أ ب اشتراكية: الدولة
كثيرا ما نجد لمصطلح "الدولة" عدة تعريفات، فالطبقة الحاكمة دائما تجد الدولة على أنها شيء مقدس لا يمكن مساسه من قريب أو بعيد، وإنها تقف على الحياد تجاه الصراعات الدائرة بالداخل. أما الأكاديميون والمفكرون كذلك من ينتمون لطبقات اقتصادية عليا فيجدوا أن الدولة ضرورية لأي مجتمع متحضر إذ لابد أن تكون هناك سلطة قسر عامة في كل المجتمعات تقوم بدور "التوفيق بين المصالح المتعارضة"، وبدون هذه السلطة القسرية "سوف يأكل المجتمع بعضه بعضًا"!
كذلك من ينتموا إلى الطبقة الوسطى أو فوقها فيجدوا أن طبيعة الدولة يمكن اختصارها في الطبيعة القمعية والدموية لعدد قليل من الرموز على رأس النظام. الدولة شر في رأيهم ليس بسبب سياستها الاقتصادية المعادية للفقراء وإنما بسبب التوجهات السياسية الفاسدة لرموزها.
لكن الاشتراكيون الثوريون يجدوا أنه لا يمكن فصل المسار الاقتصادي عن السياسي للدولة، ولا يمكن تعريف الدولة دون تعريف الطبيعة الاقتصادية للمجتمع وإلى أي جانب تقف الطبقة الحاكمة المسيطرة على الدولة؟ كان لابد إذن من السؤال: متى ظهرت فكرة الدولة؟
لقد عاش المجتمع البشري آلاف السنين في مجتمع خالي تمامًا من الطبقات، وفي المراحل البدائية لتطور البشرية لم يكن وجود لما يسمى الآن بالدولة. ولم توجد ضرورة لأن يظهر فريق خاص من الناس لا عمل له غير الحكم، ويحتاج لأجل الحكم، إلى جهاز خاص للقسر من سجون وجيش. لكن مع التطور النسبي في قوى الإنتاج بدأ يظهر فائض زائد عن الحاجات الاستهلاكية المباشرة. هذا الفائض سمح بظهور فئة من الناس بمقدورها أن تعيش على فائض عمل الآخرين واحتلوا مواقع معينة في تقسيم العمل، ومن ثم أصبحوا الطبقة المسيطرة. من هنا فقط تغير الشكل القبلي للمجتمع وأخذ ينهار، وهكذا ظهرت أقلية استطاعت أن تستحوذ على كل ثروة المجتمع، في مقابل أغلبية انحصر دورها في إنتاج هذه الثروة.
وهنا أصبحت فكرة الدولة بمؤسساتها ضرورة. فقد احتاجت الأقلية المالكة أن تفرض سيطرتها الاقتصادية على المجتمع وأن تحافظ على مصلحتها في النظام الاجتماعي القائم على استغلال الأغلبية. لذلك كان الحل هو تجريد السكان من أسلحتهم وخلق أجهزة جديدة تحتكر العنف المنظم لحماية مصالح الأقلية المحتكرة. هذه الأجهزة تمثلت في الجيش والشرطة المسلحين، وفي السجون والمعتقلات.
إذن فالدولة ليست، كما يقال، مؤسسة للتوفيق بين مصالح الأفراد ذوي الطبائع الشريرة، وإنما هي مؤسسة لإخضاع طبقة يتم استغلالها لمصالح الطبقة السائدة، والدولة لم تأت للقضاء على هذا التناقض وإنما للإبقاء عليه لمصلحة طبقة وضد طبقة أخرى.
الدولة هنا بأجهزتها ومؤسساتها أصبحت جزء من الطبقات المحتكرة طالما لم يحدث تغيير في تقسيم المجتمع لصالح الأغلبية المنتجة، بل أن الدولة في المجتمعات الرأسمالية تقف بوضوح بجانب حلفائها الرأسماليين الذين يمثلوا قاعدة اقتصادية قوية لاستقرارها بل وتراعي مصالحهم بالدرجة الأولى عند سن القوانين. لذلك لم يكن مستغربا مثلا إعفاء مضاربي البورصة وكبار الرأسماليين من الضرائب في الموازنة الجديدة في حين يتم رفع الدعم عن السلع الأساسية للمواطنين، ولم يكن مستغربا أيضا أن تقوم أجهزة الدولة من جيش وشرطة عسكرية باستخدام المدرعات لدهس العمال المتظاهرين بينما يطالبون بحد أدنى للأجور أو بمحاكمة رموز النظام السابق وتطهير مؤسسات الدولة.
في ظل الثورات لن يكون إصلاح الدولة على نمطها الرأسمالي ممكنا بل يكون دائما مستحيلا، وأن ما تسعى إليه السلطة الآن من قوانين مصالحة الشرطة أو رجال الأعمال هو هدم صريح لمطالب الثورة في العدالة الاجتماعية. هذه المطالب لن تتحقق إلا بثورة اجتماعية تستهدف صميم مؤسسات الدولة التي طالما انحازت للأقلية المحتكرة, وذلك لن يحدث إلا بمواصلة الاحتجاجات والاعتصامات للتطهير الكامل أو بالتفكيك وإعادة الهيكلة على يد الأغلبية الشعبية.