “إصلاحية تافهة ومتدنية”، هو نموذج شهير. على مدى عقود وعقود ظهرت مئات من أمثال تلك المنظمات في مختلف الدول. وفي ظروف بعينها تكون لتلك المنظمات القدرة على الحياة والاستمرار لسنوات طوال كمجرد جماعات فكرية لا هم لها إلا تطوير “البرنامج”، وبدون أي تجربة نضالية.

وبالطبع فإن هذه المنظمات تحتوي على عشرات من الثوريين المخلصين والمستعدين للتضحية من أجل الهدف السياسي الكبير. ولكن منطقها السياسي يبدد طاقات هؤلاء ويهدرها. فالفكرة الأساسية التي تسيطر على كوادر تلك المنظمات هي الخوف من ذوبان النقاء الثوري للمنظمة إذا ما اندفعت في معارك جماهيرية إصلاحية، أو فالفكرة الأساسية التي تسيطر على كوادر تلك المنظمات هي الخوف من ذوبان النقاء الثوري للمنظمة إذا ما اندفعت في معارك جماهيرية إصلاحية، أو إذا ما فتحت أبوابها لأعضاء جدد. كل عضو جديد يعتبر بالنسبة لهؤلاء خطر – “أنه لا يفهم قدر ما يفهم”… “إنه ليس ثوريًا بما فيه الكفاية”… “ستغرق مجموعتنا بسبب هذه العضوية التي لا تفهم والخبرة المشروع الثوري”… “عضو واحد عميق الفهم والخبرة أحسن من عشرة أعضاء من الذين لا يفهمون شيئًا… الخ).

وإنه لأمر مدهش حقًا – ولكنه مع ذلك يتكرر كثيرًا – أن نجد منظمات ثورية تنأي بنفسها عن معارك جماهيرية حية (عن مدرسة الصراع الطبقي التي لا تتربى في غيرها الكوادر الثورية) خوفًا على “نقائها” (أي معنى يتبقى إذن للعمل الثوري؟)، أو أ، نجد منظمات تخشى أن تنمو بشكل صحي وصحيح خوفًا على “تماسكها”.

نموذج آخر للمنظمات الصغيرة المنحرفة هو نموذج “كاريكاتير اللينينية في الحجم الصغير”. فهناك من المنظمات من يتخيل أن المهمة أنجزت وأن الحزب تم بناؤه بالفعل (“الحزب هو منظمتنا الحالية”). وعندما يصبح هذا الاعتقاد راسخًا تبدأ الكوارث والمهازل. فالفارق بين المجموعة السياسية الصغيرة وبين الحزب (حتى أصغر حزب) هو فارق نوعي وكيفي وليس مجرد فارق كمي في عدد الأعضاء. الحزب العمالي الثوري هو جزء من الطبقة العاملة. صحيح جزء أقلي، ولكنه موجود فيها ومندمج عضويًا. أما المجموعة السياسية فهي شيء آخر تمامًا: مجموعة من المثقفين الثوريين الساعين للاندماج في الطبقة وخلق الصلات بأعضائها. الحزب يستطيع أن يطرح على نفسه مهمة قيادة الطبقة، ويستطيع أن يؤثر في معاركها الكبرى والهامة. الحزب يتحدث بلغة عشرات الآلاف. بل وبلغة مئات الآلاف والملايين، ويطرح نفسه كتيار أساسي في صفوف الطبقة العاملة. وإذا ما اعتقدت المجموعة الصغيرة أنها قد أصبحت حزبًا فليس هناك مفر من أن تنحدر شيئًَا إلى الاستبدالية والنخبوية (“لقد أصبحنا بالفعل جناحًا عماليًا مؤثرًا” وبالتالي فلنتصرف هكذا: لنصدر الأوامر والتوجيهات، ولنتعارك مع التيارات الأخرى كما لو أننا تيار طبقي عتيد، ولنؤمن بالأثر الدامغ لتوجهاتنا على مسار الصراع الطبقي – نحن باختصار قادة بالفعل فلنتصرف هكذا”). وقد أشار الاشتراكي الثوري البلجيكي إرنست ما ندل إلى نقطة مماثلة في العبارة الآتية: “أنا لا أؤمن بأحزاب مفترضة ومعلنة بشكل ذاتي. أنا لا أؤمن أن يقف خمسون أو مائة شخص في أحد الميادين يضربون على صدورهم ويقولون “نحن الحزب الطليعي”. ربما يكونون كذلك في وعيهم الخاص، ولكن باقي المجتمع لا يعير لهم أي التفات، وسيظلون يصرخون في الميدان لزمن طويل بدون أن يكون لهذا أي نتيجة في الحياة الحقيقية، والاحتمال الأسوأ هو أنهم سيحاولون فرض معتقداتهم على جماهير غير قابلة للتلقي من خلال العنف. الحزب الطليعي لابد أن يشكل، لابد أن يبني خلال عملية طويلة. وواحد من مظاهر وجوده هو أن يتم الاعتراف به كحزب طليعي من جانب على الأقل أقلية ذات شأن داخل الطبقة العاملة. إذ لا يمكن أن يكون هناك حزب طليعي دون أن يكون له أنصار في صفوف الطبقة العاملة.

وعلى وجه اليقين فإن هؤلاء الخمسون أو المائة سيفشلون في تحقيق صلات ذات شأن وصحية مع الطبقة العاملة. فالاعتقاد أن الصلات قد خلقت بالفعل، بل والاعتقاد بأن المجموعة السياسية لها فعلاً نفوذ عمالي طاغي، سيؤديان إلى صرف المجهود ناحية “القيادة” بدلاً من “خلق الصلات”. وليت هذه القيادة هي من النوع الصحي والصحيح (الدفاع في المعارك الجماهيرية عن مواقف سياسية ثورية. وعن تكتيكات مناسبة ونابعة من ظروف اللحظة)، بل إنها قيادة استبدالية ومغامرة بالطبيعة (إذا كانت الجماهير تسير ورائنا، فلا أقل من طرح شعارات ثورية تعكس برنامجنا الذي يجوز ثقة جماهيرنا).

معضلات الارتباط بالعمال في مصر:
يمكننا أن نظل كثيرًا نتحدث عن أشكال مختلفة للمنظمات الثورية التي شهدها تاريخ العقود الأخيرة والتي فوتت أو خربت – لأسباب ذاتية – فرصًا للارتباط بالطبقة العاملة وخلق الجذور في أوساطها بشكل صحي وثوري. ولكن من الأفيد أن ننتقل الآن إلى الحديث عن بعض المعضلات التي تواجه الاشتراكيين الثوريين المصريين اليوم في مهمة ارتباطهم بالطبقة العاملة.

هناك بالطبع – وكما يشير كلامنا السابق – معضلة الحجم الصغير. فالبدايات دائمًا صعبة. وفتح أولى الصلات الجنينية يكون دائمًا أصعب بكثير من البناء على تلك الصلات وتوسيعها. وتلك المسألة لا ترتبط فقط بنقطة خلق الجسر الذي نعبر عليه إلى العمال (خلق صلة أو صلات قليلة في مصنع أو في منطقة عمالية أمر صعب، ولكن ما إن يخلق هذا “الجسر” حتى يصبح من الأسهل العبور عليه إلى عمال أوسع وإلى المعارك العمالية كالإضرابات والاعتصامات)، ولكنها ترتبط أيضًا بمراكمة الخبرة. لقد تعلمنا من خبرة السنوات القليلة الماضية بعض الأشياء. ومن ضمن هذه الأشياء. ومن ضمن هذه الأشياء أنه حتى تعرف الكوادر على خريطة منطقة عمالية ما (مواقع مصانعها، توقيتات خروج العمال، أساليب فتح الصلات.. الخ) أمر يحتاج وقت وخبرة وتدريب، أي أمر يكتسب بمجهود ولا ينزل من السماء.

وعلى وجه العموم، فإن واحد من قوانين العمل الثوري هو أن معضلة أساسية من معضلات مرحلة التراكم البدائي ترتبط بالحجم وما يفرضه. أن تزيد منظمة صغيرة بمقدار عضو واحد لهو أمر أصعب من أن تزيد منظمة أكبر وأكثر تأثيرًا عشرة أعضاء (خاصة إذا كان التراكم البدائي يتم في مرحلة تراجع في الصراع الطبقي). أما أن تزيد هذه المنظمة الصغيرة بعضو واحد ويكون هذا العضو هو عامل، فالصعوبة تزيد مرة ومرات. وذلك لأن العمال – خاصة في دولة كمصر لا توجد بها مدارس طبقية حقيقية للتربية السياسية للعمال، ولا يجد العمال المستنزفون فيها وقتًا للنشاط السياسي – يكونون غير مستعدين للانضمام بسهولة إلى منظمات صغيرة غير مؤثرة. الصعوبة الزائدة في حالة العمال – مقارنة مثلاً بالطلاب – تنبع من ابتعادهم وعدم انغماسهم (في ظروف التراجع والإحباط الحاليين) في المسائل العامة والنظرية، وميلهم إلى قياس مسألة المنظمة بمقاييس مباشرة مرتبطة بإمكانية تأثيرها على معاركهم اليومية (كثيرًا ما تتحدث العناصر العمالية قائلة: “ما تقولونه كلام جيد ومثالي، ولكن هل تعتقدون فعلاً أنه ممكن التطبيق. هل في مقدوري مثلاً أنا وزملائي العمال أن نواجه صاحب مصنعنا في إضراب منظم وناجح؟). رد الثوريين في هذه الحالة لا ينبغي أبدًا أن يكون الكذب أو التدليس، وإنما الشرح الصبور – والبسيط طبعًا – للظروف الراهنة، وتوضيح ما الذي يمكن – ويجب – عمله في ظلها.

إلى جانب معضلة الحجم الصغير التي تفرض على الثوريين المصريين قيودًا لابد من احترامها والعمل على أساسها، هناك مصاعب أخرى تفرضها حالة الصراع الطبقي في مصر وحالة الطبقة العاملة المرتبطة بها.

في دول أخرى متقدمة (في أوروبا والولايات المتحدة مثلاً)، وأيضًا متخلفة أو تحسب على ما يسمى بالعالم الثالث (جنوب أفريقيا، كوريا الجنوبية،… الخ)، تطرح مسألة الارتباط بالعمال نفسها على أنها مسألة ارتباط بالمنظمات العمالية القائمة في ظل الديمقراطية البرجوازية (النقابات، الاتحادات، الروابط. وغيرها). ولكن في مصر التي لا تتمتع بديمقراطية برجوازية، فإنه إما ليس هناك وجود لهذه المنظمات أو أنها غير موجودة ولكنها مفرغة – إلى هذا القدر أو ذاك – من المضمون وليست مجالاً للنشاط العمالي الواسع. بالطبع هذا لا يعني إهمال أو رفض العمال الثوري في هذه المنظمات، وإلا كانت هذه طفولة يسارية تهدر فرصًا ممكنة وقائمة مهما تضاءلت. ولكن تظل المشكلة هي أنه لا يمكن طرح مسألة الارتباط بالعمال أساسًا في صورة مسألة العمل في النقابات كما هو الحال في الغرب. الثوريون الروس أوائل هذا القرن واجهوا وضعًا شبيهًا، ولم يكن الجسر الرئيسي الذي ربطهم بالطبقة العاملة هو العمل في النقابات (لم يهملوا العمل فيها، ولكنها كانت محدودة وضعيفة).

وضع كهذا الحادث في مصر يفرض على الثوريين المصريين عملاً أشق وأكثر تنوعًا للارتباط بالعمال. والقاعدة هنا هي الارتباط به وممارسة النشاط الثوري في كل شكل متوفر من أشكال المنظمات العمالية: صناديق التأمين الصحي، روابط العمال الإقليمية.. الخ الخ، إضافة بالطبع إلى النقابات. في الحالة الروسية استطاع الحزب البلشفي في الفترة بين عامي 1911 و1914 أن يخلق أوثق الروابط مع العمال لا من خلال العمل داخل النقابات أساسًا، وإنما من خلال العمال داخل صناديق التأمين الصحي، وهي صناديق كانت تنتخب لإدارتها – وفق شروط معينة – لجان قسم من عضويتها من العمال. وعلينا نحن أن نحذر حذو الثوريين الروس، ونلتحم بأشكال التنظيم العمالي التي تبرز مهما كانت لأنها هي الجسور التي ستوصلنا إلى الجمهور العمالي.

صعوبة أخرى نفهمها ونعرف تأثيرها جميعًا بالطبع، وهي الصعوبة التي يفرضها المستوى الراهن للصراع الطبقي، ففي المراحل التي تخفت فيها لآماد طويلة نسبيًا وتيرة النضالات العمالية التي نطلق عليها طليعة العمال. فالطليعة هي صنيعة المعارك الطبقية، وعندما تتراجع هذه المعارك تنكمش الطليعة بالطبيعة، وهذا بدوره يصعب مهمة الثوريين في الارتباط بالطبقة العاملة ويجعلها المشقة في أوقات المد، وبينما هذه الطليعة موجودة وتتعلم من الخبرة النضالية، يكون صراع الثوريين على كسبها إلى صفوفهم صراعًا مفتوحًا قائمًا على انخراطهم – أي الثوريين – في كل المعارك الطبقية وبرهنتهم من خلالها على صحة وصلابة مواقفهم. ولكن في ظل الانحسار تأخذ المسألة شكل حزب الاستنزاف الطويلة المريرة والبطيئة النتائج. من ناحية أولى يكون للنشاط الدعاوي لكسب العناصر العمالية ثقل أكبر في العمل الثوري، ومن ناحية ثانية يجتذب العمال في المعارك المختلفة إلى صفوف المنظمة بالآحاد والأعداد القليلة وبمجهود شاق. ويفرض هذا على الثوريين ضرورة التركيز الشديد على ربط عضويتهم – خاصة العمالية منها – بكل معارك اليوم لتدريبهم وصهرهم ولكسر عزلتهم عن الصراع الطبقي.

خاتمة:
عملية بناء المنظمة ثم الحزب العمالي الثوري عملية شاقة وطويلة وتمر بمراحل متعددة. وفي ظروف البدايات، وفي الأوقات الصعبة في الصراع الطبقي، تزيد الصعوبة مرات. في أوقات كتلك تكون هناك حاجة للتحلي “بالصبر الثوري”، بالقدرة على فهم أن الوصول لنتائج يحتاج إلى وقت وأن عملنا الراهن هو ضروري حتى تتحقق النتائج بعد حين قد يطول. والصبر الثوري ليس مجرد حالة نفسية تتحقق بالطلب، وإنما هو حالة سياسية أساسها هو الوضوح: أي فهم طبيعة المرحلة وطبيعة المهام المطلوبة بشكل متماسك وعلى أساس من المبادئ الماركسية الثورية.

لن يكون طريقنا لخلق الصلات والجذور والنفوذ في أوساط الطبقة العاملة أمرًا سهلاً، وسنتعلم خلال نضالنا الكثير من الدروس. ولكن الأمر الحاسم هنا هو المزج بين المبدئية والمرونة، بين القدرة على تطبيقه بشكل خلاق على الظروف الحية الملموسة.