بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

الأممية

في العدد الماضي من “الشرارة” تحدثنا في باب اشتراكيات عن “الاشتراكية والوطنية والحرب”. وأكدنا على أن موقف الاشتراكيين – الذي ينبع دائمًا من الواقع المادي – لا يفهم معنى الوطن خارج الزمان والمكان وخارج سياق الصراع الطبقي، وعلى أن من واجب الاشتراكيين أن يكونوا وطنيين – بمعنى أن يدافعوا عن الوطن – إذا ما كان لهذا الوطن محتوى ثوري أو ديمقراطي تحرري يدفع قضية الثورة الاشتراكية خطوة إلى الأمام، ومن واجبهم أن يكونوا ضد الوطنية – بمعنى أن يرفضوا خدعة الوطن – حينما يصبح للوطن معنى رجعي أو ضد الثورة. وأكدنا على أنه في كل الأحوال فإن المبدأ الاشتراكي هو أنه على الثوريين أن يحددوا موقفهم من مسألة الدفاع عن الوطن تبعًا لمصالح النضال الطبقي الثوري للطبقة العاملة عالميًا.

ويرتبط بفهم مسألة الوطنية مسألة في غاية الأهمية لدى الاشتراكيين الثوريين، ألا وهي الأممية. وهذه مسألة أصابها التشوش وأحاطت بها كثير من المغالطات والأكاذيب. وعلى ذلك فلابد من توضيحها والدفاع عنها لأنها تمثل مبدأ أساسيًا وركنًا ركينًا من أركان الاشتراكية الثورية.

الأممية مبدأ جوهري في الماركسية:
بالنسبة للاشتراكية الثورية تعد الأممية مبدأ جوهري. ومنبع ذلك هو نشأة الطبقة العاملة كطبقة أممية خلقها في دولة وراء دولة التطور الرأسمالي العالمي. فالتوسع الرأسمالي المتواصل والتنافس المحموم بين الإمبريالات الكبرى للسيطرة على الأسواق واستغلالها قد صبغا الإنتاج والاستهلاك في كل الأقطار بطابع رأسمالي مترابط يوحد بين أجزائه سوق عالمي واحد. وعلى مدى القرنين التاسع عشر والعشرين حطمت البرجوازية الأسس الاقتصادية التقليدية للمجتمعات المغلقة المنكفئة على ذاتها، وأنشأت صناعات جديدة محلها تقوم على الطرق الرأسمالية الحديثة في الإنتاج. وفي كل مجتمع جديد تغزوه الرأسمالية تنشأ طبقة حديثة على أنقاض الطبقات المستغلة القديمة المحتضرة؛ هي الطبقة العاملة. تنشأ هذه الطبقة وتعيش في ظروف متشابهة في جوهرها، ولا تستطيع الفروق في الدين واللغة والثقافة والمعتقدات مهما أوتيت من قوة تأثير أن تمحو الحقيقة الأساسية وهي أن شروط حياة العمال في كل أركان الأرض واحدة. فالعمال يخضعون لنفس القوة المستغلة – رأس المال – ولا تربطهم بالمجتمع الحديث مصالح إستراتيجية من أي نوع؛ فأولئك الذين لا يملكون شيئًا في مجتمع يقوم على الملكية الخاصة أن يفقدوا بالثورة إلا أغلالهم.

وفي الوقت الذي اكتسبت فيه الرأسمالية طابعًا عالميًا وأصبحت تسيطر على كل الأمم والشعوب، تزيد محاولاتها – خاصة في مراحل أزمتها – لتخدير العمال ومنع تضامنهم واتحادهم على النطاق العالمي عن طريق تأجيج النزعات العنصرية والعرقية والقومية الرجعية في صفوفهم. وقد وظفت الرأسمالية هذه النزعات لإخضاع العمال ونهبهم بإشعال نيران التطاحن بين عمال الدولة الواحدة، وفيما بين العمال في الدول المختلفة. وليس أمام العمال من أجل إنجاز ثورتهم إلا مقاومة ومواجهة هذه السياسة البرجوازية بجبهة عمالية عالمية واحدة.. ويعني شعار “يا عمال العالم اتحدوا” الذي رفعه البيان الشيوعي منذ 150 عامًا في هذا السياق أن وحدة المصالح الإستراتيجية بين العمال تدفعهم دفعًا إلى التضامن والكفاح الموحد ضد سياسات النهب والاستغلال في كل مكان، أي ضد البرجوازية في كل مكان في العالم.

وقد أكد البيان الشيوعي على أنه يجب على الاشتراكيين الدفاع عن المصالح الكلية للطبقة العاملة، وأنه لا يجب التضحية بهذه المصالح لصالح مطالب مهنية أو وطنية أو محلية معينة مهما كانت. يقول البيان: “يتميز الشيوعيون عن أحزاب الطبقة العاملة الأخرى فقط في الآتي: في الصراعات الوطنية لبروليتاريي البلدان المختلفة يحدد الشيوعيون ويضعون في المقدمة المصالح المشتركة للبروليتاريا كلها بصرف النظر عن الجنسية، وفي المراحل المتعددة للتطور الذي يتعين أن يمر به صراع الطبقة العاملة ضد البرجوازية يمثل الشيوعيون دائمًا وفي كل مكان مصالح الحركة ككل..”.

والأممية في الماركسية هي أعمق من مجرد التزام أخلاقي للشعوب، كالالتزام البرجوازي الليبرالي. فهي ترتبط بالفهم البروليتاري للديمقراطية، وهو الأمر الذي أكده الاشتراكيون الثوريون على طول الخط. مثلاً يؤكد لينين: “أنه لا يوجد غير البروليتاريا يزود عن الحرية الحقيقية للأمم وعن وحدة عمال جميع الأمم، وأنه لكي تعيش الأمم بحرية وسلام جنبًا إلى جنب (أو حتى عندما تنفصل حين ترى ذلك أفضل لها وتشكل دولاً مختلفة) لا بد من ديمقراطية كاملة تزود عنها الطبقة العاملة. ديمقراطية لا يوجد فيها إقرار بأي امتياز لأية أمة كانت أو لأية لغة كانت. هذه الامتيازات التي يتم فيها خيانة الديمقراطية، وتؤدي إلى ظلم الأمم وخيانة حقوقها، وتفسد العمال بشعارات التعصب القومي”.

ومن المهم هنا أن نؤكد أن الميل الأممي الموجود بشكل جنيني في صفوف حتى أكثر الطبقات العاملة تأثرًا بالأفكار العنصرية والرجعية ينبع من الوضع الطبقي الموضوعي للعمال الذين لا يمكن أن ينتموا حقيقة لوطن مضمونه الأساسي هو تحقيق مصالح مستغليهم، والذين تربطهم مصلحة إستراتيجية أكيدة برفاقهم العمال في الأوطان الأخرى مهما بعدت، وهي مصلحة القضاء على سلطة رأس المال. وفي الكراس الصغير “التراث الماركسي الحقيقي” يؤكد الاشتراكي الثوري جون مولينو على أن “العامل الثوري الذي لم يترك بلدته على الإطلاق ويتحدث بلغته الأم فقط ومع ذلك يعارض حكومته في وقت الحرب هو أكثر أممية بكثير من الأستاذ المتعلم الذي سافر عبر العالم ويتحدث بأكثر من ست لغات ومتعمق في معرفته بالثقافات المختلفة، ومع ذلك يؤيد حكومته وقت الحرب..”. فإذا كانت الأممية تعني بالنسبة للبرجوازي التعرف على الثقافات العالمية، فهي تعني بالنسبة للطبقة العاملة شيئًا آخر تمامًا وهو الدفاع المبدئي عن مصالح المستغلين والمضطهدين في كل العالم بغض النظر عن الجنس واللون والدين والعقيدة والوطن.

الأممية و”الاشتراكية في بلد واحد”
في أواسط العشرينات – بالتحديد في عام 1924 – بدأ ستالين (أحد قادة الحزب البلشفي الذي قاد ثورة 1917 الاشتراكية في روسيا) في الدفاع عن أفكار متناقضة على طول الخط مع المبادئ والأفكار التي قامت على أساسها ثورة أكتوبر 1917. في القلب من هذه الأفكار كانت نظرية الاشتراكية في بلد واحد، وهي نظرية حاول على أساسها ستالين تبرير الخط الذي تبناه التيار الوسطى الذي يقوده في الحزب الشيوعي السوفييتي. وتمثل نظرية الاشتراكية في بلد واحد قطيعة تامة مع الموقف الأممي الذي صاغه ماركس وإنجلز منذ عام 1848، والذي تبناه البلاشفة وعلى رأسهم لينين واعتبروه هو حجر الزاوية في إستراتيجيتهم الثورية. وحتى ستالين ذاته أكد قبل ارتداده عن الاشتراكية الثورية أنه “لا يمكن تحقيق الانتصار النهائي للاشتراكية في بلد واحد دون الجهود المشتركة للبروليتاريا في عدة دول متقدمة”.

وبينما كان الموقف الأصيل للبلاشفة هو ضرورة التحضير للثورة العمالية باعتبارها السبيل الوحيد لاستمرارية وتعميق الثورة في روسيا المتأخرة اقتصاديًا والتي لا يمكنها أن تحتفظ بالسلطة العمالية إلا إذا تلقت الدعم والمدد من الطبقات العاملة الثورية في الدول الأوربية المتقدمة…، بينما كان هذا هو الموقف البلشفي كان ستالين يطور نظرية ترى أن الدفاع عن الدولة السوفييتية الوليدة – في الوسط الرأسمالي المعادي لها – يتطلب ليس فقط تركيز الطاقة على نشر الثورة عالميًا، وإنما على التصنيع الثقيل عن طريق استنزاف آخر قطرة عرق من عمال وفلاحي الدولة الاشتراكية المزعومة، وهذا بدوره يتطلب المهادنة مع الرأسمالية العالمية وعدم دعم الثورات الاشتراكية في البلدان المختلفة.

إذن لقد قلب ستالين جوهر الفكرة الاشتراكية رأسًا على عقب، فأصبحت الاشتراكية وفقًا له تعني استغلال وقمع للعمال ومهادنة مع الرأسمالية!!، أي تعني بالتحديد استعادة الرأسمالية وإن تكن تحت غطاء من الطنطنة الاشتراكية.

وإلى جانب هذا فقد خربت تلفيقات الاشتراكية في بلد واحد النظرية الماركسية حول الدولة. فقد رأى ستالين أنه إذا كان ماركس وانجلز قد توقعا زوال الدولة فذلك لأنهما رأيا الاشتراكية ظاهرة عالمية، ولكن عندما توجد الاشتراكية في بلد واحد فإن هذا الأمر يقتضي تقوية الدولة!! وهكذا قوى ستالين آلة الدولة يومًا بعد يوم حتى صفى كل كادر ثوري وكل عامل مناضل يقف ضد سياسات التراكم الرأسمالي السريع التي اتبعها بقسوة غير مسبوقة في التاريخ.

وقد لطخ ستالين ونظريته التلفيقية تلك الجوهر الأسمى للنظرية الماركسية وطمساه، فعلى مدى عقود كان معظم الشيوعيين في العالم يتبعون سياسات من شأنها تحطيم بوادر النضال العمالي الثوري أينما تظهر بهدف الحفاظ على الدولة “الاشتراكية” الأم وتقويتها. وقد ترتب على هذه السياسات نتائج كارثية على النضالات الثورية في أوروبا وفي العالم، لأنها قامت على نقض مبدأ الأممية واستبداله بمبادئ اشتراكية قومية تمثلها نظرية الاشتراكية في بلد واحد.

الأممية حركة فعلية:
لم تكن الأممية أبدًا مجرد مبدأ نظري لدى الاشتراكيين الثوريين، وإنما كانت أيضًا حركة فعلية. فقد دعا ماركس إلى تكوين تنظيم أسمى للطبقة العاملة في ستينات القرن الماضي. وبالفعل عقد الاجتماع التأسيسي لرابطة الشغيلة الأممية في 1864. وقد ساعد في تكوين الأممية الأولى في هذه السنوات تصاعد النضال الاقتصادي للطبقات العاملة الأوربية، وكذلك اهتمام العمال المنظمين بالقضايا الدولية كتأييد الشمال في الحرب الأهلية الأمريكية، وقضية الاستقلال البولندي، ومسألة توحيد إيطاليا. وقد نمت الأممية الأولى مستفيدة من موجة الإضرابات التي تولدت من الأزمة الاقتصادية 1866 – 1867، وأصبحت لها سياسات أكثر وضوحًا وتماسكًا إزاء المعضلات الرئيسية لحركة الطبقة العاملة. وقد ظلت الأممية الأولى تحت قيادة ماركس وانجلز محتفظة بروحها الثورية وبارتكازها على مبدأ التحرر الذاتي للطبقة العاملة العالمية. على أن نقطة ضعفها – وهي في الحقيقة نقطة ضعف في فهم ماركس لطبيعة ودور الحزب العمالي الثوري – كانت في النزعة القدرية والتطورية التي لم تستطع أن تفهم حقيقة الصلة الجدلية بين الحزب والطبقة.

بعد اندثار الأممية الأولى مرت فترة قبل أن تتأسس الأممية الثانية في 1899. وقد نمت الأممية الثانية في مرحلة من السلام الاجتماعي والسياسي العسكري النسبي حينما كانت الرأسمالية تتوسع اقتصاديًا وجغرافيًا؛ تلك كانت المرحلة الأولى للإمبريالية قبل أن يتحول التنافس بين القوى الكبرى إلى صراع عسكري مسلح يبرز تناقضات الإمبريالية. وقد خلقت هذه الظروف السلمية مناخًا مهيئًا لتعزيز الميول الإصلاحية في الأممية الثانية. وقد وصف مؤرخو هذه الأممية طبيعتها على أنها ثورية في الألفاظ، إصلاحية في الأفعال”، وهو وصف دقيق يشرح التناقض بين البرنامج الثوري الموضوع في الأدراج وعلى أرفف المكتبات، وبين الممارسة الإصلاحية التي تتراوح بين العمل النقابي الروتيني والمعارك الانتخابية السلمية.

وعندما أتت الحرب العالمية الأولى برز إلى السطح بصورة فجة الطابع القومي الرجعي والإصلاحي لغالبية الأحزاب المكونة للأممية. فقد ساندت الأحزاب اشتراكية الديمقراطية الحكومات البرجوازية في الحرب معلنة أنه في وقت الحرب لا وقت للتنازع الطبقي بين أبناء الأمة الواحدة!! وبذلك دفعت جماهير الفقراء دفعًا إلى حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل.

كان البلاشفة عشية الحرب العالمية الأولى هم القسم الأكثر ثورية وتنظيمًا في الأممية الثانية. ولذلك فبعد إفلاس الأممية الثانية، وبعد اندلاع ثورة أكتوبر 1917 في روسيا، سارع البلاشفة إلى الدعوة لتكوين تنظيم أممي جديد للأحزاب الثورية العمالية الثورية في العالم. وقد افتتح المؤتمر الأول للأممية الثالثة في موسكو في 20 مارس 1920.

ومنذ البدء ظهرت السمات الأساسية للأممية الثالثة المختلفة جذريًا مع سابقتها الإصلاحية. فبينما كانت الأممية الثانية إطارًا فضفاضًا لأحزاب وطنية مستقلة، كانت الأممية الثالثة ممركزة بشكل صارم وتعتبر الأحزاب الوطنية فروعًا للمركز الأممي الواحد. وقد شنت الأممية الثالثة في سنواتها الأولى حربًا لا هوادة فيها ضد الإصلاحية وضد الميول الوسطية، ووضعت 21 شرطًا لقبول انضمام الأحزاب الوطنية لها حتى تضمن الطبيعة الثورية الكاملة لهذه الأحزاب.

الأممية: آفاق المستقبل:
بالطبع كان لهزيمة الموجة الثورية في العشرينات أثر سلبي فادح على الحركة الثورية وعلى الأممية الثالثة. فلقد انحطت تلك الأخيرة في الثلاثينات إلى مجرد أداة للسياسة الخارجية في يد الطبقة الحاكمة تنظيمها الأممي الموحد الذي ينسق حربها الطبقية ضد البرجوازية.

وبالرغم من أن التنظيم الأممي للأحزاب العمالية هو هدف استراتيجي ضروري للثوريين إلا أن تحقيقه دفعة واحدة وبالإرادة الذاتية غير ممكن وغير وارد. فقبل تحقيق هذا الهدف لا بد من توافر أحزاب عمالية ثورية وطنية حتى يمكن الحديث عن توحيدها في تنظيم أممي صارم. ولذلك فواقع اليوم بفرض على الثوريين التحلي بالصبر الثوري في مسألة التنظيم الأممي.

على أن هذا لا ينفي إمكانية وضرورة التواصل الأممي بين المجموعات والتنظيمات الثورية الصغيرة في مختلف الأقطار. وذلك لأن هذا التواصل سيخلق إمكانية لنقل الخبرات النظرية والعملية، ولتحقيق إمكانية أفضل لفهم وضعية الصراع الطبقي العالمي ولفهم التفاوت بين الدول. وهذه كلها أمور لو تحققت لأصبح في مقدور الاشتراكيين الثوريين في كل البلدان مواصلة نضالهم الصعب والطويل على قاعدة أرسخ من الفهم السياسي والخبرة العملية.