بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

الديمقراطية العمالية

لقد تعرض مفهوم ديكتاتورية البروليتاريا، أو الديمقراطية العمالية، إلى تشويه كبير من الغرب والشرق على السواء، وذلك عن طريق نسبة جرائم رأسمالية الدولة الستالينية في روسيا إلى ديكتاتورية البروليتاريا. وحتى نبين التعارض بين الديمقراطية العمالية وما كان يحدث في روسيا الستالينية علينا أن نلخص بعض الدلائل على الطابع الشمولي للبيروقراطية الستالينية.

فقد تحولت السوفييتات (مجالس العمال) على يد البيروقراطية الستالينية إلى هيئات فارغة المضمون، وظيفتها الحقيقية هي تقديم الشرعية لقرارات الزعيم الأوحد، وذلك بعد أن فقدت قاعدتها المناضلة من العمال الواعين الذين قاموا بالثورة في أكتوبر 1917 بسبب الحرب والهروب إلى الريف بعد الخراب الاقتصادي الناتج عنها. وبعد أن كانت السوفييتات هيئات ديمقراطية مناضلة تعج بالجدل السياسي والمناقشات الحية حول تفاصيل حياة جماهيرها من الطبقة العاملة، أصبحت في عهد ستالين امتدادًا لأذرع القمع البيروقراطي الشامل ضد أي معارضة لخطط البيروقراطية الستالينية في منافستها العسكرية مع الغرب.

وقد فعلت البيروقراطية الستالينية نفس الشيء مع النقابات العمالية بعد أن حرمتها من كل وسائل النضال التي اكتسبتها خلال صراعها ضد القيصرية والبرجوازية، فقامت بتجريم الإضراب وفرض عقوبات بربرية على المصريين إلى جانب اختفاء النقابات تمامًا في معسكرات العمال العبودي، فتحولت النقابات فعليًا إلى جزء من جهاز الدولة يقوم بقمع الجماهير العاملة وتضليلها.

وتحول الحزب البلشفي نفسه إلى منظمة بيروقراطية سلطوية تتركز قيادتها في يد السكرتير العام للحزب بعد التصفية الهمجية لقياداته التي خاضت الصراع إلى جانب الجماهير قبل أكتوبر 1917 والسنوات القليلة التي أعقبتها. وتحولت الصحافة إلى وسيلة للقمع الأيديولوجي للجماهير تبرر قرارات الزعيم وتمجده بوابل من الأكاذيب وآيات النفاق.

وبالطبع لا يمكن فهم هذه التحولات إلا في سياق هزيمة الثورة البلشفية وتحولها في عهد سيطرة الثورة المضادة التي شنتها البيروقراطية الستالينية إلى رأسمالية دولة تسعى لأن تحتل مكانتها على ساحة المنافسة العمالية.

ومن الطبيعي أن تسعد البرجوازيات الغربية بنسبة كل فظائع رأسمالية الدولة الستالينية إلى الاشتراكية واعتبار سقوطها في النهاية سقوطًا للاشتراكية، حيث أن ذلك يشكل مادة دعائية فعالة لتضليل الجماهير وإيهامها بأن طريق الثورة على الرأسمالية طريقًا مليئًا بالشرور ولن يؤدي إلا إلى هذا الشكل من القمع البربري الذي مارسته الستالينية، وبالتالي على الجماهير أن ترقص طربًا للديمقراطية البورجوازية وأن تعتبر مجتمع البورجوازية هو نهاية التاريخ المزعومة.

وتدعى البورجوازية – ونحن هنا نعني البورجوازية في البلاد الرأسمالية المتقدمة – أن حكمها تجسيد لأعلى ممارسة ديمقراطية. وهي بالفعل أعلى ممارسة ديمقراطية ممكنة في مجتمع طبقي، ولكنها لا تختلف كثيرًا عن ديمقراطية ملاك العبيد في روما القديمة على تعبير لينين.

فهذه الديمقراطية تقوم على مساواة سياسة زائفة بين أفراد يختلفون تمامًا من ناحية القوة الاقتصادية، فالعامل والرأسمالي لهما نفس الصوت في الانتخابات، ولكن الرأسمالي يستطيع التأثير على قرارات الدولة بحكم موقعه الاقتصادي المتميز عن طريق ممارسة ضغوط اقتصادية، أو حتى افتعال أزمان إن لم تستجب الدولة لمصالحه، بينما لا يملك العامل شيئًا سوى دمه في مواجهة ألتها القمعية الضخمة.

ومن ناحية أخرى يقوم حكم البرجوازية على وهم الفصل بين السلطات ويعتبر ذلك قمة الضمانات الديمقراطية، بينما هو في الحقيقة تركيز للسلطة الحقيقية والحاسمة في أيدي آلة عسكرية ضخمة تدين لها بالولاء. فالفصل بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية يضمن للبرجوازية تحويل البرلمان (السلطة التشريعية) إلى مركز للثرثرة الفارغة، بتجريده من القدرة على تنفيذ القرارات والقوانين التي يتوصل إليها إذا كان فيها ما يضر بالمصالح العليا لرأس المال. فإذا تخيلنا صعود حزب اشتراكي إلى السلطة عن طريق البرلمان، وحاول هذا الحزب تطبيق الاشتراكية، فإن القرارات والقوانين التي سيصدرها لن تجد الطريق إلى تنفيذها، وسوف ينتهي الأمر بأزمة اقتصادية يفتعلها الرأسماليون ثم صعود حزب رأسمالي آخر إلى السلطة أو انقلاب عسكري إذا لزم الأمر لإنهاء المهزلة البرلمانية.

لكن الصحافة البورجوازية المضللة تصور لنا أحيانًا صعود بعض الأحزاب الإصلاحية (تحت مسمى الاشتراكية الديمقراطية) إلى السلطة عن طريق الانتخابات في أوروبا على أنه صعود للاشتراكية، ورغم أهمية ذلك بالنسبة للاشتراكيين – حيث يشير إلى مشاعر الجماهير تجاه سلطة الأحزاب اليمينية – فإن سياسات هذه الأحزاب نفسها تؤكد عدم قدرتها على التغيير، وعدم تمثيلها للاشتراكية الحقيقية. فهي تتبع نفس سياسات الحكومات اليمينية السابقة تقريبًا دون المساس بجوهر السيطرة البورجوازية، ويضمن لها أسلوب الانتخابات أن تظل في السلطة على الأقل لمدة معينة (خمسة أعوام مثلاً) كفيلة بنسيان وعودها للناخبين، وهكذا دواليك.

فالديمقراطية البورجوازية هنا هي ديمقراطية الأقلية المسيطرة في مواجهة جماهير المقهورين من الطبقة العاملة، وليس حكم الأغلبية كما يزعمون. فالأغلبية كما يزعمون. فالأغلبية الإنجليزية لم تنتخب توني بلير لكي يطبق برامج التقشف ضد العمال البريطانيين، والأغلبية الفرنسية لم تؤيد جوسبان حتى يجور على المعاشات ويخفض الإنفاق على الخدمات لصالح الرأسماليين ضد الطبقة العاملة في فرنسا. ومع ذلك يبقى جوسبان وبلير في السلطة حتى تنتهي مدة انتخابهم ليعودوا إلى تضليل الجماهير بوعود زائفة من جديد أو يتسلمها غيرهم على أساس وعود زائفة أيضًا.

إلى جانب ذلك تسيطر الطبقة الحاكمة على المؤسسات التعليمية وأجهزة الإعلام وتعمل من خلالها على تسييد وهيمنة الأفكار البورجوازية الحاكمة لتزييف وعي الطبقة العاملة وجعلها تعتقد أن السيطرة الطبقية وحكم البورجوازية هو من طبيعة الأمور وأن خلاف ذلك أمر “مناقض للطبيعة”.

وإذا كانت الرأسمالية في البلاد المتقدمة يمكنها الاستجابة لبعض مطالب الحركة الجماهيرية بهدف استيعابها داخل حدود النظام البورجوازي، خصوصًا وأن هذه الحركة في البلاد المتقدمة لها تراث كبير وتأثير قوي، فالرأسمالية في البلاد الأقل تطورًا تكشف عن وجهها الحقيقي باستبدادها وقمعها لأي شكل من أشكال المبادرة الجماهيرية. ويمكننا أن نجد في مصر دليلاً كافيًا على هذا الاستبداد. فمجلس الشعب – المكان الوحيد الذي يدعون أنه تعبير عن إرادة الجماهير – يصل غالبية أعضاؤه عن طريق تزوير الانتخابات وغالبيته منه من أعضاء الحزب الوطني، وهم “موافقون دائمًا”، ولا يشغلهم سوى عقد الصفقات والحصول على تسهيلات استغلال أراضي أو استيراد…الخ، وتلبية مصالحهم الخاصة، وبالإضافة إلى ذلك يستطيع رئيس الجمهورية حله في أي وقت دون أدنى مشكلة مستندًا في ذلك على “الدستور”.

والسلطة الحقيقية تظل في أيدي المؤسسة العسكرية وأذنابها من كبار رجال الأعمال، أو ممثليهم البيروقراطيين، وعلى رأسها حاكم مؤبد لا ينتهي حكمه البغيض إلا بنهاية حياته، وبعد نهاية كل فترة رئاسية للزعيم تسبق الأغنيات وصحافة التضليل والنفاق صناديق الاقتراع بإعلان النتيجة وهي بالطبع “نعم… اخترناك”. وفي ترسانة هذه المؤسسة مجموعة من القوانين المقيدة للحريات تبدأ في حالة الطوارئ المعلنة دائمًا، وتشمل قانون العيب وقانون الإرهاب وقانون الصحافة، وتنتهي إلى تجاوز أجهزة السلطة لهذه القوانين نفسها بشكل مفضوح. بينما تعج الزنازين بالسجناء السياسيين ويمارس التعذيب علنًا ضد كل صاحب رأي لا تقبله السلطة على أيدي زبانية تم تربيتهم وإعدادهم خصيصًا لهذه المهمة القذرة.

أما عن الأحزاب فليست إلا هياكل شكلية في أفضل أحوالها، تفتقد إلى القاعدة الجماهيرية ولا حول لها ولا قوة، وكل ما تطمح إليه هو تذيل النظام الحاكم دون الرغبة أو القدرة على مواجهته، فهي تتحرك في دائرة حمراء لا تتجاوزها حتى تستكمل الديكور الديمقراطي للنظام. ولا تختلف المؤسسات الأخرى كثيرًا، خصوصًا قمم المنظمات النقابية، من هذه الزاوية.

وفي نفس الوقت الذي تقام فيه المحافل الإعلامية وتعج فيه الصحف بالتصريحات الكاذبة حول الديمقراطية وحرية الرأي، توجه جحافل الأمن ضد أي تحرك جماهيري في المصنع أو القرية لتكتم أنفاس المعترضين ويسود المجتمع جو كئيب يطفح باستبداد ودموية النظام.

أما الديمقراطية العمالية (ديكتاتورية البروليتاريا) فتختلف اختلافًا جذريًا عن رأسمالية الدولة الستالينية بهمجيتها وشموليتها، وتختلف عن الديمقراطية البورجوازية في البلاد المتقدمة بزيفها ونفاقها، وعن ديكتاتوريات العالم الثالث المستبدة والوقحة.

إن المعنى الحقيقي للديكتاتورية البروليتاريا هو الانتقال إلى نظام اجتماعي جديد يتم فيه إلغاء الحكم الطبقي ويتم فيه تقرير كل جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من خلال المناقشة الجماهيرية الواسعة من أجل صناعة القرار والإشراف المباشر على تنفيذه. إنها تعني القضاء على الانقسام التاريخي في المجتمع إلى حكام ومحكومين من خلال انتظام جماهير الطبقة العاملة في منظمات تملك اتخاذ القرار والقدرة على تنفيذه، فهي سلطة تشريعية وتنفيذية في نفس الوقت.

إن الديمقراطية العمالية تعبير عن ارتفاع الطبقة العاملة إلى مستوى طبقة حاكمة قادرة على تحطيم مقاومة البورجوازية وتنظيم الجماهير العاملة والمستغلة من أجل بناء المجتمع الجديد. وهي لا تبقى على المؤسسات البورجوازية القديمة (مثل الجيش والشرطة والبرلمان…الخ) وإنما تقوم بتحطيمها وتحل محلها مؤسساتها الخاصة (مجالس العمال، والميليشيات العمالية)، كتب ماركس عن كوميونة باريس:

كان أو مرسوم أصدرته الكوميونة هو حل الجيش النظامي، واستبداله بالجماهير المسلحين… وقد تشكلت الكوميونة من ممثلي الأحياء الذين تم اختيارهم عن طريق الاقتراع العام في مختلف أحياء باريس، والذين يمكن مساءلتهم أو عزلهم في أي وقت… وكان غالبية أعضاءها من الطبقة العاملة… وتم نزع المهام السياسية عن الشرطة التي كانت حتى ذلك الوقت أداة في أيدي الحكومة، وأصبح مسئوليتها عرضة للعزل والمساءلة مباشرة أمام الكوميونة مثلهم مثل كافة المسئولين فيها.

وجدير بالذكر أن كافة المسئولين أصبحوا يقدمون خدماتهم مقابل أجر يماثل أجر العامل، وألغيت جميع الامتيازات والمنح الخاصة، كما تم التخلص من سلطة الكهنة بعد التخلص من سلطة الجيش والشرطة، وأصبح اختيار القضاة يتم على أساس الانتخاب، وأصبحوا هم أيضًا معرضين للعزل والمساءلة في أي وقت أمام الكوميونة.

وقد أوضح لينين أن الكوميونة وضعت الأساس لديمقراطية أشمل وأوسع من أي حكومة بورجوازية برلمانية، لأن الكوميونة كانت هيئة عاملة تمتلك السلطة التشريعية والتنفيذية في نفس الوقت، وهي التعبير عن الحكم الطبقي للطبقة العاملة، أي الغالبية العظمى من السكان.

ولا يقتصر الأمر على ذلك، فالديمقراطية العمالية (ديكتاتورية البروليتاريا) هي شكل من أشكال الدولة وظيفته تدعيم سلطة الطبقة العاملة والقضاء على مقاومة البورجوازية التي ستسعى إلى استعادة الحكم. وأي دولة هدفها في النهاية تنظيم سيطرة طبقة معينة على طبقة أخرى، لكن ديكتاتورية البروليتاريا تنظم سيطرة الأغلبية من العمال المستغلين والمقهورين ضد الأقلية التي كانت تستغلهم وتقهرهم، فهي بهذا المعنى توسيع للديمقراطية إلى أبعد مدى في ظل وجود الطبقات. ولكن هدف الشيوعية هو القضاء على انقسام المجتمع إلى طبقات، وهذا يعني انتهاء أي شكل من أشكال الدولة بما في ذلك ديكتاتورية البروليتاريا نفسها. فديكتاتورية البروليتاريا هي في نفس الوقت ليست إلا مرحلة انتقالية ضرورية من أجل القضاء على الطبقات مع انتشار الثورة وتحويل المجتمع إلى مجتمع بدون طبقات وبدون جهاز خاص للقمع – أي بدون دولة.