الإمبريالية: (1) النظرية الكلاسيكية من ماركس إلى لينين
تبلورت نظرية الامبريالية الماركسية في الربع الأول من هذا القرن، وكان الهدف الأساسي منها هو محاولة تطبيق استنتاجات ماركس عن التراكم والتوسع في نمط الإنتاج الرأسمالي على المتغيرات التي طرأت على النظام الرأسمالي العالمي منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى اندلاع الحرب العالمية الأولى.
تناولت النظرية في الأساس التغييرات الحادثة في المراكز التراكمية الكبرى في الدول الرأسمالية الصناعية كألمانيا وانجلترا وديناميات التوسع التي يمكن استنتاجها من هذه التغييرات. ولم تتناول ديناميات تطور الرأسمالية في البلدان المتخلفة إلا بشكل موجز وثانوي حيث كان الهم الأساسي هو فهم العوامل التي أدت إلى اندلاع الحرب العالمية وما يعنيه ذلك بالنسبة للحركة الاشتراكية.
أما عن تأثير الإمبريالية والاستعمار على البلدان النامية فتم تناوله في ما بعد من خلال اتجاهين. الاتجاه الأول هو ما عرف بمدرسة التبعية والاتجاه الثاني هو التصور الماركسي الثوري الذي بني على أسس نظرية الثورة الدائمة لتروتسكي بما تشمله من رؤية للتطور المركب غير المتكافئ لرأسمالية البلدان المتخلفة.
وسوف نحاول من خلال سلسلة من ثلاثة مقالات أن نعرض تطور نظرية الامبريالية الماركسية. سنقوم في المقال الأول بعرض المفاهيم والأفكار التي بلورتها نظرية الامبريالية الكلاكيسية بداية بمفاهيم التطور والتوسع الرأسمالي عند ماركس ومرورًا بإسهامات كل من روزا لوكسمبورج ورودلف هيلفر دنج ونيكولاي بوخارين ولينين. وفي المقال الثاني سوف نحاول أن نعرض بشكل نقدي، مستخدمين المنهج الماركسي، مدرسة التبعية ونعني بذلك النظريات التي انتحت حول التطور الرأسمالي في البلدان المتخلفة التي عرفت بمدرسة التبعية أو التبادل غير المتكافئ. وفي المقال الثالث والأخير سنقوم بطرح التطور الماركسي الثوري الذي نتبناه لمسألة الامبريالية والموقف منها اليوم.
مفهوم التطور الرأسمالي عند ماركس:
هناك جانبين في مفهوم التطور عند ماركس. الجانب الأول هو المضمون المادي لعملية التطور ويتضمن عملية التوسع في قوى الإنتاج وزيادة الإنتاج السلعي. أما الجانب الثاني فهو الشكل الذي يتخذه هذا التطور ويتضمن عملية التراكم الرأسمالي أي استخراج فائض القيمة الذي ينتجه العمال لتحقيق هذا الفائض من خلال بيع السلع المنتجة في السوق مما يسمح بإعادة العملية على نطاق أوسع.
لنبدأ من البداية، يستخدم الرأسمالي مبلغ من المال لشراء نوعين من السلع: قوة العمل وأدوات الإنتاج. من خلال تفاعل هاتين السلعتين في عملية الإنتاج يتم إنتاج سلع جديدة. تكون القيمة الكلية لها أعلى من القيمة الكلية للسلع التي اشتراها الرأسمالي في بداية العملية. يبيع الرأسمالي هذه السلع الجديدة في السوق بمبلغ أكبر من ذلك الذي استثمره في بداية العملية.
هذا تبسيط شديد لعملية التراكم الرأسمالي والتي تعتمد كلية على أن قيمة قوة العمل والقيمة التي تخلقها قوة العمل هما قيمتان مختلفتان تمامًا من حيث الكم. هذا الفرق في القيمة هو سر التراكم الرأسمالي وهو فائض القيمة المستخرج. ولأن الرأسمالية ليست مكونة من وحدة واحدة بل وحدات رأسمالية مختلفة ومتنافسة يصبح هناك هدف دائم لكل وحدة رأسمالية هو أن تحاول استخراج كم أكبر من فائض القيمة. وهناك وسيلتان لزيادة فائض القيمة. الوسيلة الأولى هي إطالة يوم العمل (فائض القيمة المطلق) وقد استخدمت هذه الوسيلة في بدايات الصناعة الرأسمالية لكن هناك حدود مادية لعملية إطالة يوم العمل وبالتالي لجأ الرأسماليون إلى الوسيلة الثانية وهي تخفيض قيمة العمل (فائض القيمة النسبي) من خلال زيادة إنتاجية العمل باستخدام تقنيات جديدة وأساليب إنتاج محسنة.
لذا نجد أن الرأسمالية في حالة تحول دائم بسبب قوة الدفع التنافسية. لكن هذا التحول يغير من شكل وتركيبة الرأسمالية. فالاستثمارات المكثفة في تحسين وتطوير أدوات الإنتاج تؤدي إلى تضاعف قيمة رأس المال الثابت (أدوات الإنتاج) بالنسبة إلى رأس المال المتحرك (قوة العمل) ما أسماه ماركس التركيب العضوي لرأس المال. وبما أن قوة العمل هي مصدر فائض القيمة وبالتالي الربح فإن ذلك يؤدي إلى تضائل نسبة الربح بالنسبة لرأس المال المستثمر أي ينخفض معدل الربح – ما أسماه ماركس قانون ميل معدل الربح للانخفاض.
هذا القانون هو مفتاح فهم أسباب الأزمات الرأسمالية. ولكنه ليس قانون مطلق فقد تحدث ماركس عن عدد من العوامل التي تعكس هذا الميل. ومن أهم هذه العوامل التجارة الخارجية وتوسع الرأسمالية خارج نطاق المراكز التراكمية الرئيسية.
يؤدي إعادة استثمار فائض القيمة في توسيع وتطوير أدوات إنتاج إلى زيادة في حجم الوحدات الرأسمالية – ما أسماه ماركس تركيز رأس المال. وتؤدي الأزمات المتتالية في الرأسمالية إلى انهيار الوحدات الأصغر واستيعاب الوحدات الأكبر والأنجح للوحدات المنهارة – ما أسماه ماركس مركزة رأس المال.
إن في التطورات الثلاث: تركيز رأس المال ومركزة رأس المال وميل معدل الربح للانخفاض هي جوهر عملية التراكم الرأسمالي وهي أيضًا الأسس التي بنيت عليها نظرية الإمبريالية الماركسية فيما بعد. قبل أن نستكمل عرضنا لتطور نظرية الإمبريالية الماركسية لا بد لنا من التوقف عند مسألة يكثر التساؤل حولها وهي موقف ماركس من الاستعمار.
الرأي السائد في هذه المسألة هو أن ماركس كان يرى أن المجتمعات غير الأوروبية في أسيا وأفريقيا هي مجتمعات يسودها أنماط إنتاج راكدة ومتخلفة وأن الاستعمار الرأسمالي بتدميره لهذه الأنماط وزرعه لبذور الرأسمالية في هذه البلدان يلعب دورًا تقدميًا هامًا لا بد منه.
يستند هذا الرأي على أسلوب انتقائي خاطئ في التعامل مع ما قاله ماركس حول مسألة الاستعمار فهو يعتمد بشكل أساسي على بعض كتابات ماركس الصحفية حول الاستعمار البريطاني في الهند. وحتى في قراءة هذه المقالات هناك إغفال، في هذا الرأي، لمنهج ماركس الجدلي في فهم الظواهر التاريخية.
يوضح ماركس في مقالاته عن الهند كيف أن الاستعمار يلعب دور متناقض. فهو يدمر ويحطم ويقتل ولكن في نفس الوقت يضع الأسس لنشأة مجتمع جديد. وهو واع تمامًا بأن الشعوب المستعمرة لن تستفيد من هذه الأسس إلا بالقضاء على الاستعمار أم بثورات عمالية في البلدان المستعمرة أو تحرر قومي في البلدان المستعمرة. ففي حديثه عن الاستعمار البريطاني في الهند يقول ماركس:
كل ما ستضطر لفعله البرجوازية الإنجليزية لن يحرر ولن يصلح ماديًا للظروف الاجتماعية للجماهير وهذا لا يعتمد فقط على تطور قوى الإنتاج ولكن أيضًا على استيلاء الجماهير عليها. ولكن ما سيتمكنوا من تحقيقه هو وضع الأسس المادية لهذه التطورات وهل فعلت البرجوازية في أي وقت سابق أكثر من ذلك؟ هل أحدثت تقدم دون جر الأفراد والشعوب في الدم والوحل، في البؤس والمهانة؟ لن يجني الهنود ثمار العناصر الاجتماعية الجديدة التي زرعتها البرجوازية البريطانية بينهم حتى تكون الطبقة الحاكمة حاليًا في بريطانيا قد تم استبدالها بالبروليتاريا الصناعية أو حتى يصبح للهندوس أنفسهم القوة الكافية للتخلص من الخناق الإنجليزي.
ومن الممكن تلخيص طرح ماركس حول الاستعمار في الهند في ثلاث نقاط:
1. أن هذا الاستعمار يتسبب في بؤس ودمار جماهيري غير مسبوق.
2. أنه يخلق الأسس المادية لتقدم واسع النطاق.
3. أنه لا بد من الإطاحة بهذا الاستعمار كي تتمكن الجماهير من الاستفادة من هذه الأسس.
إذا أخذنا كتابات ماركس بشكل جاد، أي بشكل كلي وليس جزئي وانتقائي، سنجد أنه لم يكن يطرح بشكل أحادي أن الاستعمار يلعب دور تقدمي في المستعمرات حتى فيما يخص فرص التقدم الصناعي لهذه المستعمرات:
هناك تقسيم عمل جديد ودولي. تقسيم يناسب احتياجات المراكز الصناعية الحديثة الأساسية. هذا التقسيم يظهر ويحول جزء من الكرة الأرضية إلى منطقة إنتاج زراعي في الأساس لخدمة متطلبات الجزء الآخر والذي يظل في الأساس منطقة إنتاج صناعي.
لذا نرى أن ماركس، بمنهجه الجدلي، قد تجنب الوقوع في الخطأ الذي وقعت فيه مدرسة التحديث وهو اعتبار التطور الذي يحدثه الاستعمار في البلدان المتخلفة تطورًا إيجابيًا يدفع شعوب هذه المناطق نحو التقدم والرخاء. وقد تجنب أيضًا ماركس الوقوع في خطأ مدرسة التبعية وهو أن الاستعمار قد منع إمكانية تطور وتقدم الرأسمالية في البلدان المتخلفة.
روزا لوكسمبورج وحتمية الانهيار:
لقد طرح ماركس أن الاستعمار الحديث أصبح ضرورة بالنسبة للرأسمالية الصناعية لجلب مواد خام رخيصة وإيجاد أسواق جديدة للمنتجات الصناعية في مواجهة ميل معدل الربح للانخفاض. أما روزا لوكسمبورج فقد طرحت سببًا أكثر جوهرية في عملية التراكم الرأسمالي كدافع للاستعمار. سنتناوله بشكل موجز إذ أنه، رغم أهميته، لم يلعب دورًا كبيرًا في تطور نظرية الإمبريالية.
طرحت روزا لوكسمبورج أن هناك مشكلة رئيسية في عملية التراكم وهي التناقض بين إنتاج فائض القيمة وتحقيقه في السوق أي أن ما ينتج من فائض قيمة في المراكز الرأسمالية لا يمكن استيعابه تمامًا في أسواق تلك المراكز. ولا يمكن للدورة الرأسمالية أن تكتمل إلا بتصريف جزء من ذلك الفائض خارج نطاق الرأسمالية أي في المنطق التي لم يهيمن فيها بعد نمط الإنتاج الرأسمالي وهذا هو الدافع الرئيسي للاستعمار.
ما يعنيه هذا الطرح هو أن الرأسمالية لا يمكن استمرارها إلا باستمرار وجود مناطق قبل رأسمالية يتم التوسع فيها من قبل الرأسمالية الصناعية. لن ندخل في نقد تفصيلي لهذا الطرح ولكن يكفي القول أن التاريخ قد أثبت عدم صحة طرح لوكسمبورج إذ أن الرأسمالية قد استمرت رغم وصول نمط الإنتاج الرأسمالي إلى جميع بقاع الأرض.
هيلفردنج وتبلور نظرية الإمبريالية الماركسية:
بدأ هيلفردنج من القوانين التي طرحها ماركس حول مركزة تركيز رأس المال وأخذ يطبقها على التطورات التي طرأت على الرأسمالية منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر وحتى بدايات القرن العشرين.
تناول هيلفردنج انتشار الشركات المساهمة كشكل جديد لتنظيم رأس المال. تقوم الشركة المساهمة بتجميع العديد من رؤوس الأموال من خلال بيع الأسهم ودمجها وتوحيدها في تنظيم رأسمالي واحد. ومن خلال إمكانية المضاربة على الأسهم يتم تركيز رأس المال في أيدي كبار المساهمين لدرجة غير مسبوقة. لذا يؤدي ظهور الشركات المساهمة وانتشارها إلى تركيز كبير للقوة الاقتصادية وللإنتاج الرأسمالي.
يوضح هيلفردنج كيف أن تطور مثل هذه الأشكال الجديدة لتنظيم رأس المال بما تعطيه من دفعة كبيرة لعملية تركيزه ومركزته التي تحدث عنها ماركس يؤدي إلى ظهور الاحتكارات الرأسمالية. أي شركات تحتكر الإنتاج أو التسويق في قطاع ما من الاقتصاد الرأسمالي.
إن صعود احتكار في قطاع اقتصادي ما له تأثير كبير على كل القطاعات الأخرى المتعاملة مع ذلك القطاع، فهو يخلق علاقات من التبعية والهيمنة المتبادلة. فإذا كانت مثلاً عدد من الشركات المتنافسة تتعامل مع شركة تحتكر قطاع ما تتحول هذه الشركات إلى مجرد امتداد للشركة الكبرى أو تضطر إلى التوحد لتصبح قادرة على التعامل مع تلك الشركة بشكل أقوى. وفي أي حالة من الحالتين يصبح القسم الاحتكاري من الاقتصاد أكبر وقوي.
تلعب البنوك دور كبير في ظهور وهيمنة الاحتكارات، فالوظيفة الرئيسية للبنوك كانت مركزة رأس المال المالي وإعادة طرحه من خلال القروض. وكانت البنوك أكثر القطاعات المتأثرة بالاحتكارات حيث انخفض عدد البنوك الرئيسية في ألمانيا مثلاً أو خمسة بنوك في بداية القرن. وأصبحت هذه البنوك المصدر الوحيد لتمويل المشروعات.. من مصلحة البنوك أن تندمج الشركات المتعاملة معها لأن هذا يقلل من إمكانية إفلاس هذه الشركات وبالتالي عدم قدرتها على دفع ما تقترضه من البنوك.
تؤدي كل هذه التحولات إلى سيطرة البنوك على مصادر التمويل التي تحتاجها الشركات وبالتالي بالتدريج تتحكم البنوك في الشركات الصناعية التي تمولها وتندمج هذه الشركات مع البنوك. بطرح هيلفردنج أن هذه التحولات تخلق نوع جديد من رأس المال وهو رأس المال التمويلي.
كان ماركس قد شرح تقسيم رأس المال إلى ثلاث قطاعات: رأس المال الصناعي ورأس المال المالي ورأس المال التجاري. أما رأس المال التمويلي الذي عرفه هيلفردنج فهو نتاج الاندماج الحادث أساسًا بين رأس المال المالي ورأس المال الصناعي:
إن رأس المال التمويلي يمثل توحيد رأس المال. فلقد أصبحت القطاعات المنفصلة من رأس المال الصناعي والتجاري والبنكي (المالي) الآن تحت سيطرة صفوة التمويل التي يتحد فيها سادة الصناعة والبنوك. إن أساس هذا التوحيد هو التخلص من المنافسة الحرة بين الرأسماليين الأفراد من قبل الشركات الاحتكارية الكبرى.
إن ظهور هذا الشكل الاحتكاري الجديد لرأس المال له تأثير كبير على توسع الرأسمالية خارج أطرها القومية الأصلية. يبدأ هذا التأثير بسياسة الحماية الجمركية.
كانت الصناعات الوليدة في عصر الرأسمالية الصناعية التنافسية تطلب الحماية الجمركية أمام التنافس الأجنبي حتى تستطيع هذه الصناعات أن تصمد في السوق المحلي. ولكن حين تصبح هذه الصناعات قادرة على التصدير، لا بد للسلع المصدرة أن تباع بسعر السوق العالمي وتؤدي المنافسة إلى أن يتناسب السعر المحلي مع السعر العالمي. فإذا كان السعر المحلي أعلى من السعر العالمي (من خلال الحماية) تتحول الشركات نحو السوق المحلي الأكثر ربحية ويؤدي التنافس إلى اختفاء الفارق في السعر. وعندما يصبح السعر المحلي هو السعر العالمي تصبح الحماية الجمركية غير مجدية.
يتغير دور الحماية الجمركية مع صعود الاحتكارات. فالشركات الاحتكارية لا يمكن أن تستفيد من وضعها الاحتكاري إلا إذا كان السعر المحلي تحت سيطرتهم وليس تحت سيطرة الضغوط التي تفرضها المنافسة الأجنبية. لذا فمع نهاية القرن التاسع عشر وبدايات العشرين وفي فترة صعود الاحتكارات سوف نجد انتشارًا سريعًا للحماية الجمركية بعد أن كانت هذه السياسة تتلاشى منذ منتصف القرن التاسع عشر.
استخدمت الشركات الاحتكارية الحماية الجمركية ليس فقط لحماية إنتاجها المحلي من المنافسة العالمية ولكن أيضًا كسلاح لغزو الأسواق العالمية. شرح هيلفردنج كيف استطاعت الشركات الكبرى من خلال الأرباح الهائلة التي تحققها في السوق المحلي أن تدعم صادراتها بحيث تبيع بأقل من سعر التكلفة.
إن الشركات الاحتكارية تستفيد بشكل مباشر من التوسع الاستعماري. فهذا التوسع يعني توسع في السوق المحلي الذي تنطبق عليه الحماية الجمركية التي تعتمد عليها هذه الشركات في حلق أرباح فوق عادية والتي تمكنها من اختراق الأسواق “الأجنبية” بأسعار أقل من التكلفة.
لقد لخص هيلفردنج أهداف الرأسمالية التمويلية كالآتي:
1. خلق أكبر إقليم اقتصادي ممكن.
2. إغلاق هذا الإقليم أمام المنافسة الأجنبية بحائط الحماية الجمركية.
3. المحافظة على هذا الإقليم كمجال للاستغلال من قبل الشركات الاحتكارية القومية.
رأس المال التمويلي والإمبريالية:
أدى صعود رأس المال التمويلي إلى تغييرات في البنية الطبقية ودور الدولة والأيديولوجية المهيمنة في البلدان الصناعية الكبرى. فقد كانت الرأسمالية، كما ذكرنا من قبل، منقسمة إلى ثلاث قطاعات، الصناعي والتجاري والمالي. كانت الأيديولوجية المهيمنة لرأس المال الصناعي هي الليبرالية الاقتصادية والليبرالية السياسية والتي ترجمت مطلب استقلالية الرأسماليين الأفراد ومنتجي السلع إلى مذهب الحقوق الفردية للمواطنين.
أما في عصر رأس المال التمويلي فالاحتياج الأساسي هو لدولة تدخلية تفرض حماية جمركية وتوسع من الإقليم الاقتصادي بالقوة العسكرية ولذا اندثرت شيء بشيء الأيديولوجية الليبرالية القديمة وحلت محلها أيديولوجية شوفينية قومية تقوم على التنافس العسكري بين الدول.
لعب رأس المال التمويلي دور كبير في توحيد الطبقة الرأسمالية الحاكمة في السوق الإمبريالية وتحويل دور الدولة إلى دور تدخلي وعسكري. وقد استطاع هيلفردنج من خلال هذا التحليل أن يتحد\ث عن ضرورة نشوء حرب بين القوى الإمبريالية العظمى إنجلترا وألمانيا.
بوخارين وتناقضات التوسع الإمبريالي:
لقد طرح هيلفردنج أن رأس المال التمويلي يصل مداه بتحويل الدولة إلى احتكارات. أما بوخارين فقد طور هذه الرؤية إلى:
أن مركزة وتمركز رأس المال يصل إلى أقصى دولة مع رأسمالية الدولة أي إدخال كل شيء تمامًا داخل بحال سيطرة الدولة. من أجل أن نعرف أكثر الأسباب عمومية لهذه الدولة لا بد أن نأخذ في الاعتبار اتجاهات تطور رأس المال التمويلي. هذه العملية التنظيمية التي تحتضن أفرع متزايدة من الاقتصاد القومي من خلال خلق المشاريع المشتركة ومن خلال الدور التنظيمي للبنوك قد أدت إلى تحولي كل نظام اقتصادي قومي متقدم إلى احتكار رأسمالية دولة. وعلى الجانب الآخر تدفع عملية تطور قوى الإنتاج في الاقتصاد العالمي هذه النظم العمومية إلى مواجهات حادة في صراعهم التنافسي على السوق العالمي.
يطرح بوخارين في كتابه “الإمبريالية الاقتصاد العالمي” أن الإمبريالية تتضمن اتجاهين متناقضين. اتجاه نحو عالمية رأس المال واتجاه آخر نحو رأسمالية الدولة.
إن عواقب هذا التحول في الرأسمالية هو أن التنافس يتم نقله إلى البلدان الأجنبية ويعني هذا بالطبع أن أداة الصراع الذي سيحدث عالميًا، أي قوة الدولة، لا بد أن تتضخم بشكل سريع. يعتمد حسم الصراع بين الدول الإمبريالية على قوتهم العسكرية وبالتالي على البنية الصناعية التي تعتمد عليها هذه القوى. إذًا يتحول التنافس بين الرساميل في فترة الإمبريالية إلى شكل صراعات عسكرية بين الدول القومية.
وعلى الرغم من أن تركيز بوخارين كان على تطور الإمبريالية كشكل جديد للرأسمالية المتقدمة فلم يكن غافل عن الطبيعة غير المتكافئة للاقتصاد العالمي في مرحلة الإمبريالية:
على الرغم من أهمية الفوارق الطبيعية في ظروف الإنتاج. فهذه الفارق تتراجع إلى الخلفية أكثر وأكثر مقارنة بالفوارق التي تنتج عن التطور غير المتكافئ في الدول المختلفة… أن الفجوة بين المدينة والريف. وتطور تلك الفجوة كان سابقًا مقصورًا على دولة واحدة. ولكن الآن يتم إعادة إنتاج هذه الفجوة على نطاق موسع بشكل هائل. ومن هذه الرؤية “تظهر” دول كاملة كمدن وهي الدول الصناعية بينما تظهر أقطار زراعية كاملة كريف.
لينين ونظرية الإمبريالية:
لم يحدث لينين في كتيبه “الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية” تطويرًا هامًا لما أسهم به هيلفردنج وبوخارين ولكنه استطاع أن يبلور ويبسط من النظرية بحيث تتضح الأطروحات لأكبر عدد من المناضلين.
لخص لينين الاتجاهات الأساسية لمرحلة الإمبريالية كالآتي:
1. لقد وصل تركيز الإنتاج ورأس المال إلى درجة عالية وخلق هذا التركيز الاحتكارات التي تلعب دور حاسم في الحياة الاقتصادية.
2. تم اندماج رأس المال المالي مع رأس المال الصناعي وعلى هذا الأساس خلق رأس المال التمويلي وأوليجاركية تمويلية.
3. أصبح لتصدير رأس المال بتمييزه عن تصدير السلع، أهمية خاصة.
4. نشأة شركات احتكارية رأسمالية عالمية يتم تقسيم العالم فيما بينها.
5. تم تقسيم العالم كله على أكبر القوى الرأسمالية.
إن أحد المحاور الأساسية في كتاب لينين هو تصدير رأس المال أي انتقال رأس المال من المراكز التراكمية المتقدمة إلى البلدان المتخلفة. يشير لينين إلى أن السبب الرئيسي لهذا الانتقال هو أن عدد من البلدان المتخلفة قد تم إدماجها في النظام الرأسمالي العالمي وقد أنشأت السكك الحديدية والبنية الأساسية لتطور صناعي. وفي الجانب الآخر هناك انحصار للأرباح في المراكز المتقدمة حيث تنخفض معدلات الربح بسبب ارتفاع التركيب العضوي لرأس المال وحيث يتأثر الإنتاج “لندرة الاستهلاك”.
يشير لينين أيضًا إلى أسباب أخرى لتصدير رأس المال وهي أنه في البلدان المتخلفة تكون عادة الأجور منخفضة وكذلك أسعار الأرض ويكون هناك ندرة في رأس المال. كل هذه عوامل تؤدي إلى ارتفاع معدل الربح في البلدان المتخلفة إضافة إلى رغبة الشركات الكبرى في احتكار المواد الخام لصناعات بعينها.
الأرستقراطية العمالية:
كانت هناك إشكالية سياسية كبرى تشغل لينين ومعه سائر الاشتراكيين الثوريين مع بدايات الحرب العالمية الأولى. هذه الإشكالية هي كيف هيمنت الأيديولوجية القومية الشوفينية على غالبية عمال الدول الإمبريالية الكبرى، الأمر الذي مكن البرجوازيات المتناحرة من دفع العمال إلى الحرب؟
هذه الهيمنة المذهلة كانت تتناقض تمامًا من تنبؤ ماركس حول اندثار القومية في الطبقة العاملة:
ليس للعمال وطن.. إن الفوارق القومية والتناقضات بين الشعوب تتلاشى يومًا بعد يوم. يدفع إلى ذلك تطور البرجوازية وحرية التجارة والسوق العالمي ووحدة نمط الإنتاج وظروف الحياة المتماشية معه.
لقد شرحت نظرية الإمبريالية كيف تنشأ التناقضات بين الطبقات الحاكمة للدول الإمبريالية المختلفة ولكن ماذا عن الطبقة العاملة؟
حاول لينين أن يستخدم نظرية الإمبريالية لفهم هذه الظاهرة فطرح أن هناك قطاع من الطبقة العاملة في البلدان الإمبريالية مستفيد ماديًا من الوضع الاحتكاري لرأسمالية بلادهم في السوق العالمي وهذا ما يفسر التأييد الذي منحته الحركة العمالية في تلك البلدان للسياسة الإمبريالية. في فترة الرأسمالية الليبرالية عندما كان التنافس الرئيسي بين وحدات رأسمالية مستقلة كان هناك ميل لدى عمال كل وحدة بأن يقفوا بجانب صاحب العمل إذ أن استمرار عملهم يعتمد على استمرار قدرة صاحب العمل على التنافس والبقاء في السوق. ولكن مع صعود النقابات العمالية تطور الوعي الطبقي وتلاشي شيء بشيء الانتماء لوحدة الرأسمالية أو للصناعة وتبلور الانتماء للطبقة العاملة ككل على المستوى القومي ضد الاستغلال الرأسمالي.
ولكن مع توحد الطبقة الرأسمالية من خلال الاحتكارات ورأس المال التمويلي وأخيرًا رأسمالية الدولة ومع ما يعنيه ذلك من تحول في التنافس من التنافس بين الشركات إلى التنافس بين الدول القومية أصبحت هناك مصلحة مادية للحركة العمالية المنظمة على المستوى القومي في أن تتحالف مع الدولة البرجوازية والشركات الاحتكارية.
فمن خلال احتكار الأسواق ونهب المستعمرات خلقت الشركات الكبرى أرباح ضخمة مكنتها من رفع أجور العمال الصناعيين وتحسين أوضاعهم. وإذا خسرت البرجوازية ذلك التنافس القومي يخسر العمال تلك الميزات. عرف لينين الشريحة العمالية المستفيدة من الإمبريالية بالأرستقراطية العمالية.
من الممكن اعتبار نظرية الأرستقراطية العمالية كأضعف أطروحة من أطروحات لينين حول الإمبريالية وعلى الرغم من ذلك فقد لعبت دورًا كبيرًا في تطور نظرية التبعية فيما بعد. سنحاول بشكل موجز أن نطرح بعض مشاكل هذه النظرية.
أن الهيمنة الأيديولوجية للبرجوازية على الطبقة العاملة بما فيها الحركة العمالية لا تحتاج إلى استفادة مادية من قبل العمال، ففي المجتمع الرأسمالي تكون الأفكار الحاكمة في أفكار الطبقة الحاكمة.
إن فكرة أن الرأسمالية تستطيع “رشوة” قطاعات من الطبقة العاملة من خلال الأرباح الفوق عادية التي تجلبها الإمبريالية تتناقض تمامًا مع المنهج الماركسي في فهم كيفية تحديد الأجر وعلاقته بالتراكم الرأسمالي فتحتم عملية التراكم الرأسمالي على الرأسمالية أن تستخدم أكبر جزء ممكن من فائض القيمة لتوسيع القاعدة الإنتاجية ويعني ذلك أن الرأسمالية تحاول دومًا تخفيض الأجور إلى الحد الأدنى الممكن. إذا زادت الأرباح من خلال الإمبريالية تستخدمها الرأسمالية ليس لرفع الأجور ولكن لتوسيع القاعدة التراكمية.
إن قوة النقابات العمالية، المحدد الآخر للأجور، لا تزيد مع الرأسمالية الاحتكارية بل تتضائل. فقدرة الشركات الاحتكارية، من خلال تصدير رأس المال، على الانتقال ما بين المراكز التراكمية يضعف بشدة من قدرة النقابات التفاوضية.
من المهم هنا الملاحظة أن لينين لم يتحدث عن هذه “الأرستقراطية العمالية” بشكل مطلق وطرح أن الفوائد التي تجنيها هي فوائد نسبية وأن الحرب بتدميرها الشامل تقلل من أهمية هذه الفوائد.
وختامًا يمكننا تلخيص نظرية الإمبريالية الكلاسيكية كالآتي:
* الإمبريالية هي مرحلة من التطور والرأسمال التي يحدث فيها:
1. تركيز ومركزة رأس المال الذي يؤدي في النهاية إلى اندماج رأس المال الاحتكاري الخاص مع الدولة.
2. تضطر قوى الإنتاج الرأسمالية العالمية إلى التنافس على الأسواق والمواد الخام والاستثمار على نطاق عالمي.
* هناك ثلاث نتائج لهاتين العمليتين:
1. التنافس بين الرساميل يأخذ شكل مواجهات عسكرية بين الدول القومية.
2. العلاقات بين الدول تصبح غير متكافئة وتهيمن عدد قليل من الدول الرأسمالية المتقدمة بسبب قوتها العسكرية والاقتصادية على العالم كله.
3. يؤدي التطور المركب وغير المتكافئ في ظل الإمبريالية إلى تصعيد التنافس العسكري ونشوء الحروب. حروب بين القوى الإمبريالية نفسها وحروب تسببها الصراعات بين الشعوب المضطهدة والإمبريالية.