الدعاية والتحريض
التحريض هو “الإثارة أو التحريك” تبعاً لقاموس أوكسفورد، بينما الدعاية فهي “مخطط منهجي أو حركة منسقة لترويج عقيدة أو منهج ما”.
هذه التعريفات ليست بداية سيئة لما نريد التحدث عنه؛ فالتحريض يخص القضايا الراهنة من أجل التحريك والإثارة حولها، أما الدعاية فتختص بالعرض المنهجي العميق للأفكار.
بليخانوف، أحد الماركسيين الرواد في روسيا، سبق أن أشار إلى ذلك بشكل جيد: “يقدم الدعاوي أفكار كثيرة لشخص أو لعدة أشخاص، بينما المحرض فيقدم فكرة واحدة أو عدد قليل من الأفكار لعدد كبير من الناس”. ومثل كل التعميمات الواسعة، يجب ألا نأخذ كلام بليخانوف بشكل حرفي، فالدعاية يمكن أن تصل، في ظروف معينة، إلى آلاف أو عشرات الآلاف من الناس. كما أن جموع الناس الذين يصل إليهم التحريض هم أيضاً أعداد متغيرة وليست ثابتة. ومع ذلك فإن الفكرة العامة لا تزال سليمة بالتأكيد.
أفكار كثيرة لأعداد قليلة
لقد استطاع لينين، في كتاب “ما العمل”، أن يطوّر الفكرة:
“الدعاوي الذي يتحدث، على سبيل المثال عن قضية البطالة، لابد أن يوضح الطبيعة الرأسمالية للأزمات، أن يشرح أسباب حتمية تلك الأزمات في المجتمع الرأسمالي الحديث، وضرورة تحول المجتمع إلى الاشتراكية، إلخ. بكلمات أخرى، سيكون على الدعاوي تقديم الكثير من الأفكار التي يمكن لعدد قليل نسبياً من الناس فهمها ككل متكامل. أما المحرض، فعلى الرغم من أنه يتحدث عن نفس الموضوع، إلا أنه سيوضح كيف تموت عائلات العاطلين جوعاً، كيف يتزايد الإفقار في صفوف الجماهير، إلخ. وباستخدام تلك الحقائق، المعروفة للجميع، سيسخر مجهوده لتوجيه فكرة واحدة لجموع الناس. وبالتالي، فإن الدعاوي يعمل بالأساس بالكلمة المكتوبة، أما المحرض فبالكلمة المنطوقة”.
كان لينين مخطئاً في النقطة الأخيرة؛ إذ تناول الفكرة بشكل أحادي الجانب. في حين أنه، هو نفسه، كان يجادل قبل وبعد “ما العمل” أن الجريدة الثورية يمكن ويجب أن تكون المحرض الأكثر تأثيراً، لكن هذه مسألة ثانوية. النقطة المهمة هنا هو أن التحريض، المكتوب أو المنطوق، لا يحاول شرح كل شيء. لذلك فإننا نقول، ويجب علينا أن نقول أن أولئك الفرادى القليلين من عمال المناجم الذين يلجأون للمحاكم ضد نقابة إن يو إم النضالية، هم أوغاد وخونة، ونحن نقول ذلك مبتعدين قليلاً عن الجدال العام حول طبيعة الدولة الرأسمالية. علينا بالتأكيد أن نتفاعل مع جدال مثل هذا، إلا أننا نحاول هنا أن نحرض ونثير الاستياء والحنق على محاكم الدولة الرأسمالية في الأوساط العمالية كلما كان ذلك ممكناً. وبالطبع فإننا نفعل ذلك بهكذا طريقة لأن أغلبية العمال الذين نتفاعل معهم لايزالوا غير متفهمين وغير قابلين فكرة أن الدولة، أي دولة بأجهزتها ومحاكمها، هي آداة في يد الحكم الطبقي.
لنأخذ مثالاً أخر: لقد تحدث لينين كثيراً عن “الظلم الصارخ”، إلا أن أي دارس متعمق للماركسية يعلم جيداً أنه ليس هناك ما يُسمى ظلم أو عدالة بمعزل عن المصالح الطبقية، وبالتالي فإنه يقوم بالإشارة إلى التناقض في مفاهيم العدالة أو الإنصاف بين ما يُروّجه منظرو وأيديولوجيي المجتمع الرأسمالي وبين الحقائق التي تبرُز في خضم الصراع الطبقي. ويُعد ذلك سليم تماماً من وجهة النظر التحريضية.
يجب أن يتعامل الدعاوى مع الأمر بشكل أعمق، يجب أن يفحص مفهوم العدالة، تطوره وتحولاته خلال المجتمعات الطبقية، وبالتأكيد عليه أن يفحص مضمونه الطبقي. ولكن ذلك ليس ما ينطلق منه المحرض. والماركسيين الذين لا يدركون ذلك ليسوا إلا ضحايا للأيديولوجيا البرجوازية وللتعميمات المطلقة التي تعكس التصور المثالي للمجتمع الطبقى، والأكثر أهمية من ذلك أنهم لا يدركون بشكل متماسك كيف تتغير مواقف الطبقة العاملة، ولا يدركون دور الخبرة النضالية، وبالتالي لا يعرفون الفارق بين الدعاية والتحريض.
الدعاية والتحريض، كلاهما لا غنى عنه، لكنهما ليسا دائماً ممكنين. يحتاج التحريض قوى أكبر بكثير، حيث يستطيع شخص واحد أحياناً أن يقوم بالتحريض ضد قضية فئوية تثير الشكوى، لكن تحريض عام واسع النطاق لا يمكن أن يتم دون أعداد كبيرة من الناس الموجودين في مواقعهم والذين يستطيعون القيام بذلك.. لا يمكن أن يتم بدون حزب.
إذن ما أهمية ذلك اليوم؟ لا يستطيع الاشتراكيون في بريطانيا التواصل مع آلاف أو عشرات الآلاف، نحن نتواصل مع أعداد قليلة من الناس وغالباً ما نحاول كسبهم من خلال السياسات الاشتراكية العامة وليس من خلال التحريض الجماهيري الواسع. لذلك فإن ما نتجادل حوله يصب بالأساس في حقل الأفكار الدعائية. هنا تظهر نقطة هامة؛ إذ أن هناك أكثرمن نوع من الدعاية، فهناك فرق بين الدعاية المجردة والدعاية الواقعية التي قد تُترجم إلى نشاط عملي.
الدعاية المجردة تقدم أفكار صحيحة بشكل عام لكنها ليست مربوطة لا بالنضال ولا بمستوى الوعي الموجود لدى أولئك الناس الذين تتوجه لهم تلك الأفكار. على سبيل المثال عند الجدال حول أنه في ظل الاشتراكية سوف يتم إلغاء نظام الأجور الحالي، فإن الطريقة الصحيحة من أجل رفع هذا المطلب للعمال اليوم ليس التحريض بل الدعاية بأكبر قدر من التجريد والتلخيص. وبالعكس فإن التحريض على إضراب عام للمطالبة بمطالب معينة، بغض النظر عما إذا كانت الفرصة مواتية لذلك الآن، سوف يؤدي إلى الانعزال عن النضال الحقيقي في المكان والزمان.
وعلى جانب آخر، فإن الدعاية الواقعية تنطلق من الافتراض أن مجموعات ضئيلة من الاشتراكيين لا تستطيع التأثير بشكل حاسم في مجموعات ضخمة من العمال في الوقت الحالي. لكنها أيضاً تفترض أن هناك الكثير من السجالات حول ما يحاول الاشتراكيون بناءه. لذلك لن يجادل الدعاوي الواقعي في المصنع حول إلغاء نظام الأجور، لكنه سيجادل من أجل رفع مجموعة من المطالب التي قد تقود النضال إلى النصر – طبعاً بعيداً عن رموز النقابات البيروقراطية- مثل زيادة النسب الثابتة في الأجور وحرية الإضراب، إلخ.
التوازن الصحيح
كل ذلك لا يمكن اعتباره تحريضاً في السياق الذي تحدث عنه لينين. جوهر فكرة لينين حول التحريض هو في كيفية تقديم أفكار عملية لانتصار وكسب المعركة. لكن لا يمكن أن يتم ذلك عن طريق الدعاية المجردة؛ فهي يمكن فقط أن تؤثر في أعداد قليلة من العمال. أما الدعاية الواقعية والعملية فهي تستطيع أن تؤثر في أعداد أكبر بكثير من الناس الغير منفتحين بما فيه الكفاية؛ بيد أنه، في الوقت الحاضر، تنفتح مجموعات قليلة جداً من الناس على كل الأفكار الاشتراكية. أما المجموعات الأكبر لا تقبل بسهولة تلك الأفكار ولكنها تقبل كثير من الدعاية الاشتراكية حول عدم الثقة في مسئولي الدولة، وضرورة تنظيم أنفسهم خلال النضال، إلخ.
في الحقيقة فإن أهمية التمييز بين الدعاية والتحريض أهمية مضاعفة؛ حيث أن أولئك الاشتراكيون الذين يظنون أن لديهم القدرة على الدعاية في مجموعات نقاشية صغيرة، وقادرين على التحريض في مواقع العمل، في الأغلب يبالغون في تقدير درجة تأثيرهم على جماهير العمال وبالتالي يفقدون فرصة بناء قاعدة حقيقية في أوساط مؤيديهم. أولئك الذين يظنون أن ما عليهم فعله هو فقط تقديم الدعاية المجردة في نقاشاتهم مع الاشتراكيين واليساريين وفي مواقع العمل، سوف يتبنون أكثر المواقف حلقية وعصبوية حينما تندلع النضالات الحقيقية.
يجب على الاشتراكيين أن يتجنبوا الوقوع في أيٍ من هذين الفخين، ويستطيعون ذلك من خلال تقديم وتوجيه الدعاية الواقعية المناسبة في تلك الفترات التي لا يكون فيها التحريض العام والواسع ممكناً.