الموقف الاشتراكي الثوري من الانتخابات البرلمانية
“دوري هنا هي أن أتحدث عبر النافذة مستخدما المنبر البرلماني للتحريض ضد الحرب والرأسمالية”.. كارل ليبكنخت، الاشتراكي الثوري الألماني وعضو البرلمان الألماني في وقت الحرب العالمية الأولى.
هناك تقليدان رئيسيان في تاريخ الاشتراكية فيما يتعلق بالموقف من الانتخابات البرلمانية وهما تقليدان متعارضان. الموقف الأول هو ما يطلق عليه الموقف الإصلاحي ويؤكد هذا الموقف على أنه يمكن الوصول للاشتراكية عبر الحصول على أغلبية في البرلمان وفرض البرنامج الاشتراكي ديمقراطيا. ويؤكد هذا التقليد على التحول السلمي التدريجي إلى الاشتراكية ويرى في الحملات الانتخابية ونشاط النواب والمسئولين المنتخبين الاشتراكيين أهم مظهر للنشاط الاشتراكي. أما التقليد الثاني فهو يرتكز على تحرير الطبقة العاملة نفسها بنفسها عبر الإطاحة بجهاز الدولة البرجوازي وكل مؤسساته واستبداله بأدوات جديدة تعبر عن سلطة العمال ومنطقة الانطلاق فيه هي نضالات جماهير الطبقة العاملة. ففي الأول البرلمان يتحول إلى ساحة المعركة وهدف لكل العمل الاشتراكي وفي الثاني هو مجرد منبر للتحريض والدعاية.
حدود الموقف الإصلاحي من الانتخابات
الطريق البرلماني الإصلاحي للاشتراكية به نقاط ضعف مميتة تنبع من حدود دور البرلمان البرجوازي ذاته. فالنائب بمجرد انتخابه يصبح خارج سيطرة من انتخبوه في ظل غياب الحق الجماهيري في خلعه. كما أن النواب يدينون بالولاء لأحزابهم أكثر بكثير من رغبات الناخبين. في بريطانيا مثلا، وهي ديمقراطية برجوازية كلاسيكية، أغلبية الذين ذهبوا للتصويت في الانتخابات هناك يعارضون الحرب على العراق لكن الحكومة شنت الحرب برغم ذلك.
أيضا فإن دورة الانتخابات كل أربعة أعوام أو خمسة قد لا تتماشى مع إيقاع الصراع الاجتماعي والسياسي ويمكن أن تصبح الحكومة غير مقبولة شعبيا بشكل كاسح وتبقى في السلطة. بالإضافة لذلك فالبرلمان لا يتحكم في الدولة. فأجهزة الدولة والقضاة والشرطة والجيش لا تنتخب وإنما تعينها السلطة التنفيذية. ويواصل هؤلاء عادة تنفيذ والدفاع عن أجندتهم المعادية للديمقراطية. الأكثر من هذا هو أن أغلبية القرارات التي تؤثر في حياتنا عميق الأثر لا تتخذ في البرلمانات بل في بعض الأحيان خارج جهاز الدولة برمته: في غرف الاجتماعات الخاصة بالشركات الكبرى حيث ليس للنواب أي تأثير. ناهيك عما أصبحت تتسم به الانتخابات نفسها كعملية تحتاج إلى تمويل من نوع معين لا يمتلكه إلا رجال الأعمال الذين صاروا يترشحون بأنفسهم وبشخوصهم في أحيان كثيرة.
وتشير التجارب المؤلمة التي شهدها الاشتراكيون الإصلاحيون في دول كتشيلي 1973 إلى حدود هذا التقليد على الأرض. فبالرغم من سيطرة الاشتراكيين على البرلمان ورئاسة الدولة من قبل سلفادور ألليندي افتقر النظام الجديد للسيطرة على منطقتي السيطرة الطبقية: أدوات الإنتاج وأدوات القمع وهو ما سهل إزاحته لاحقا عبر انقلاب بينوشيه الدموي المدعوم من الولايات المتحدة.
الخلاصة هي أنه كما قالت الاشتراكية الثورية الألمانية روزا لوكسمبورج قبل قرن من الآن فإن هؤلاء الذين يدافعون عن الطريق البرلماني للاشتراكية يقترحون في الحقيقة هدفا مختلفا تماما عن الاشتراكية الثورية ـ ليس أكثر من نسخة معدلة بشكل طفيف من الرأسمالية.
التقليد الثوري
كان البلاشفة هم أول من استخدم الانتخابات بطريقة ثورية حقا. وساعدت حقيقة أنهم نظموا أنفسهم بمعزل عن الإصلاحيين في حزب يمثل الأقلية الطليعية للطبقة العاملة في قدرتهم على تبني وتنفيذ هذا الموقف. ورغم أن البلاشفة تبنوا مواقف مغايرة من الانتخابات البرلمانية – بالمشاركة أحيانا والمقاطعة أحيانا أخرى – إلا أنهم شنوا الحرب على كل من نادوا بضرورة مقاطعة البرلمان من حيث المبدأ.
ويلخص لينين هذا الموقف وحيثياته بعدها بسنوات في كتابه “مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية”: الاشتراك في الانتخابات البرلمانية وفي النضال من على منبر البرلمان أمر لابد منه لحزب البروليتاريا الثورية وذلك بالضبط لأغراض تربية الفئات المتأخرة من العمال وما دمنا عاجزين عن حل البرلمان البرجوازي وسائر أنواع المؤسسات الرجعية، أيا كانت، فلابد من العمل داخلها، بالضبط لأنه لا يزال هناك عمال ممن خدعهم القسس وتبلدوا في بيئة الأرياف النائية. لقد ثبت أن الاشتراك في البرلمانات البرجوازية حتى لبضعة أسابيع قبل انتصار الجمهورية السوفييتية، وحتى بعد هذا الانتصار لا يضر البروليتاريا الثورية بل يسهل لها إمكانية أن تثبت للجماهير المتأخرة لماذا تستوجب هذه البرلمانات الحل وهو ما يسهل النجاح في حلها ويسهل إزالة البرلمانية البرجوازية سياسيا.
لكن البلاشفة ظلوا يعتبرون المشاركة في الانتخابات البرلمانية جزءا صغيرا من نشاطهم يجب أن يفوقه في الأهمية وفي التركيز العمل في المصانع ومناطق الإنتاج وفي الشارع.
متى يشارك الثوريون ومتى يقاطعون؟
بما أن نقطة الانطلاق هي وعي جماهير الطبقة العاملة فهذا هو العامل الرئيسي الحاكم لاتخاذ مثل هذا القرار. في هذا الإطار لا مكان للمقاطعة السلبية في السياسة الاشتراكية الثورية. المقاطعة الايجابية هي وسيلة نضالية تهدف بشكل مباشر للإطاحة بالنظام القائم أو في أسوأ الأحوال، عندما لا يكون هناك مجال لذلك، إضعافه بالشكل الذي لا يكون قادرا به على إدارة وتشغيل مؤسسة البرلمان بالشكل الذي يقنع جماهير الطبقة العاملة. وفي روسيا 1905، قاطع البلاشفة انتخابات “الدوما” أو البرلمان الذي دعا القيصر لتأسيسه. استند قرار المقاطعة وقتها للوضع الذي كانت عليه الحركة العمالية التي كانت في حالة ثورة وتؤسس مجالسها العمالية المستقلة. وقتها اعتبر البلاشفة الاشتراك في الانتخابات خطوة للوراء وبالتالي رفضوها.
لكن البلاشفة عادوا للاشتباك مع الانتخابات البرلمانية بل وتم انتخاب نواب لهم في الدوما عدة مرات على أساس التصور الذي طرحناه سابقا نقلا عن لينين. في هذا الإطار، فإن عمل الاشتراكيين كان استخدام الحملات الانتخابية للقيام بالدعاية الاشتراكية بين جماهير لاتصل لها عادة. وبالنسبة للنواب الذين يتم انتخابهم فإن البرلمان هو منصة لنشر المواقف الاشتراكية ولفضح اليمين وللمساعدة في تنظيم النضالات خارج البرلمان.
البرلمان كوم من القمامة لكن إذا وقفت على قمته يصل صوتك لمكان أبعد. والاشتراكي الذي ينتخب للبرلمان يكسب مكبر صوت يستطيع استخدامه للتحريض الاشتراكي إلا أن ذلك لا يقلل بأي حال من كون البرلمان يظل كوما للقمامة.