الماركسية والمسألة القومية
لا شك في أن القومية تعد من أكثر الظواهر تأثيرًا على عالمنا المعاصر. افتح أي صحيفة، استمع إلى المناقشات في الجامعة، أو تابع الأخبار، وسترى كيف أن فكرة أن العالم مقسم إلى أمم أو دول هي أمر بديهي. فالمستغلون يعتبرون أنفسهم أعضاء فيما يسمى دولة قومية يفخرون بإنجازاتها، ويعانون حين تحرج أو تهان. وبالنسبة لهم، فالتفسير الأقرب لكل ظواهر السياسة العالمية هو واقع انقسام العالم إلى دول مبنية على قوميات مختلفة.
والحقيقة أن الظاهرة القومية لها أهمية استثنائية في عالم الرأسمالية المعاصر. فهي القالب الذي تتحرك من خلاله دولة البرجوازية فتسن القوانين، وتشن الحروب، وتشارك في الألعاب الأولمبية! والظاهرة القومية لذلك متشعبة للغاية. فهناك قومية الدول الاستعمارية القديمة، وهناك قومية أقلياتها مثل الباسك في أسبانيا، وهناك قومية التحرر الوطني في دول العالم الثالث، وهناك الصراعات القومية / العرقية التي اجتاحت العالم مؤخرًا في كوسوفو ورواندا وبوروندي وغيرها. ولذلك فإن القومية شكلت دائمًا سؤالاً مركزيًا للاشتراكيين الثوريين ولأحزابهم ومنظماتهم، ومثلت تحديًا أساسيًا للماركسية كنظرية تفكر في تغيير العالم على أساس أممي.
إذ يمكننا أن نرى أن الأفكار الأساسية للقوميين تتناقض مع لب الأفكار الماركسية، من حيث أن رؤية القوميين تؤكد على أن مصدر الصراع في عالمنا المعاصر هو التناقض فيما بين الدول القومية المختلفة. يرى القوميون بالتبعية أن الصراع بين الطبقة الحاكمة المستغلة وبين الأغلبية من جماهير المستغلين ينبغي أن يوضع في مرتبة ثانوية، هذا إن لم يتم إلغاء تأثيره تمامًا.
وهكذا نجد أن الحركات القومية تعتبر أن كلاً من الماركسية والماركسيين يمثلان تهديدًا لوحدة الأمة في مواجهة الأخطار الخارجية، وأن الصراع الطبقي يعد تغليبًا لمصلحة فئة على أخرى دون حق. هذا بينما ترى الماركسية على العكس أن الانقسامات القومية هي صورة خاصة من تجليات الصراع الطبقي، وإن صعود ثم رسوخ الدولة القومية يعتبر استجابة لمتطلبات تطور الرأسمالية العالمية، وإن نظام الدولة القومية هو شكل سياسي فريد يتحكم في الشعوب لتسهيل استغلالها بواسطة رأس المال.
ومن الطبيعي أن يقود هذا الخلاف في الأفكار الرئيسية إلى خلاف في استراتيجيات التغيير. فالتيارات القومية ترى أن الثورة الوطنية، أو السعي لإحياء روح الانتماء القومي، هما الطريق لتحرير الشعوب ولرفعتها وتخليصها من أعداءها القوميين. أما الماركسيين الثوريين فيرون على النقيض أن الثورة الاشتراكية المنتصرة لا يمكن إلا أن تكون عالمية. وهذا ما أثبتته تجربة الثورة الروسية (1917) التي كان مصدر الانقضاض عليها هو هزيمة موجة الثورات التي شهدتها القارة الأوروبية في مطلع العقد الثالث من القرن العشرين.
القومية اختراع حديث:
يعود جانب هام من جوانب جاذبية فكرة القومية إلى الاعتقاد الخاطئ السائد بأنها معطى طبيعي طالما كان موجودًا في تاريخ البشر – إن لم يكن في دمائهم وأرواحهم. غير أن الحقيقة الثابتة هي على خلاف ذلك. فالأكيد أن القومية هي اختراع حديث لم يكن له أثر قبل مئات قليلة من الأعوام. فقبل هذا، لم يكن هناك سوى القبائل والإمبراطوريات وما يطلق عليه الدول – المدن، وهذه كلها أشكال للتنظيم الاجتماعي أو للسلطة تختلف جذريًا عن الدول القومية كما نعرفها في عصرنا الحديث.
الدول ما قبل القومية كانت – مثلها كمثل الدول القومية – تقوم بأدوار القمع الطبقي، وتستخدم الأجهزة المسلحة لضمان استغلال الطبقات الكادحة، وبعضها قام على أساس روابط مثل الدين. ولكن ما يميزها عن الدول القومية الحديثة هو أن الأخيرة استخدمت فكرة القومية لإنشاء دول تقوم على فكرة المواطنة مع الإيهام بوحدة الجذر العرقي والتاريخي للأمة. هدف هذه الدول هو توحيد السوق وتركيز أدوات القمع كإطار لاستكمال سيطرة الرأسمالية الاقتصادية والسياسية.
وقد اقترن ظهور الدولة القومية الحديثة ببزوغ الطبقة البرجوازية كقوة اقتصادية مسيطرة. فقد احتاجت الرأسمالية الصاعدة سوقًا قوميًا موحدًا. ولذا كان عليها تكسير العوائق المحلية مثل الضرائب المحلية وأنظمة النقد والقياس المختلفة. وقد سعت الرأسمالية أيضًا لضمان حرية انتقال العمل من أجل توفيره لعملية الاستغلال، في نفس الوقت الذي احتاجت فيه إلى لغة موحدة لتكون لغة المعاملات التجارية. وفي هذا السياق لعبت الدولة القومية دورًا حاسمًا لتهيئة البنية الأساسية وتعبئة الموارد لكي يعمل ويتنافس الرأسماليون.
لم تتم عملية توحيد السوق وخلق الدولة القومية بين يوم وليلة، وإنما استغرقت مرحلة زمنية طويلة منذ بدايات ظهور الرأسمالية وحتى توسعها وانتشارها إلى الحد الذي استطاعت فيه أن تلعب أدوارًا سياسية مكنتها من التأثير على جهاز الدولة، ثم الاستيلاء عليه في نهاية المطاف. ففي فترة انحطاط الإقطاع وبزوغ الرأسمالية ظهر ما يسمى بـ”المدن الحرة” التي أكدت استقلاليتها أكثر فأكثر مع نمو وتطور عمليتي الإنتاج والتبادل الرأسماليين. ومن ناحية ثانية، فلأن الملوك الإقطاعيون احتاجوا إلى المال لتمويل حملاتهم العسكرية، فقد اضطروا إلى الاعتماد على البرجوازية والبنوك حديثة النشأة.
هنا بدأت عناصر من الدولة القومية الحديثة في الظهور، ولكنها لم تتبلور إلا على مدى عقود. فقد ظل التحول البطيء يسري مع تطور الرأسمالية وزيادة قوتها. وكانت البداية مع ظهور وحدات سياسية قومية في أوروبا تحت قيادة ملكيات مركزية. مع هذه الملكيات جاءت الروح القومية وجاء تشجيع الملوك لصناعات بعينها على رأسها صناعة السلاح. وهو الأمر الذي أدى إلى المساهمة في توحيد السوق، وفي تمهيد الطريق لسيطرة الطبقة البرجوازية على السلطة السياسية.
وعلى الجانب الآخر، شهدت القارة الأوربية خلال القرن التاسع عشر عمليات توحيد قومي لم تسلك الطريق التقليدي البطيء حدث ذلك في دول كألمانيا التي حال ضعف برجوازيتها دون خلق الظروف الملائمة لتوحيد السوق. فقد احتاجت البرجوازية الألمانية إلى بسمارك ومشروعه للتوحيد من أعلى بالحديد والدم، حتى تستطيع أن تخلق دولتها القومية.
ومع دخول الرأسمالية في العصر الإمبريالي بدءًا من أواخر القرن التاسع عشر، أصبحت ظاهرة نشوء الدول القومية مرتبطة في جانب أساسي منها بالنضال ضد الاستعمار. فقد نشأت جملة من الدول القومية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية من خلال كفاح الطبقات الحديثة (التي ظهرت إلى الوجود بسبب التأثيرات المعقدة لعملية السيطرة الاستعمارية) في سبيل التحرر الوطني.
ولا شك في أن مسار تكوين الدولة القومية في المستعمرات يختلف في بعض مظاهره عن مثيله فيما يمكن أن يطلق عليه الحالات الكلاسيكية الأولى (التي نجد أمثلتها في العديد من التجارب الأوروبية). فبالرغم من أن جوهر القومية الحديثة واحد، إلا أننا نجد أن الكثير من حركات التحرر الوطني نجحت في انتزاع دولاً قومية بدون تبلور برجوازية محلية قومية. وفي حالات عديدة لعبت السلطة “الوطنية” الجديدة، أو حتى السلطة العتيقة الموروثة عن العهد الاستعماري، دورًا كبيرًا في خلق البرجوازية ودفعها إلى الأمام. بل أنه في عدد لا يستهان به من الحالات، كان نشوء الدولة “القومية” نتيجة للتسويات فيما بين الدول الاستعمارية إبان انسحابها من المستعمرات. والأمثلة الأشهر على هذا نجدها في أفريقيا والشرق الأوسط وغيرها من مناطق ما يطلق عليه العالم الثالث.
القومية الرجعية والقومية التقدمية:
نستنتج مما سبق أنه على العكس مما تطرحه الأسطورة القومية، فإن الدولة القومية ليست شيئًا ثابتًا محددًا وإنما كيان تاريخي متغير. فهناك أمم لم تكن موجودة أبدًا ولدت وأصبحت راسخة. ومن الممكن أن تخلق الأمم عن طريق الحروب، الغزوات، أو الثورات. وربما تموت حدود وصلات قديمة لتخلق بدلاً عنها صلات جديدة (كما رأينا في حالتي تشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا). وما كانت بالأمس أمة مقهورة أو مستعمرة، قد تصبح اليوم دولة استعمارية. والمثال هنا الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت مستعمرة بريطانية، ثم صارت أكثر القوى الإمبريالية رجعية في عالمنا المعاصر.
هذا الطابع المتغير والمعقد للقومية يخلق معضلات متعددة للاشتراكيين الثوريين. فتاريخية الظاهرة تفرض وضوح الرؤية والمعايير، كما تفرض مواقف جدلية مرنة. ولذلك فإن الثوريين اعتمدوا دائمًا في تحليلهم وفي مواقفهم على التمييز بين القومية التقدمية والقومية الرجعية. فشتان الفارق بين لجوء الطبقات الحاكمة المستغلة للرطانة القومية من أجل صرف النضال بعيدًا عن مساره الصحيح، أو من أجل تعبئة قوى الاستغلال والهيمنة الاستعمارية، وبين الحركات القومية المناضلة ضد الإمبريالية والاستعلاء العنصري. وفي كل الأحوال، فإن ميزان التقدير ينبغي أن يكون التحليل الملموس لصلة الحركة القومية المعنية في مراحلها المختلفة بالنضال الأشمل ضد الرأسمالية والاستغلال.
نأخذ مثالاً على ذلك حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران. في سنواتها الأولى كانت الحرب صراع على النفوذ بين قوتين إقليميتين. نظام صدام يريد تقمص دور نظام النشوء كشرطي في المنطقة، ونظام الخوميني تصدير الثورة الإسلامية كوسيلة لمد النفوذ الإيراني. الموقف هنا لا يمكن إلا أن يكون إدانة الحرب الدموية وإدانة طرفيها بشكل متساو، حيث لا انتصار للجموع المستغلة إلا بالتخلص من حكوماتها. لكن الموقف تغير دراميًا بالمساندة الأمريكية للعراق. هنا أصبحت كل ضربة عسكرية عراقية تمثل جزءًا من مخطط الإمبريالية في المنطقة. وهنا بالتالي أصبح الترحيب بهزيمة إيران وقوفًا مع المخططات الأمريكية للسيطرة على منابع النفط.
وبتتبع تاريخ الاشتراكية الثورية نجد أن أنصارها واجهوا منذ اللحظة الأولى معضلات تتبع من تعدد أوجه الظاهرة القومية وتقلب مضمونها من مرحلة إلى أخرى. قليلون هم الذين امتلكوا قدرًا كافيًا من “الشجاعة الغبية” مكنتهم من إهمال القضية اكتفاء بالترديد الأعمى للفكرة (الصحيحة) المجردة القائلة بضرورة الوحدة الأممية للعمال. وقد فشل هؤلاء – حتى بالرغم من إخلاص بعضهم – في بلورة أي موقف مبدئي عملي من المعارك القومية العديدة المشتعلة في عالمنا.
على جانب آخر، نجد أن ماركس ثم لينين يمثلان نموذجين ناجحين للمواجهة الصحيحة للمسألة القومية. صحيح أنهما لم يقدما لنا نظرية نهائية متكاملة بهذا الشأن – لاستحالة وجود نظرية نهائية بهذا الخصوص – لكن تجربتهما السياسية والفكرية تمثل ضوءًا هاديًا لكل الاشتراكيين الثوريين حتى الآن.
الخيط الذي يجمع ماركس ولينين هو أنهما نجحا في صياغة موقف يقوم على التأييد النقدي للحركات القومية، ولكن دون الوقوع في أحابيل موقف قومي. تبلور موقف ماركس في هذا الشأن من خلال تصديه للمسألة الأيرلندية. ففي 1848، كان ماركس يرى أن قضية استقلال أيرلندا (وقد كانت مستعمرة بريطانية في ذلك الوقت) هي على هامش الصراع الطبقي في إنجلترا، وكان يلوم القوميين الأيرلنديين لأنهم لم يستطيعوا ربط أنفسهم بحركة الشارتية (الحركة العمالية الثورية في إنجلترا).
ولكن مع تراجع الشارتية، ومع ما تلاها من نجاح في تعبئة الطبقة الحاكمة للطبقة العاملة الإنجليزية ضد الأيرلنديين، وجد ماركس أن العقبة الأساسية أمام تحرر العمال الإنجليز أصبحت وقوفهم في نفس الصف مع طبقتهم الحاكمة في مواجهة الاستقلال الأيرلندي. وهكذا أكد مرارًا وتكرارًا أن القضية الأيرلندية يجب أن تكون في مقدمة أولويات الثوريين لأنها هي المدخل لتجاوز عقم وتراجع الطبقة العاملة الإنجليزية. وقد قاد ذلك ماركس لصياغة شعاره الشهير القائل بأن “أي أمة تقمع أمة غيرها تشكل قيودها هي نفسها”.
أما لينين فقد تشكلت رؤيته للقضية القومية من عدة عناصر: 1. في عالم الإمبريالية يقوم التوازن الدولي على هيمنة القوى الاستعمارية الكبرى، ومن ثم فإن الثورة على هذا التوازن سمة أساسية للسياسة المعاصرة؛ 2. القضية الأساسية للماركسيين هي أن يجدوا نقطة ارتكازهم كأمميين في عالم تسيطر عليه الصراعات القومية؛ 3. المشكلة الإستراتيجية الحاسمة هنا هي محاولة تغيير مشاعر العمال القومية بأخرى أممية؛ 4. العقبة الرئيسية أمام ذلك هي قومية العمال في الدول الإمبريالية التي تقودهم لأن يقفوا في نفس الخندق مع طبقاتهم الحاكمة، وهو ما يدعو العمال في الدول المقموعة الساعية للتحرر للاعتقاد بأن عمال الدول الاستعمارية غير متعاطفين مع قضيتهم وتطلعاتهم التحررية مما يقسم حركة العمال العالمية.
ما يستنتجه لينين من هذا التحليل هو ضرورة التأييد النقدي لحركات التحرر الوطني في إطار سياسة الدفاع عن حق الأمم في تقرير مصيرها، وذلك لكسر الحلقة الشريرة للمشاعر القومية في أوساط العمال. ميز لينين هنا بين أدوار الثوريين في الدول الإمبريالية القامعة وبين أدوارهم في الدول المقموعة. ففي الأولى على الثوريين أن يدعوا العمال لتبني مطلب تحرر الشعوب المضطهدة، لكسر سيطرة النزعة القومية الرجعية على حركة الطبقة العاملة وللتغيير بشكل واضح عن أممية هذه الحركة. بينما في الدول المقموعة على الثوريين أن يبلوروا موقفًا ثابتًا يناضل ضد الإمبريالية وفي نفس الوقت ينتقد ويفضح البرجوازية المحلية التي تريد إخضاع الصراع لمتطلباتها ومصالحها. ويقتضي هذا أن لا يقف الثوريون في الأمم المضطهدة متفرجين تاركين القضية في يد عمال وثوريي الدول الإمبريالية، إنما عليهم أن ينغمسوا في المعركة ويسعوا لقيادتها أيديولوجيًا وسياسيًا. وبسبب هذا الموقف المركب فإن تأييد لينين لحركات التحرر الوطني لم يعن أبدًا التضحية بالاستقلال التنظيمي والسياسي للحركة العمالية في الدول الساعية للتحرر.
وهنا يمكننا التأكيد أن الأمر الذي ساعد كل من ماركس ومن بعده لينين أقدر على اتخاذ مواقف صحيحة من قضايا القومية في عصرهما، هو أولاً وقوفهما على أرضية المصالح الإستراتيجية للطبقة العاملة، وثانيًا رؤيتهما الحية الجدلية للمسألة القومية وبالأخص، فإن الرؤية الجدلية قد ساعدتهما على فهم طبيعة الرابطة بين العوامل السياسية والاقتصادية في تكوين الظاهرة القومية. فقد كان إغفال العامل السياسي، واختصار القضية القومية في التطور الاقتصادي للرأسمالية، سببًا في فشل عدد لا بأس به من الاشتراكيين في تبني موقف صحيح من القضايا القومية. ومثل ذلك هم أولئك الماركسيين الذين اعتبروا أن التطور الاقتصادي للرأسمالية، ونزعتها المتوسعة للعولمة، سوف يؤدي بالضرورة إلى تحطيم القومية، وهو ما ثبت أنه غير صحيح بالمرة.
من أين تنبع استمرارية الظاهرة القومية؟
هناك عدة عوامل لعبت دورًا في استمرار الظاهرة القومية إلى وقتنا هذا. وبين هذه العوامل يلعب العامل الخاص بطبيعة واحتياجات الرأسمالية عمومًا، وفي مرحلتها الإمبريالية بالذات، الدور الأساسي والمحوري. فمن ناحية أولى تلعب الدولة القومية دورًا حاسمًا في الدفاع عن مصالح الطبقة الرأسمالية في مواجهة عمالها وفقرائها. فجهاز الدولة، بجيشه وشرطته وسجونه ومحاكمه، ضروري للحفاظ على النظام – والنظام هنا يعني سلطة رأس المال في المصنع، وحرية الملكية الخاصة في المزرعة، وحق الثورة في التوسع والنمو على حساب المستغلين.
من ناحية ثانية، نرى أن الحاجة للدولة، في ظل تطور الرأسمالية إلى إمبريالية، زادت ولم تقل. فوفقًا للينين، فإن الإمبريالية – بتعريفها كتنافس ذو طابع سياسي – عسكري بين الدولة الاستعمارية من أجل توسيع مناطق النفوذ العالمية – هي أعلى وآخر مراحل الرأسمالية. وفي ظل هذه المرحلة، يتحول التنافس بين الرأسماليين من شكله الكلاسيكي كتنافس بين رأسماليين أفراد داخل حدود الدولة القومية الواحدة، إلى تنافس عالمي بين دول تحمي وتمثل تخالفات الشركات الاحتكارية الكبرى في العالم. ويتزايد مع الوقت – ومع توسع النزعات الاحتكارية – الطابع العسكري والسياسي لهذا التنافس. ولذلك، فعلى الرغم من العولمة المستمرة لعملية الإنتاج الرأسمالي، فإن الدولة القومية تبقى ذات أهمية بالغة لخدمة عملية المنافسة والتراكم على الصعيد العالمي، تلك العملية التي تزداد احتدامًا مع اشتداد الأزمات الاقتصادية في العقود الأخيرة.
على أساس من هذا الفهم يمكننا أن نرصد صورًا أخرى عديدة لاستغلال الظاهرة القومية في مصلحة الطبقة الرأسمالية وحلفائها. من هذه الصور استغلال الاختلافات القومية أو العرقية في توجيه غضب المحكومين بعيدًا عن الحكام. إذ تلقى الطبقات الحاكمة اللوم فيما يتعلق بآثار الأزمة الاقتصادية، من بطالة وتراجع في مستويات المعيشة، على فئات أقلية في الجنس أو اللون. وهو أسلوب ناجح للغاية يمكن أن نرى مدى نجاحه في ظهور حركات اليمين المتطرف في أوربا، وفي النموذج اليوغوسلافي على مدى سنوات التسعينات.
وللأسف فإن التيارات الاشتراكية الإصلاحية أو الوطنية أو الستالينية لعبت دورًا لا يستهان به في ترويج الأوهام القومية الرجعية في أوساط العمال والمستضعفين. فالاشتراكيون الإصلاحيون خانوا فضية الثورة العمالية عشرات المرات بإدعاء الدفاع عن الأوطان ضد العدو القومي. أما الستالينيون، فقد روجوا لوهم رجعي خلاصته أن الاشتراكية يمكن أن تبنى في بلد واحد، واستنتجوا من ذلك ضرورة الدفاع عن الوطن الاشتراكي حتى ولو كان يخوض حربًا رجعية ضد أمة مضطهدة.
وبغض النظر عن كل ذلك، فإن أجواء الأزمة والاحتقان العالمي، بالذات في ظل الحرب الأيديولوجية ضد الاشتراكية، قد أنعشت العديد من الحركات القومية، بعضها مغرق في رجعيته، وبعضها تقدمي يناضل ضد الاضطهاد الإمبريالي كما نرى في فلسطين والشيشان. ليس هذا فقط، بل إن واقع وجود دول صغيرة صارت تئن تحت ضغوط العولمة، بدأ يدفع حتى برجوازيتها نفسها لتزكية الميول القومية كإطار للمقاومة. إن السياسة الدولية ستشهد على الأغلب تصاعد في حدة القضايا القومية في المستقبل القريب. وفي هذا الإطار ينبغي ألا ينسى الاشتراكيون أبدًا واحد من أهم أسس الاشتراكية الثورية: “الالتزام ببناء عالم إنساني واحد بلا دول أو صراعات قومية”. لكن عليهم ألا ينسوا مقولة لينين: إن من يتوقع ثورة اشتراكية نقية لن يعيش أبدًا ليراها”. وهو ما يعني ضرورة بلورة موقف ثوري جدلي ملموس من كل النضالات والصراعات القومية؛ موقف يناضل إلى جانب كل حركة قومية تسعى للتحرر، ويناضل ضد كل شكل من أشكال القومية الرجعية المعادية لتقدم وحرية الإنسان.. كل ذلك على أساس من فهم عميق للرابطة بين الكفاح ضد الاضطهاد الاستعماري والكفاح ضد سيطرة الأوهام القومية على حركة العمال الساعين لبناء مجتمع الاشتراكية.