بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

الماركسية والمسألة الفلاحية

كارل ماركس

كانت المسألة الزراعية والفلاحية – ولا تزال – تحظى بأهمية مركزية بالنسبة للماركسين الثوريين – خاصة في تلك الدول التي لم تتغلغل في ريفها العلاقات الرأسمالية للإنتاج إلى حد القضاء على الطبقة الواسعة للفلاحين الفقراء (البرجوازية الصغيرة الريفية). والسبب وراء هذه الأهمية هو، كما يقول أحد الماركسيين المعاصرين، “أنه خارج الطبقتين الرئيسيتين (البرجوازية والطبقة العاملة) كان الفلاحون هم الأكثر أهمية وتأثيرًا على مصير الثورة الاشتراكية على الصعيد العالمي”.

من الطبيعي إذن أن نتوقع أن الموقف الماركسي في هذه المسألة – كما في غيرها من المسائل الأساسية الماركسية الثورية – قد تعرض، وما زال يتعرض، للتشويه والابتذال – عن عمد أو عن حسن نية! – من قبل “أنصاف الماركسيين” من المثقفين البرجوازيين الصغار ذوي النزعات الثورية أو الإصلاحية. ولأن الأمر هكذا، فإن الماركسية الثورية عليها – من أجل أن تتقدم أي خطوة إلى الأمام – أن تناضل لتصفية الحسابات مع جملة الأوهام والتحريفات البرجوازية الصغيرة التي تنمو داخلها أرضها حول المسألة الفلاحية.

وإذا ما أردنا أن نعرض الموقف الماركسي من المسألة الفلاحية بأقصى قدر من الوضوح فقد يكون من الأوفق أن نقسم القضية إلى الأقسام الثلاثة الآتية: أولا سبل التطور البرجوازي في الريف؛ وثانيا الرأسمالية وتدهور الفلاح الصغير؛ وثالثا الفلاحون والطبقة العاملة والثورة الاشتراكية.

أولاً: سبل التطور البرجوازي في الريف:
تنطلق الماركسية الثورية في هذه النقطة من التأكيد الآتي: في العصر الذي تسيطر فيه علاقات الإنتاج الرأسمالية على أي مجتمع لا يكون أمام ريف هذا المجتمع من طريق للتطور إلا طريق التطور البرجوازي؛ طريق تحويل وإخضاع علاقات الإنتاج الزراعية ما قبل الرأسمالية (سواء كانت إقطاعية صرف أم غير ذلك) للقوى الرأسمالية المسيطرة.

وترجع حتمية التطور الزراعي البرجوازي إلى الضغوط التي يحدثها نشوء السوق القومي، في عهد بزوغ سيطرة الرأسمالية، على القوى ما قبل الرأسمالية المسيطرة على الإنتاج في الزراعة. إذ يؤدي تبلور السوق القومي، الملازم لتطور الرأسمالية المحلية في أي مجتمع، إلى تحلل علاقات الإنتاج الزراعي من أجل الاكتفاء الذاتي، وإلى سيطرة علاقات التبادل النقدي على عدد متعاظم من المنتجين ما قبل الرأسماليين. وتصل هذه العملية، في مجرى تطورها، إلى نقطة تصبح عندها سيطرة القوى الإقطاعية – بالرغم من التحولات التي تعتريها – عقبة أكيدة أمام الغزو الرأسمالي للريف؛ عقبة تحاول البرجوازية الصاعدة – إن كانت تستطيع – أن تحطمها وتقضي عليها.

عند هذه النقطة لا يكون أمام الريف إلا طريق واحد: طريق التطور البرجوازي. ولكن – كما يقول لينين – فإن أشكال هذا التطور قد تكون على أحد نحوين رئيسيين: “من الممكن أن تزول بقايا القنانة (خضوع الفلاحين للسيد الإقطاعي) سواء عن سبيل التحول البطيء للاستثمارات الإقطاعية إلى استثمارات أكثر فأكثر برجوازية، أو عن سبيل القضاء على الملكيات الكبيرة الإقطاعية – أي عن سبيل الإصلاح أو عن سبيل الثورة”. وعلى الرغم من أن السبيلين يقودان حتما إلى التحويل البرجوازي للريف إلا أنهما ينطويان على مضامين طبقة وسياسة مختلفة. ففي الحالة الأولى – التحول البطيء للسادة الإقطاعيين – تفرض على الفلاحين، خلال عشرات السنين، أشد أشكال الضنك والعبودية تعذيبا بينما يتحول الإقطاعيون – المندمجين أكثر فأكثر في علاقات السوق والخاضعين بشكل متزايد للقوانين الرأسمالية في الإنتاج – ببطء إلى سادة برجوازيين. وفي الحالة الثانية – حينما لا تكون هناك ملكيات إقطاعية أو ما قبل رأسمالية مماثلة للإقطاعية، أو حينما تقضي الثورة على الملكيات الإقطاعية وتوزع الأرض على الفلاحين – تقوم عملية التحول البرجوازي على الفرز السريع في أوساط الفلاحين بين أقلية من الفلاحين (ثم الرأسماليين) الأغنياء، وأغلبية من الفلاحين الفقراء الذين يتحول جزء متعاظم منهم إلى عمال أجراء.

وبطبيعة الحال، كانت عمليات التحويل البرجوازي للريف تتسم دائما – كأي عملية تاريخية ملموسة – بدرجة كبيرة من عدم النقاء، وإن كان هذا بالطبع لا يعني تمييع الطبيعة الأساسية لعملية التحول في هذه الدولة أو تلك. فلقد شهدت بعض الدول – التي قامت عملية التحول فيها على الوصول لحلول وسط نصف ثورية مع الطبقة الإقطاعية – تبلور جزء من البرجوازية الريفية من أوساط الفلاحين الأحرار غير المرتبطين بإجراء إصلاح زراعي وبمصادرة الأراضي لصالح بعض الفلاحين الفقراء كحل جزئي يقطع الطريق على أي انتفاضات ثورية.. وهكذا.

ثانيًا: الرأسمالية وتدهور الفلاح الصغير:
يوضح حديثنا في النقطة السابقة أن الفلاح (المالك أو المستأجر) الصغير ينشأ في سياق التحلل والتحطيم البرجوازيين لعلاقات الإنتاج ما قبل الرأسمالية في الزراعة – خاصة في الدول التي يسود فيها السبيل الفلاحي للتحول البرجوازي.. أي سبيل القضاء على الملكيات الإقطاعي وتوزيع الأرض على المنتجين المباشرين.

ولكن كما أن الرأسمالية تخلق الفلاح الصغير فهي أيضا تؤدي إلى هلاكه والقضاء عليه – وهذا قانون حتمي من قوانين المجتمع المعاصر القائم على نهب فائض القيمة وعلى التبادل السلعي. “فحتى الحرية الأكثر كمالا” – كما يقول لينين – و”التوزيع الأوفر عدلا، وإن حتى للأرض كلها، لا يقضيان على الرأسمالية.. ليس هذا فحسب، بل إنهما يخلقان بالعكس الشروط المناسبة لتطور الرأسمالية تطورا واسعا وجبارا”.

ومن وجهة نظر شروط حياة المنتج المباشر – الذي أصبح الآن، وبفضل الرأسمالية، مالكا صغيرا – فإن هذا “التطور الرأسمالي الجبار” لا يعني بالنسبة له – وفق صياغة ماركس – سوى “تحول حكم وسيطرة السيد الإقطاعي إلى يد الرأسمالي، وتحول الأعباء الإقطاعية على كاهل الفلاحين إلى التزامات الرهنية البرجوازية”. فالمستفيد من التحويل البرجوازي للزراعة لم ولن يكون هو المالك أو الحائز الحر الصغير، وإنما الرأسمالي والمرابي والدولة الذين يتضافرو نمن أجل نهب هذا المالك الأسمى أو الشكلي (كما يسميه ماركس) عن طريق فوائد الديون، والريع (أي الإيجار)، والضرائب، والرهونات. ولا يتبقى للمالك الإسمي – بعد النهب المنظم – في معظم الأحوال إلا أقل من أجر العامل المتوسط. وهذا بالضبط ما يؤدي بعدد متزايد من الفلاحين الفقراء إلى التدهور إلى صفوف العمال الإجراء رغما عنهم من جراء النهب المتواصل، ومن جراء المنافسة غير المتكافئة مع الفلاحين الأغنياء.

إن قوانين المنافسة تعمل – كقانون عام – ضد الفلاح الصغير (وضد كل منتج صغير تتميز قوى إنتاجية – بالضرورة – بالتخلف) ولصالح الفلاح الغني والرأسمالي الزراعي. تفسر هذه القوانين الميل المتواصل إلى تركيز الملكيات الزراعية في يد عدد متناقض من الملاك. وتفسر أيضا دورات الخراب التي تحل بالفلاحين الفقراء وتجبرهم على التحول إلى معدمين لا يملكون إلا قوة عملهم ليبيعونها للقلة من الفلاحين والرأسماليين الأغنياء.

ولكن في حين أن القانون العام للتطور البرجوازي في الزراعة يؤدي إلى فرز الفلاحين إلى طبقتين رئيسيتين – الرأسماليين والعمال الأجراء – إلا أن هناك العديد من العوامل المعاكسة التي تؤدي إلى إبطاء هذا الفرز وبالتالي إلى إبطاء تدهور الفلاحين الفقراء إلى صفوف العمال الأجراء. من هذه العوامل اتجاه كبار الملاك إلى إعادة بعث الفلاحين الصغار كلما شعروا بتناقص عددهم إلى حد خطير. يفعل كبار الملاك هذا عن طريق تأجير قطع صغيرة من الأرض لعمالهم الزراعيين، وذلك لكي يضمنوا ربطهم بالريف وعدم هجرتهم إلى المدينة للبحث عن عمل بشروط أفضل. وقد تحدث ماركس في هذا السياق عن دورات المركزة والتفتيت التي تمر بها الأراضي الزراعية، والتي تخلقها من ناحية أولى عمليات المنافسة والإفقار (المركزة)، ومن ناحية ثانية الحاجة إلى ضمان إمداد كبار الملاك بعمالة زراعية مأجورة مستقرة (التفتيت).

عامل آخر يؤدي إلى مد عمر المنتج الصغير في الزراعة، بالرغم من النهب المنظم الذي يتعرض له وبالرغم من تخلف قوى إنتاجه هو قدرة هذا المنتج على العمل الزائد وعلى الاستهلاك المنخفض إلى أقصى حد، وبالتالي قدرته على. الاستمرار في السوق بالرغم من تخلف قوى إنتاجه وبالرغم من المنافسة الشرسة التي يتعرض لها. إذ أن الدأب المتزايد والعناية الزائدة للعامل الذي يعمل لنفسه، على خلاف العامل بالأجر، وكذلك المستوى المنخفض لاحتياجات المزارع الصغير المستقل، التي تعتبر أكثر انخفاضا حتى عن احتياجات العمل الزراعي، تسمحان له بالحفاظ على ملكيته وعلى وجوده الاقتصادي بالرغم من أنه، وفقا للحسابات المادية، يكون في أغلب الأحيان في وضع أسوأ من أوضاع العامل المتوسط.

هذان العاملان – ومعهما عدد من العوامل الأخرى التي لا مجال لذكرها الآن – يؤديان إلى إبطاء – وأحيانا عرقلة – عملية تدهور الفلاحين الصغار إلى صفوف العمال الأجراء. ولكن الأكيد هو أنه بالرغم من العوامل المعاكسة، فإن الاتجاه العام في الريف البرجوازي يسير على طريق تفوق الإنتاج الكبير على الإنتاج الفلاحي الصغير، وعلى طريق تدهور المنتج الزراعي الصغير، الذي لا يستطيع تطوير قوى الإنتاج، وفقدانه لأسس وجوده الاقتصادية.

ثالثًا: الفلاحون والطبقة العاملة والثورة الاشتراكية:
تقول الأسطورة – التي يروج لها البرجوازيون الصغار من الذين يناصبون الماركسية الثورية العداء – أن ماركس وأنصاره، بدءا من إنجلز ومرورا بلينين وتروتسكي وانتهاءا بالماركسيين الثوريين المعاصرين، هم ألد أعداء الفلاحين. وتمضي الأسطورة مؤكدة أن كل الكتابات الماركسية الأساسية حول الفلاحين تعلن عن احتقار شديد لطبقة الفلاحين، وعن عدم ثقة عميقة في إمكانياتهم وطاقاتهم الثورية. ولذلك، وعن عدم ثقة عميقة في إمكانياتهم وطاقاتهم الثورية. ولذلك، فإن هناك حاجة ماسة – هكذا يصر البرجوازيون الصغار – إلى مراجعة الماركسية الكلاسيكية الكلاسيكية في موقفها من هذه النقطة بالذات.

ولكن الحقيقة هي أن ما يحتاج ليس فقط إلى مراجعة بل إلى نقد جذري واستئصال هو الموقف البرجوازي الصغير من المسألة الفلاحية الذي يظهر، بأشكال متباينة، حتى داخل أرض الماركسية ذاتها.

يتلخص خطأ البرجوازيين الصغار – كما يقول لينين – في “كونهم تبنوا الأفق الضيق للمالك (الفلاح) الصغير” ولذلك أصابهم العمى ولم يروا “الطابع البرجوازي لتلك العلاقات الاجتماعي التي يدخل فيها الفلاح المتحرر من سلاسل الإقطاعية”، ولم يروا بالتالي حدود وتناقضات نضاله – أي نضال الفلاح (المالك – المستأجر) الصغير – ضد تدهور وضعه.

إن الرأسمالية التي التي تلخق الفلاح الصغير لا تنهبه فقط وإنما تضعه في وضع اقتصادي وسياسي متناقض. فهو أولاً رأسمالي يستخدم نفسه كأجير، وثانيًا (غالبًا) مالك أرض، وثالثًا عامل يعمل لدى نفسه. كرأسمالي يحصل الفلاح علبى الربح، وكمالك أرض يحصل على الريع (الإيجار)، وكعامل يحصل على الأجر. وغالبًا ما تنهب الرأسمالية الربح والريع، فلا يتبقى للفلاح سوى ما يمكن – بالكاد – أن يعد أجرًا له. ولكن بالرغم من هذا فإن الفلاح الفقير – وفقًا لماركس – “يظل متمسكًا بغرام شديد بقطعة الأرض التي لديه، وبملكيته المحض إسمية”. ففي نهاية المطاف، يخشى الفلاح من الانزلاق لمرتبة العامل الأجير، ويطمع في الصعود لأعلى إلى مصاف المالكين المتوسطين أو الكبار.

وبسبب هذا التناقض بالذات فإن الماركسية الثورية تناضل ضد التيارات البرجوازية الصغيرة التي تعطي نضال الفلاحين الصغار ضد تدهور أوضاعهم طابعًا مطلقًا، مجردًا، ومكتفيًا بذاته، والتي تعد هؤلاء البرجوازيين الصغار – كذبًا – بإمكانية تحقيق جنة العدل والمساواة بين ملاك صغار قضوا، إلى الأبد، على مصاصي دمائهم من الملاك الرأسماليين الكبار.

ولكن الماركسية الثورية تناضل أيضًا، وعلى جبهة أخرى، ضد الماركسيين المبتذلين الذين تبنوا بشكل كامل المنظور البرجوازي للمسألة الفلاحية. هؤلاء الأخيرين ينفون عن النضالات الفلاحية ضد التدهور وضد النهب الرأسمالي أي طابع تقدمي، وينفون عن الفلاحين الفقراء أي إمكانات ثورية؛ ويدافعون عن إجراءات النهب والاستغلال الرأسماليين بحجة دعم تطوير قوى الإنتاج في الريف.

إن الماركسيين المبتذلين هم العدو الرئيسي للماركسية الثورية. فهم يعملون بكل قواهم على بذر بذور التفسخ والانحطاط ولعق أحذية البرجوازية في صفوف الماركسيين. فلئن كان البرجوازيون الصغار الثوريون يتبنون، في نضالهم ضد الرأسمالية الكبيرة، الأفق الضيق للمالك الصغير، فإن الماركسيين المبتذلين يتبنون كامل الأفق البرجوازي – بكل ما يعنيه هذا من خيانة وخسة – بدعوى أن الرأسمالية لا تزال لها رسالة تقدمية في تطوير الريف يجب على الماركسيين دعمها.

ومن الواضح طبعا أن المبتذلين يقفون ضد الحل الاشتراكي للمسألة الفلاحية زاعمين بأن دورنا الآن هو دعم البرجوازية (مع مراعاة شيء من العدالة).

وعلى النقيض من المواقف البرجوازية الصغيرة أو الماركسية المبتذلة يؤمن الماركسيون الثوريو بالطابع التقدمي للنضالات الفلاحية، وبإمكانيات الفلاحين الفقراء الثورية، ولكنهم يؤمنون أيضا بأن تجاوز الحركة الفلاحية لحدودها البرجوازية الصغيرة لا يمكن أن يأتي إلا من خارجها، وعن طريق قيادة الطبقة العاملة لها.

إن البذلة التقدمية في النضالات الفلاحية تكمن في أنها تعري وتؤجج التناقض بين الفلاحين الفقراء وبين مصاصي دمائهم (الرأسماليين الكبار، الدولة، المرابين)، أي في أنها تؤكد العداء المستحكم بين الفلاحين الفقراء والأغنياء وتفضح الوهم الأيديولوجي حول وحدة الأولين مع الأخيرين. ولكن هذه النضالات، في حد ذاتها، لا يمكن أن تقضي على الرأسمالية أو بؤس الفلاحين. الطبقة العاملة، المتحررة من كل ملكية، وحدها هي التي من الممكن أن تقضي – بمشروعها الثوري – على كل العلاقات الرأسمالية؛ وهي بالتالي التي تستطيع جذب وقيادة الفلاحين الفقراء – المفتتين والمعزولين عن بعضهم، والمتأخرين سياسيا بسبب بيئتهم الريفية – إلى القضاء على مصدر بؤسهم. ولا تستطيع الطبقة العاملة أن تفعل هذا بمجرد التمنيات، وإنما عن طريق الإثبات بالتجربة للفلاحين الفقراء أن سيرهم وراء البرجوازية لا يعني إلا استمرار أغلال العبودية، وأن تحطيم هذه الأغلال ممكن فقط في حالة انتصار الثورية الاشتراكية.