بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

الديمقراطية البرجوازية والديمقراطية العمالية (الجزء الأول)

المعنى الأصلي للديمقراطية بسيط وواضح. إنها السلطة الشعبية أو حكم الشعب. وكان هذا هو المعنى الذي فهمها به اليونانيون القدماء. بالطبع تأثر ذلك المفهوم اليوناني من الديمقراطية بتحيزات المجتمع الطبقي السائد وقتها. ومن ثم فقد قصر نطاق الديمقراطية على “المواطنين” وكان ذلك يعني ستعاد كل من النساء والعبيد. إلا أن مفهوم الديمقراطية ظل مقترنًا بالحكم المباشر بواسطة جماهير الشعب، وبالتالي كان هذا المفهوم موضوعًا للعداء الشديد من جانب كبار الفلاسفة اليونانيين مثل أفلاطون وأرسطو الذين انتموا للطبقات المالكة وتجلت ميولهم الطبقية في فكرهم السياسي النخبوي.

والجدير بالملاحظة أن الديمقراطية في معناها الأصلي كانت لها طبيعة طبقية واضحة – حيث راح خصومها يشيرون إليها باحتقار على أنها سيطرة الرعاع. وعندما صنف أرسطو الأنظمة السياسية القائمة في اليونان أصر أن يفرق بينها ليس فقط على أساس عدد من يمارسون الحكم وإنما أيضًا على أساس موقعهم الطبقي. وهو يقول: “التطبيق السليم لمصطلح الديمقراطية يكون على الدستور الذي يسيطر فيه على الحكم الأحرار والفقراء – وهم في الوقت نفسه الأغلبية، وبالمثل، فإن مصطلح “الأوليحاركية. ينطبق بشكل سليم على الدستور الذي يسيطر فيه على الحكم الأغنياء، أولاد الذوات – وهم في نفس الوقت الأقلية” بل إن سلفه أفلاطون كان أكثر وضوحًا في إبراز الطابع الطبقي للديمقراطية، حيث يقدم في كتابه الجمهورية الذي سبق وصفه للحرب الطبقية بين الأغنياء والفقراء التي كانت بالنسبة له مثلما بالنسبة لأرسطو) مصدر الصراع المدني، هذا الشرح لنشوء الديمقراطية: “وعندما ينتصر الفقراء، تكون النتيجة هي الديمقراطية”.

وعلى مدى حوالي ألفي عام منذ ظهور هذا المفهوم عن الديمقراطية لدى اليونانيين القدماء وحتى صعود الطبقة الرأسمالية الحديثة في الغرب في القرنين السادس عشر والسابع عشر، ظلت السلطة السياسية دائمًا مقترنة بشكل صريح ومباشر بالحكم الطبقي، حيث انتصرت الحقوق السياسية على أبناء الطبقات المتميزة اقتصاديًا واجتماعيًا. إلا أن تغييرًا هامًا حدث مع ظهور الرأسمالية. فالطبقة البرجوازية الصاعدة خاضت حربًا سياسية عاتية ضد القوانين الإقطاعية التي قيدت تراكم الرأسمال واستبعدت شرائح برجوازية عديدة من حق التصويت. وهي في مواجهة المقاومة العتيدة من جانب الطبقة الحاكمة القديمة. اضطرت البرجوازية أن تستدعي تأييد الجماهير الشعبية ضد خصومها. وهكذا فإن “الثورة البرجوازية” تحدث شكل الصراع من أجل الحقوق السياسية العامة، من أجل نظام “ديمقراطي”. ولكن اللافت للنظر في الديمقراطية الحديثة أنها لم تقترن – كما كان يرى فلاسفة اليونان القديمة – بانتصار الفقراء وحكمهم. فعلى الرغم من أن الأشكال الديمقراطية الحديثة قدم وفرت المساواة بين الجميع وطرحت حق “المواطن” في المشاركة في صياغة السياسة العامة، فإن ذلك قد اقترن باستمرار علاقات الاستغلال. ما تغير هو أن العلاقة بين الرأسمالي والعامل حلت محل العلاقة بين الإقطاعي والفلاح. فكيف انسجمت المساواة السياسية مع اللامساواة الاقتصادية والاجتماعية؟ ولماذا عجزت الجماهير المستغلة عن استخدام الآلية الديمقراطية في تحقيق مصلحتها الحقيقية في مجتمع لا طبقي؟

أول ما ينبغي الإشارة إليه في سياق الإجابة عن هذه التساؤلات هو نوع الديمقراطية التي سادت مع صعود البرجوازية. لقد حدثت عملية إعادة تعريف للديمقراطية بحيث يتم “تنقيحها” من مضمونها الطبقي الثوري ففي حين أن المعنى الأصلي (والمباشر والبسيط) للديمقراطية هو الحكم المباشر بواسطة جماهير الشعب، فإن منظري البرجوازية خلال القرن السابع عشر (مثل جون لوك) راحوا ينظروا لمفهوم “مخفف” عن الديمقراطية حيث لم يعد المعيار الديمقراطي هو الحكم المباشر بل مجرد الرضا السلبي من جانب الجماهير. وكان الافتراض الأساسي وراء هذا المفهوم هو أن أغلب الناس غير قادرين على (ولا راغبين في) ممارسة سيطرة إيجابية وفعلية على عملية الحكم أما البديل “الديمقراطي” الممكن والواقعي (والذي عادة ما يسمى اليوم “التعددية الليبرالية”) فهو اختزال الدور الشعبي في المشاركة الدورية في الانتخابات، حيث يتم الاختيار بين مرشحين متنافسين. أما في الفترات الطويلة التي تفصل بين انتخابات وأخرى، فإن الديمقراطية تظل مجمدة. وفي ظل السلبية التي يتسم بها “المواطنون” في هذا النمط من الديمقراطية، من الطبيعي أن نجد أن الغالبية العظمى من التشريعات الهامة التي يقرها البرلمان في الدول الديمقراطية يتم اقتراحها من جانب البيروقراطية العليا لجهاز الدولة التنفيذي بشقيه المدني والعسكري، وهي بيروقراطية غير منتخبة ترتبط بألف خيط وخيط بالمصالح الرأسمالية السائدة في المجتمع.

ولكن ما الذي يمنع الجماهير من انتخاب برلمان اشتراكي يقود عملية تغيير المجتمع جذريًا والقضاء على الرأسمالية؟ تقودنا الإجابة عن هذا السؤال للسبب الثاني في قارة الرأسمالية على التعايش مع الديمقراطية الحديثة، وهو أن البرلمان ليس مركزًا للسلطة الحقيقي في الدولة “الديمقراطية الحديثة”. لقد حدث كثيرًا بالفعل خلال القرن العشرين أن يتم انتخاب مجالس وحكومات “اشتراكية” يقوم برنامجها على تغيير المجتمع جذريًا، إلا أنها عجزت دائمًا عن إنجاز هذه المهمة. فمع وجود برلمان اشتراكي وحكومة اشتراكية في السلطة كنا دائمًا نشهد أحد سيناريوهين.

أما السيناريو الأول، فهو أن تنجح ضغوط البرجوازية وبيروقراطية الدولة في ترويض واحتواء النواب والحكومة الاشتراكيين بحيث يتم التخلي عن أية سياسات تمثل تهديدًا حقيقيًا لعلاقات الإنتاج الرأسمالية. وفي حالات كثيرة تكون ضغوط الرأسمالية العالمية – من خلال مختلف أشكال العقوبات الاقتصادية – فعالة في عملية الترويض هذه. وفي حالة فشل هذا الخيار نتيجة لراديكالية الجماهير وقدرتها على دفع الحكومة اليسارية المنتخبة للأمام، فإن البرجوازية تلجأ (ربما وهي تشعر بقدر من المرارة والأسى!) إلى الملاذ الأخير لحماية المجتمع الطبقي – فتتدخل القيادة “الواعية” و “الملتزمة” للجيش لإعادة “النظام” و “الاستقرار” من خلال انقلاب عسكري دموي كما حدث مثلاً في تشيلي في سبتمبر 1973 عندما تمت الإطاحة بحكومة الليندي اليسارية المنتخبة ديمقراطيًا.

والواقع أن برجوازيات الدول الديمقراطية لا تلجأ لهذا الحل الدموي إلا في حالات استثنائية نادرة. وفي الأغلب ما تستند برجوازية هذه البلدان في صراعها على البقاء لا القمع السافر وإنما إلى هيمنتها السياسية والأيديولوجية في المجتمع، تلك الهيمنة التي تعد بحق السبب الرئيسي في قدرة البرجوازية على التعايش مع الديمقراطية الحديثة. يقول ماركس إن الأفكار الحاكمة في المجتمع هي أفكار الطبقة الحاكمة. فالطبقة التي تسيطر على أدوات الإنتاج المادي في المجتمع تسيطر أيضًا – من خلال مؤسسات التعليم والإعلام وغيرها – على أدوات الإنتاج الفكري وتستطيع أن تسيد الأفكار التي تعبر عن مصالحها. ومن أهم هذه الأفكار الاعتقاد بوجود “مصالحة عامة” تتجاوز صراع المصالح “الضيق” بين المستغلين والمستغلين، أو أن الدولة تلعب دورًا محايدًا بين مختلف طبقات المجتمع، أو أن السوق يمثل علاقات تبادل حرة بين أفراد متساويين، أو أن الجماهير لا تستطيع أن تدير المجتمع بشكل جماعي دون حاجة للـ “خبراء”، الخ… ففي ظل سيادة مثل هذه الأفكار في المجتمع لا تجد البرجوازية صعوبة كبيرة في التعايش مع أشكال الحكم الديمقراطية.

وتعد قضية الهيمنة هذه مدخلاً مناسبًا لفهم طبيعة الحريات الليبرالية التي توفرها الديمقراطية الحديثة. فكما نعلم لا تقتصر الديمقراطية البرجوازية على الانتخابات البرلمانية والتعددية السياسية، بل تمتد لتشمل سلسلة من الحقوق والحريات – حرية التعبير، والاجتماع، وتنظيم النقابات والأحزاب والجمعيات، وحقوق التظاهر والإضراب والاعتصام وغيرها. والواقع أن البرجوازية تتعامل مع هذه الحقوق والحريات بمنطق شبيه بتعاملها مع الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية. فالإصلاحات الاجتماعية التي تعطيها البرجوازية للطبقة العاملة والفقراء طبيعة مزدوجة. فهي من جانب غالبًا ما تكون نتيجة لضغوط من أسفل تمارسها الجماهير ذاتها. ولكنها من جانب آخر تكون مفيدة للبرجوازية حيث تساهم في كسب ولاء الجماهير للرأسمالية وبالتالي تحقيق الاستقرار الاجتماعي والسياسي، فضلاً عن كونها حوافز ضرورية لرفع الإنتاجية وبالتالي زيادة قدرة الرأسمالية على تحقيق الأرباح. ولعل “دولة الرفاهية” التي تم بناؤها في الغرب في الخمسينات والستينات مثالاً جيد على ذلك حيث ساهمت في رفع الإنتاجية وتحقيق الاستقرار في الوقت ذاته. إلا أن البرجوازية تضطر بالطبع في فترات لاحقة للتراجع عن هذه الإصلاحات بسبب تفاقم أزمتها وانخفاض معدل الربح، وهو ما نراه في الغرب على مدى الربع قرن الأخير حيث لم تعد البرجوازيات قادرة على تحمل نتائج إصلاحات الستينات.

وشيء كهذا يمكن أن يقال عن الحريات الليبرالية. فعلى حين أن هذه الحريات قد تم انتزاعها في الأصل بواسطة نضال الطبقة العاملة وغيرها من الكادحين، فإن توافرها يستخدم من جانب البرجوازية لتكريس هيمنتها وتقوية الاعتقاد بعدالة وديمقراطية المجتمع البرجوازي. وكما في حالة الإصلاحات الاجتماعية، فإن تسامح البرجوازية إزاء الحريات الليبرالية مشروطًا بعدم تهديدها لدعائم وأسس المجتمع البرجوازي. فإذا ما ظهرت بوادر لمثل هذا التهديد، نجد أن الدولة البرجوازية تميل لتفويض هذه الحريات أو تقييد استخدامها. يتوقف إذن حال الحريات الليبرالية على أمرين: مستوى نضالية الجماهير في الضغط على السلطة من جانب، ومدى قدرة البرجوازية على مواصلة سيطرتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في ظل هذه الحريات.

هكذا يتضح لنا أن الدولة الديمقراطية الحديثة تظل من حيث الجوهر أداة للحكم الطبقي البرجوازي. فهي تخفي وراء الستار الخادع لـ”سلطة الشعب” حقيقة التناقضات الطبيعية لمجتمع تسيطر عليه أقلية مستغلة. وغني عن الذكر أن غالبية الدول الرأسمالية في عالمنا المعاصر لا تتخفى وراء هذا الستار حيث أن عجزها عن الهيمنة السياسية والأيديولوجية على الجماهير يجعلها غير قادرة على التعايش مع الأشكال الديمقراطية للحكم، رغم هشاشة هذه الأشكال وطابعها الصوري.

لقد أكد كارل ماركس مرارًا على ضرورة النضال من أجل انتزاع الحريات والمؤسسات الديمقراطية. ولكنه أكد أيضًا أن الديمقراطية السياسية الحقة لا يمكن إنجازها بمعزل عن الديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية، بمعزل عن الثورة التي يتم خلالها إعادة بناء المجتمع ديمقراطيًا وجماعيًا لصالح الغالبية الحقيقية من الكادحين. ولكن كيف تستطيع الطبقة العاملة وغيرها من الكادحين إنجاز هذه الثورة في ظل هيمنة الأفكار البرجوازية على المجتمع؟ وما هو مضمون وشكل السلطة السياسية في أعقاب الثورة الاشتراكية؟ سنحاول إلقاء الضوء على هذه القضية في الجزء الثاني من هذا المقال.