بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

الديمقراطية البرجوازية والديمقراطية العمالية (الجزء الثاني)

السمة الأساسية للديمقراطية البرجوازية هي فصل الاقتصاد عن السياسة. ففي حين أن السلطة السياسية تخضع من الناحية القانونية لقواعد ديمقراطية (التعددية الحزبية، الانتخابات الحرة، إلخ)، فإن السلطة الاقتصادية تمارس من قبل أقلية صغيرة من أصحاب الأعمال والمديرين والبيروقراطيين. وفي التحليل الأخير – كما رأينا في الجزء الأول من هذا المقال – يستند هذا الشكل من “الديمقراطية” إلى هيمنة الطبقة البرجوازية في المجتمع. أما مع تعرض هذه الهيمنة للتهديد تحت وطأة تصاعد الصراع الطبقي في المجتمع، فإننا نشهد نزعتين متناقضتين. من ناحية، تميل البرجوازية، التي يرعبها تحدي الجماهير لها، للتخص من عبء الديمقراطية (فعلى الرغم من محدودية هذه الديمقراطية فإن الحريات الليبرالية التي توفرها تشكل خطرًا على مصالح البرجوازية مع تفاقم أزمتها)، ومن ناحية أخرى – وهذا هو ما يهمنا في هذا المقال – تشرع الجماهير المقهورة، بقيادة الطبقة العاملة، في بناء بديلها الديمقراطي الذي يلبي حقًا مصالحها في التحرر الإنساني بأبعاده الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

إن ما نسميه “الديمقراطية العمالية” ليس على الإطلاق تنظيرًا مجردًا لمفكرين ثوريين يحلمون بعالم أفضل بقدر ما هو بلورة لخبرات الطبقة العاملة ذاتها في إبداع الأشكال السياسية التي تتناسب مع مهامها النضالية. فعندما تقود الطبقة العاملة جميع المقهورين في المجتمع في حركة ثورية تستهدف إعادة بناء هذا المجتمع، فإننا نكون بحق إزاء ما يسميه كارل ماركس “حركة الغالبية العظمى لصالح الغالبية العظمى” وبالطبع فإن “الغالبية العظمى” لا تستطيع أن تحكم نفسها إلا بعد تحطيم جهاز الدولة الذي يحمي بالعنف والقهر مصالح الأقلية المستغلة. يحدث هذا عن طريق التخلص من البيروقراطية المتسلطة صاحبة الامتيازات (بشقيها العسكري والمدني) والتي يتسم بها المجتمع الرأسمالي. ومن هنا فإن أول ما أقدمت عليه الحكومة الثورية لعمال باريس في 1871 (كمبونة باريس) كان إلغاء الجيش النظامي والشرطة واستبدالهما بميليشيات الشعب المسلح (وهو ما عني القضاء عمليًا على البيروقراطية العسكرية)، ودفع أجر العامل العادي لجميع المسئولين الحكوميين مع إخضاعهم للانتخاب الدوري وإمكانية العزل الفوري بواسطة التصويت الديمقراطي (وقد عني هذا القضاء على البيروقراطية المدنية). وكانت تجربة عمال باريس الثورية هذه هي النموذج الذي استند إليه ماركس في طرح تصوره العام لمبادئ الديمقراطية العمالية.

ولكن الديمقراطية العمالية لا تكتمل إلا إذا نجحت الطبقة العاملة في خلق مؤسسات ديمقراطية من نوع معين: مؤسسات توفر لها الجمع بين السلطة الاقتصادية – السيطرة الجماعية والديمقراطية على أدوات الإنتاج – والسلطة السياسية – اتخاذ القرارات الأساسية التي تدير شئون المجتمع بأسره. لم تفرز كميونة باريس مؤسسات كهذه ليس فقط لأنها سحقت خلال 70 يومًا على يد الحكومة البرجوازية الفرنسية في فرساي ولكن أيضًا لأن الطبقة العاملة الفرنسية وقتها كانت أضعف وأكثر تفتتًا من أن تفرز هذه المؤسسات.

تغير هذا الوضع تمامًا خلال القرن الحالي. فمع تطور الرأسمالية ذاتها زاد بشكل هائل تركيز الطبقة العاملة في وحدات إنتاجية عملاقة، وأبدعت الطبقة العاملة في لحظات احتدام معاركها الطبقية مؤسسات تستطيع الجمع بين السلطة السياسية والاقتصادية، ألا وهي المجالس العمالية (أو السوفيتات وفقًا لاسمها الروسي حيث ظهرت لأول مرة). والسوفيت هو لجنة إضراب متطورة. إنه لا يمثل العمال المضربين في مصنع واحد، بل يضم مندوبين من أماكن العمل يمثلون عمالهم على المستوى المحلي والإقليمي والقومي. ومن هنا يكتسب السوفيت طابعًا سياسيًا دون أن يفقد صلته الأساسية والمباشرة بالقاعدة العمالية وأماكن العمل. وجدير بالذكر هنا أن السوفيتات التي ظهرت لأول مرة في صفوف عمال بطرسبرج في روسيا في عام 1905 قد انتشرت “عدواها” خلال ثورة 1917 لتشمل الجنود ثم شملت كذلك العمال الزراعيين والفلاحين الفقراء في بعض التجارب الثورية مثل شيلي 1972 – 1973.

إن السوفيت شكل ديمقراطي أرقى من البرلمان البرجوازي لأنه يجمع بين السلطة السياسية والاقتصادية للغالبية العظمى، ولأنه يخضع الوظائف التشريعية والتنفيذية للدولة للسيطرة الديمقراطية (على عكس البرلمان الذي يترك الجيش والشرطة والبيروقراطية المدنية في أيدي غير منتخبة، ولأنه أيضًا ليس مجرد صالون للثرثرة بل هو هيئة نضالية خاضعة لإرادة العمال وقادرة على تنظيم الإضرابات والاحتجاجات.

وفضلاً عن ذلك، فإن الديمقراطية العمالية تتضمن أيضًا كثيرًا من عناصر الديمقراطية البرجوازية مثل التعددية الحزبية وحرية الصحافة (مع إثراءها من خلال تحرير الصحافة من سطوة رأس المال). وبالطبع تحتفظ الدولة العمالية – مثل أي دولة – بحق الدفاع عن النفس ضد الثورة المضادة المسلحة، إلا أن ما يميز القمع الذي تمارسه الدولة العمالية هو أنه لأول مرة يكون قمع الأغلبية للأقلية المستغلة التي نادرًا ما تترفع عن رفع السلاح في وجه الثورة. ولكن كيف تتحقق الديمقراطية العمالية؟ لقد احتدم الصراع الطبقي عشرات المرات في هذا القرن في مناط قمختلفة من عالمنا حيث شهدنا ما يمكن أن يسمى “حالات ثورية”، أي حالات يمثل فيها العمال تحديًا مباشرًا للسلطة التي تستغلهم وتقهرهم. وهذه الحالة بحكم طبيعتها ليست قابلة للاستمرار لفترة طويلة: فإما أن تنجح الطبقة العاملة في تدمير الدولة الرأسمالية وإقامة دولتها العمالية أو تنجح البرجوازية في تفتيت الحركة العمالية وإعادة “الاستقرار”، عن طريق استخدام الجيش في أغلب الأحوال. ومن هنا تأتي أهمية وجود حزب ثوري داخل صفوف الطبقة العاملة يستهدف إقناع غالبية العمال بضرورة السير للأمام وتحويل الحالة الثورية إلى ثورة ناجحة عن طريق الانتفاضة المسلحة.

لقد تحقق هذا السيناريو بالفعل في روسيا 1917 حيث قاد الحزب البلشفي مجالس العمال والجنود نحو النصر الثوري. إلا أن فشل الثورة الروسية في الانتشار والدمار الناتج عن الحرب الأهلية – التي شهدت تدخل 14 جيشًا رأسماليًا لدعم الثورة المضادة – أدى لتفكك الطبقة العاملة الصناعية (مع نهاية الحرب الأهلية في 1920 كان الإنتاج الصناعي قد انخفض إلى 18 % مما كان عليه قبل الحرب العالمية الأولى وتزامن ذلك مع انخفاض حجم الطبقة العاملة إلى 43 % مما كان عليه، كما أن أفضل الكوادر العمالية وأكثرها وعيًا وإخلاصًا تعرضت للفناء على جبهات القتال دفاعًا عن الثورة) وتحول السوفيتات إلى شكل يخلو من مضمون، مما سمح لقوى الثورة المضادة البيروقراطية بالصعود واغتصاب الثورة واستبدال ديمقراطية العمال بوحشية رأسمالية الدولة الستالينية.

وأخيرًا ينبغي أن نتذكر أن الديمقراطية البرجوازية – رغم هشاشتها – ليست سوى أحد أشكال الحكم البرجوازي، وفي الأغلب ما يقترن حكم البرجوازية بديكتاتورية سافرة. أما الدولة العمالية فإن شرط وجودها ذاته هو الديمقراطية العمالية.