النقابات والإصلاح والثورة
النظرة الماركسية الكلاسيكية كانت فيما مضى أن العمل داخل النقابات هو مركزي فقط بالنسبة للثوريين في البلدان ذات الديمقراطيات البرجوازية العتيدة، أما في الدول الرأسمالية المتخلفة ذات الطابع الشمولي أو شبه الشمولي فالأمر على خلاف ذلك. وقد كان لتلك النظرة ما يبررها، إذا كانت النقابات في الدول المتخلفة تنشأ ضعيفة ومحدودة التأثير وكثيرًا ما كانت تكف عن الوجود كلية بعد سنوات قليلة من ظهورها. وهو ما يعني أن الثوريين كانوا – عن حق – لا يرونها كأداة مركزية لتنظيم واستقطاب العمال. ثم أن النقابات في الدول المتخلفة، التي غالبًا ما لا تسمح ظروفها السياسية أو الاقتصادية بإعطاء إصلاحات لتحسين أحوال العمال، كانت تضطر في نشأتها إلى تخطي الأفق الإصلاحي الضيق وإتباع سياسات جذرية تميل بها إلى المزج بين المطالب السياسية والاقتصادية وإلى تبني المثل الاشتراكية. وهو ما كان يعطي الثوريين في تلك الدول – على خلاف الثوريين في الدول ذات التراث الإصلاحي العميق – فرصة سهلة نسبيًا للارتباط بالنقابات والسيطرة عليها.
على أن النظرة الكلاسيكية قد تعدلت بعض الشيء في العقدين الأخيرين تحت تأثير خبرات الصراع الطبقي في عدد من دول العالم الثالث الكبرى – كالبرازيل وكوريا وجنوب أفريقيا وغيرها – التي أظهرت أن نقابات كبيرة وعظيمة الأثر يمكن أن تنشأ في خضم المعارك الجماهيرية في تلك الدول، وأن هذه النقابات تلعب دورًا مركزيًا في التأثير على الطبقة العاملة، وهو دور مشابه – وإن كان غير مطابق – لدور النقابية الإصلاحية في الديمقراطيات البرجوازية القديمة. ومع ظهور النقابات أصبح حل معضلة العمل الثوري داخلها أمرًا مركزيًا بالنسبة للاشتراكيين في عدد من الدول الرأسمالية الصاعدة مؤخرًا التي زادت فيها مساحة الديمقراطية.
إن تجارب العقدين الأخيرين ذات أهمية كبرى لنا هنا في مصر. فهي قد تعد بحق مرآة نرى فيها احتمالات مستقبلنا، ونفهم من خلالها الطريق الصحيح للنضال داخل نقاباتنا. ولذلك فقط يكون تحليل الوضعية المصرية في ضوء هذه الخبرات هو المخرج من الدوران في الحلقة المفرغة للجدالات المجردة والشكلية حول استقلالية النقابات التي لا يزال اليسار المصري منغمسًا فيها بلا كلل.
خبرات البرازيل وجنوب أفريقيا:
النقابات لا تنشأ في فراغ، وإنما في سياق ظروف تاريخية محددة. وتترك هذه الظروف آثارًا عميقة على طبيعتها وبالتالي على إمكانيات وأساليب العمل الثوري داخلها. في كتابهما الماركسية والنضال النقابي (1986 انتقد الاشتراكيان الثوريان البريطانيان توني كليف ودوني جلاكشتاين النظرة التبسيطية الدارجة حول النقابات بالكلمات الآتية: (..غالبًا عندما يكتب الناس عن النقابات العمالية – ولا يستثنى من هذا العديد من الماركسيين – فإنهم يصورونها على أنها ثابتة وخارج التيار المتغير للتاريخ. ولكن الحقيقة هي أن هناك أنواع عديدة ومتنوعة من النقابات. وهي تتغير طوال الوقت. ولكن في الأساس فإن طبيعة وطريقة عمل النقابات تتحدد بما إذا كانت قد نشأت في خضم مرحلة ثورية أو ظهرت في سياق مرحلة “طبيعية” للرأسمالية..)
نشأت النقابات الجديدة المستقلة في البرازيل في أعقاب موجة الإضرابات العارمة التي هزت البلاد في الفترة من 1987 وقد خرجت قيادات هذه النقابات من أوساط عناصر نقابية إصلاحية اختارت، في أعوام القمع السابقة على موجة المد، أن تعمل من داخل النقابات الرجعية والمحافظة الموجودة بغرض إصلاحها من الداخل عن طريق التحالف مع بعض القيادات ثم الوصول إلى مواقع أعلى فأعلى في الهيكل النقابي. وبالطبع تركزت هذه العناصر الإصلاحية وحققت نجاحاتها في المناطق التي كان تراث وتغلغل البيروقراطية النقابية المحافظة فيها محدودًا – المناطق الصناعية الجديدة التي تتركز فيها الاستثمارات العالمية الضخمة. وجنبًا إلى جنب مع النقابات الجديدة ظهرت في أعوام المد أشكال قاعدية للتنظيم العمالي هي المجالس المصنعية مباشرة من العمال والتي لا تخضع – كالنقابات – لأي روتين بيروقراطي أو تراتبية تنظيمية. وقد ارتبطت هذه المجالس ارتباط وثيق بالعناصر النقابية الجذرية التي رفضت منطق الإصلاح من الداخل وركزت على النشاط القاعدي من أسفل، وهي العناصر التي استطاعت أن تحقق أكبر نجاح لها في المناطق التي سيطرت فيها البيروقراطية النقابية المحافظة الموالية للدولة سيطرة كلية، وذلك لأن الإصلاح من الداخل لم يكن خيارًا ممكنًا في هذا المناطق في حين كانت هناك حاجة ملحة لدى العمال لتنظيم حركتهم المتصاعدة ضد الدولة وأصحاب الأعمال والنقابات المتواطئة.
كان من المحتم أن تتصادم التيارات الإصلاحية مع التيارات الجذرية في الحركة العمالية البرازيلية الناهضة. النقابات المستقلة الناشئة كان خطوة كبيرة للأمام بالنظر إلى التاريخ السابق حينما كانت النقابات تابعة للدولة وخاضعة لقيود هائلة في ظل اتحاد نقابات أصفر ومتواطئ شبيه باتحادنا المصري. ولكن القيادات الإصلاحية التي انشقت في ظروف المد عن نقابات الدولة واتخذت خطًا نضاليًا كانت، في نهاية المطاف، بيروقراطية نقابية تنتمي إلى فئة اجتماعية وظيفتها هي القيام بدور الوسيط المفاوض بين العمال والرأسماليين. ولذلك فعندما أسس الإصلاحيون في عام 1983 اتحاد جديد مستقل للنقابات سعوا للسيطرة على مجالس المصانع القاعدية ولتحجيمها في دور المساعد للإتحاد الجديد. وفي غضون فترة قصيرة بدأت تظهر داخل الاتحاد المستقل نزعات قوية لكبح الحركة من أسفل وللهيمنة على الأشكال القاعدية. تأثير هذه النزعات كان قويًا، وضررها على الحركة العمالية كان فادحًا بالضبط لأن القيادات الإصلاحية حازت ثقة العمال بسبب تاريخها النضالي المشرف. وقد ضاعف من حجم الكارثة أن قيادات الحركة القاعدية لم تكن مهيأة سياسيًا لمقاومة الإصلاحية – إذ لم يكن لديها تنظيم سياسي مستقل يجمع أفضل المناضلين ويربط نضالهم الاقتصادي بالنضال السياسي من أجل الاشتراكية.
تلك كانت ظروف نشأة النقابات المستقلة في البرازيل. وتجربة جنوب أفريقيا لا تختلف كثيرًا. إذ كان للنقابات المستقلة وأهمها اتحاد عمال جنوب أفريقيا (كوساتو) دورًا مركزيًا في إيصال قادة المؤتمر الوطني الأفريقي إلى السلطة على أنقاض النظام العنصري. لعب كوساتو دور التابع الخاضع لقيادة المؤتمر البرجوازية، واستطاع أن يوجه الطاقة النضالية لدى العمال لا في اتجاه الثورة وإنما في اتجاه الحل الوسط الذي يمثله نلسون مانديلا، هذا بالرغم من أن العمال لم يناضلوا فقط ضد الاضطهاد العنصري وإنما أيضًا ضد الاستغلال الطبقي. أما الحركة القاعدية – شبيهة الحركة في البرازيل – فقط استطاعت أن تحمي تماسك الطبقة العاملة إزاء الإحباط الذي تلي استيلاء المؤتمر على السلطة، ولكنها لم تستطع أن تؤسس لبديل طبقي لنظام مانديلا وحلفائه. والسبب هو نفس السبب في الحالة البرازيلية: لا يمكن للحركة القاعدية أن تحجم من دور الإصلاحية على أساس من نشاطها وحده؛ لا بد من بديل سياسي ثوري منغمس في تلك الحركة وقادر على إتباع التكتيكات الصحيحة لكسب ثقة قطاعات أوسع من الطبقة العاملة.
النقابات في مصر
حتى اليوم لم يحدث في مصر مثلما حدث في البرازيل أو جنوب أفريقيا. إذ لا تزال الطبقة العاملة ساكنة ولا يزال ميزان الصراع الطبقي في صالح البرجوازية. ولكن ما حدث في دول أخرى يعطينا صورة عما يمكن أن يحدث في مستقبلنا. ولذلك هناك ضرورة أن نقرأ تجربتنا على ضوئه.
تاريخيًا كانت النقابات تنشأ في مصر غالبًا في موجات المد. أول نقابة أسست في مصر كانت نقابة لفافي السجائر العاملين في شركات الدخان. تلك كانت نقابة لعمال مهرة أجانب مما جعلها أقرب إلى نقابة حرفية ذات طابع محدود وضيق. وقد اندثرت هذه النقابة عندما فقد لفافي السجائر وضعهم المتميز كحرفيين مهرة مع التطور التكنولوجي الذي أصاب الصناعة. ولكن البداية الحقيقية للنقابات كانت مع موجة المد في الفترة من 1908 إلى 1911 حيث أنشئ عدد من النقابات أهمها كان نقابة الصنائع اليدوية التي أسسها رجال الحزب الوطني بزعامة محمد فريد. ومع الموجات المتتالية للمد، خاصة في سياق ثورة 1919 وفي الأربعينات، كانت السماء – على حد قول إحدى الصحف – تمطر نقابات. وهي نقابات تنافست الأحزاب، بما فيها الأحزاب البرجوازية على السيطرة عليها، ولكنها كانت في معظمها قريبة من المنظمات الشيوعية كما هي الحال دائمًا في الدول التي لا يكون فيها المجال واسع للإصلاحية. وقد أملى الشيوعيين في الأربعينات خطهم الوطني المهادن على النقابات المرتبطة بهم، ولكن بالرغم من ذلك كانت تلك النقابات – بالمعايير العالمية – ذات طبيعة جذرية تعكس الظروف التي نشأت فيها. ومن الملاحظ أن الحركة العمالية المصرية في النصف الأول من القرن الأول من القرن العشرين لم تخلق منظمات قاعدية كالمجالس العمالية البرازيلية جنبًا إلى جنب مع النقابات. وهو أمر يمكن فهمه في سياق عدم وجود بيروقراطية نقابية إصلاحية عتيدة تنشأ من المجالس لمقاومتها – كانت النقابات الموجودة كافية من وجهة نظر احتياجات العمال في النضال الاقتصادي.
في النصف الثاني من القرن العشرين – وفي ظل النظام الناصري – نشأت البيروقراطية النقابية العتيدة، وقد أتقنت هذه البيروقراطية عملها وتوسعت سلطويتها في عهدي أنور السادات وحسني مبارك. ولكن بيروقراطية النقابات المصرية، مثلها في ذلك مثل بيروقراطية نقابات البرازيل الصفراء قبل موجة المد في أواخر السبعينات، كانت مختلفة كثيرًا عن البيروقراطية النقابية في الديمقراطيات البرجوازية في أوروبا وأمريكا الشمالية. البيروقراطية المصرية كانت ولا زالت مندمجة في جهاز الدولة ومنفصلة تمامًا عن القاعدة العمالية. وعلى عكس القيادات النقابية في الدول الديمقراطية لا تحتاج القيادات النقابية في مصر إلى إظهار وجهًا نضاليًا من آن لآخر للاحتفاظ بقاعدتها العمالية أو لتوسيعها وذلك لأنه لا توجد منافسة من نقابات أخرى، ولأن عضوية النقابات شبه جبرية، والاشتراك النقابي يخصم من المنبع بواسطة الإدارة. ومعنى ذلك أن الشرعية النقابية البيروقراطية محصنة – في ظل ظروف تراجع النضال العمالي – ضد التأثر بتقلبات مزاج الجماهير العمالية وانصرافها عن النقابات. ومعناه أيضًا أن القيادات النقابية مدينة بوجودها واستمرارها لجهاز الدولة خالق هذه النقابات وحاميها، خاصة وأن الانتخابات النقابية في المستويات العليا تخضع لألاعيب التربيطات والتوازنات ولا تخضع للتأثير من أسفل، وأنه لا توجد صفة حقيقية للمستوى الأدنى في الهيكل النقابي وهو ما يعني أن القمة مسيطرة على القاعدة.
البيروقراطية تهتز
ليس من الممكن توقع تفاصيل أو توقيتات التغيير القادم في مصر، ولكن من المؤكد أن هناك عوامل عديدة تتجمع تحت السطح ستدفع في اتجاه تكرار سيناريو البرازيل وجنوب أفريقيا في حالة مد قادم، ولكن مع بعض الاختلافات. أول هذه العوامل هو بروز قطاعات جديدة في الطبقة العاملة في القطاع الخاص الصناعي الذي انتعش نسبيًا في عهد مبارك. في المدن الصناعية الجديدة هناك 200 ألف عامل أو أكثر ظهروا في العقود القليلة الأخيرة. وفي قطاع الخدمات والسياحة هناك مئات الآلاف من العمال. هذه القطاعات الحديثة خارجة عن نطاق سيطرة بيروقراطية الاتحاد العام للعمال، ولا وجود للتنظيم النقابي بها. وهي أرض خصبة لظهور النقابات مع مد قادم بالرغم من ضعف خبرتها ونقص استعدادها. وبالطبع لن يكون ظهور النقابات في هذا القطاع متساويًا. فالمصانع الأكبر ذات العمالة الأكثر استقرارًا وتعليمًا (مصانع السيارات على سبيل المثال) ستكون مهيأة أكثر بسبب استعدادها النضالي، لتنظيم نفسها.
ثاني العوامل هو اهتزاز وظهور بوادر تغير علاقة البيروقراطية النقابية بكل من الدولة والقاعدة العمالية مع إتباع البرجوازية المصرية لسياسة الهجوم على مستويات معيشة العمال. فمن ناحية أولى ظهر واضحًا بدءًا من السبعينات وبشكل متزايد حتى اليوم أن البيروقراطية النقابية غير قادرة على احتواء الحركة العمالية من أسفل. حتى اليوم لا توجد خطورة لأن هناك جزر في الصراع الطبقي. ولكن المؤشرات واضحة: معظم النضالات العمالية تتم خارج – بل وضد – أطر الشرعية النقابية. وهذا معناه فشل النقابات في أداء دورها كوسادة لامتصاص الصدمات من أسفل ولمنعها من إصابة الهدف. والعنصر الذي يتدخل لملئ الفراغ الذي تتركه النقابات هو القمع السافر في صورة وزارة الداخلية وأجهزتها. وهو الأمر الذي لا يمكن أن يستمر طويلاً خاصة عندما يرتفع مستوى الصراع الطبقي. أما عن علاقة النقابات بالدولة فهي الأخرى تتعرض لهزة بسبب الخصخصة. معظم القيادات النقابية في النقابات العامة والاتحاد العام تأتي من القطاع العام، وبيع الشركات سيضعها في موقف أضعف ليس فقط بسبب الضغط من أسفل الذي سيحدثه سوء أحوال العمال. وإنما أيضًا السبب وجود إدارة جديدة ستميل إلى سحب البساط من تحت نقابيين يمثلون عبئًا عليها في سحبها لتخفيض تكلفة قوة العمل.
العامل الثالث الذي يتجمع تحت السطح هو انحدار أحوال القطاعات الأحسن وضعًا في الطبقة العاملة، كعمال الصناعات الهندسية – بالذات في القطاع العام. هؤلاء هم أكثر العمال نضالية في الطبقة العاملة المصرية. وتدهور أحوالهم يخلق موجات من السخط – وهم مؤهلين لقيادة حركة ناهضة قادمة بسبب خبراتهم ومستوى تعليمهم ودرجة تنظيمهم.
مستقبلنا في مرآة الآخرين:
حتى اليوم كانت الدولة تواجه فشل النقابات في أداء دورها في السيطرة على الحركة العمالية بالقمع وبزيادة درجة سلطوية الجهاز النقابي. ولكن هذا التكتيك غير ممكن إلا في ظروف الجزر فقط. ولذلك فمع موجة مد قادم ستنشأ ضغوط هائلة من أسفل على الجهاز النقابي ستدفعه لتغيير جلده. وغالبًا ما سيكون التغيير عن طريق تحول الاتحاد العام للنقابات من جهاز مندمج في الدولة وخاضع لها تمامًا وغير مرتبط بالقواعد، إلى الشكل النقابي التقليدي في الدول الليبرالية – أي إلى نقابة تقليدية يمينية. هذا بالضبط ما حدث في كوريا في السنوات الأخيرة لاتحاد النقابات الرسمي الذي كان على شاكلة اتحادنا المصري ثم أجبرته الأحداث على تجميل نفسه وإلا فقد أي معنى لوجوده. وقد يؤدي الضغط من أسفل – إذا ما توافرت عناصر نقابية إصلاحية مؤثرة في الداخل كما حالة البرازيل إلى انقسام الاتحاد المصري عن طريق انشقاق التيار الأكثر جذرية لتأسيس نقابات مستقلة ستتركز غالبًا في المصانع التي تكون فيها قبضة الاتحاد ضعيفة.
وبغض النظر عن الشكل الذي ستظهر به النقابية الإصلاحية في مصر في حالة مد قادم، وبغض النظر عن مدى انتهازيتها أو جذريتها، فالأمر المهم هو أن ظهورها في حكم المؤكد بالنظر إلى دروس التجارب في الدول المشابهة. نقول هذا وفي ذهننا أن هناك ميل مدمر لدى الثوريين للتقليل من خطر الإصلاحية ومن تأثيرها على الجماهير العمالية. إن تأثير الإصلاحية على مسار المعارك الطبقية المقبلة سيعتمد على عدد من العوامل أهمهم هو درجة قوة البديل القاعدي (لجان المصانع أو لجان المندوبين بالتسمية المصرية)، ودرجة تأثير وصحة تكتيكات المنظمات الاشتراكية الثورية. لن يكون أمام الثوريين لمواجهة خطر الإصلاحية إلا التركيز على البديل القاعدي وزيادة درجة تنظيمه وفاعليته والنضال السياسي داخله لتسليحه ضد الإصلاحيين ومراوغاتهم. لن تكون لجان المصانع بالطبع قابلة للتحول إلى جنين السلطة الثورية إلا في ظل ظروف ثورية، ولكن حتى في تلك اللجان ذات الوظيفة الاقتصادية أساسًا التي تنشأ في ظروف مد غير ثورية من واجب الثوريين النضال السياسي داخلها. ولا يعني التركيز على البديل القاعدي إهمال العمل في النقابات، على العكس. فطالما أن النقابية الإصلاحية لها جذور في أوساط العمال لن يكون هناك مفر من العمل الدؤوب داخل النقابات، ليس بالتعارض مع النضال القاعدي وإنما باستخدام هذا النضال ذاته في الضغط على النقابيين لمصلحة تنشيط الجماهير العمالية. والنتيجة ستكون سحب البساط من تحت أقدام الإصلاحيين وكسب الجماهير إلى صفوف الثوريين. فوفقًا لنصيحة تروتسكي ينبغي على الثوريين أن يكونوا (..مع الجماهير دائمًا؛ ومع القيادات (النقابية) المتذبذبة أحيانًا، ولكن فقط بمقدار وقوفهم على رأس حركة الجماهير. إنه من الضروري الاستفادة من القيادات المتذبذبة في الوقت الذي تدفعهم فيه للأمام، ولكن بدون التخلي للحظة واحدة عن نقد هذه القيادات..).
ما العمل؟
في ظروف المد إذن سيكون على الثوريين التركيز على البديل القاعدي كمركز ونقطة انطلاق للأنشطة في كافة المجالات. ولكن في ظروف الجزر الراهنة حيث لا توجد لجان مصنعية يستطيع الثوريون الارتباط بها ماذا يمكن أن يكون العمل؟ تيارات عديدة من اليساريين تطرح شعار النقابات المستقلة حل ممكن. على أن هذا شعار ملتبس وغير واضح ومعناه يختلف من تيار إلى آخر. البعض يرى أن الطريق إلى النقابات المستقلة هو العمل الإصلاحي من داخل إطار النقابات القائمة. هؤلاء يركزون على إيجاد منفذ لهم داخل الهيكل النقابي من خلال التربيطات والتحالفات المعقدة مع عناصر من البيروقراطية، وغالبًا ما يجذبهم وهم أن تغيير النقابات ممكن اليوم فينسون العمل القاعدي وشيئًا فشيء يفسدون ويصبحون بيروقراطيين وهو أمر سهل في ظل ظروف الجذر الراهنة. البعض الآخر يقلب الآية ويطرح بنفاذ صبر واضح أن هناك ضرورة لتكوين النقابات المستقلة فورًا كما لو أنه من الممكن تكوين النقابات المستقلة بالأمر وبدون أن تكون الجماهير مستعدة لتبني هذا البديل.
المعضلة الحقيقية في شعار النقابات المستقلة كما هو مطروح اليوم هي أنه لا يوضح الفارق – والعلاقة – بين النقابة المستقلة حتى لو كانت ممكنة هي في نهاية المطاف نقابة لها بيروقراطية وغير خاضعة مباشرة للعمال، وتنظيمها يتم من أعلى لأسفل مهما كانت ديمقراطية. وهذا بالضبط ما يعطي للجان المصنعية دورها المركزي بالنسبة للثوريين الذين يؤون أن التغيير – سواء إصلاح أو ثورة – لا يمكن أن يتم بدون الحركة المنظمة الواعية لجماهير العمال. فهذه اللجان هي التي في مقدورها – إذا ما كانت قوية ومسلحة سياسيًا – أن تكبح الميول البيروقراطية في أي نوع من النقابات. بل إنها هي التي في مقدورها أن تجعل النقابات المستقلة أكثر ديمقراطية وقاعدية بالضغط من أسفل. وعلى وجه العموم ينبغي أن نتذكر أن النقابات لا يمكن أن تصبح ثورية بشكل كامل إلا أثناء الثورة أو بعدها، وهذا لأن تحطيم البيروقراطية يحتاج – على الأقل – إلى ثورة.
وعندما لا يكون ممكنًا – بسبب تراجع الحركة العمالية – تكوين نقابات مستقلة أو لجان مصنعية، فإن على الثوريين أن لا يفقدوا بوصلة العمل القاعدي برغم ما يعنيه هذا من مصاعب. في هذه الظروف على الثوريين – خاصة وأن عددهم محدود وصلاتهم العمالية شديدة الضعف – أن يتبعوا سياسة شديدة المرونة في إطار مركزية الحركة القاعدية. وعليهم أن يحذروا الوقوع في منزلق تدبير مؤامرات الأقلية لإنشاء النقابات المستقلة فورًا، أو لبناء الحركة القاعدية بالأمر.
إن علينا أن تتبع مناطق القوة في الحركة العمالية لا مناطق الضعف. في المناطق الصناعية الجديدة – في المصانع الكبرى ذات العمالة الممركزة والمتعلمة ومحدودة الأصول الريفية – بكون تكوين النقابات داخل إطار الاتحاد الأصفر القائم خطوة إلى الأمام. وذلك لأنه يعني مكسبًا في حد ذاته، ولأنه – وهذا هو المركزي من منظورنا – يعني تنشيطًا للعمال وتحريكًا لسكونهم في معركة ضد الإدارة لانتزاع الحق، ثم في معركة انتخابية لاختيار مجلس النقابة ..الخ. الأمر الأساسي هذا هو أن يكون تأسيس النقابة مجالاً لنشاط جماهيري عمالي لا مجالاً لنشاط الأقلية في كتابة المذكرات ورفع القضايا. والمفارقة هي أن تأسيس نقابة مصنع موالية للعمال يكون – في جانب منه – أكثر سهولة في هذا المصانع (كلها مصانع قطاع خاص) لأن وجود بيروقراطية الاتحاد العام منعدم وتأثيرها ضعيف.
أما في القلاع الكبرى للقطاع العام – في المصانع التي تضم آلاف العمال ذوي التاريخ النضالي – فإن تناقضات الخصخصة تدفع القاعدة العمالية للتحرك من آن لآخر في احتجاجات لا يستطيع أن يحتويها أو يخمدها الاتحاد العام. هنا تبرز أحيانًا – أثناء وعقب الاحتجاجات – إمكانية تنشيط لجان إضراب أو مندوبين أو أي أشكال قاعدية أخرى. هذه الأشكال ظهرت قليلاً في مصر في بعض الفترات في السبعينات، وكانت تنشأ غالبًا في الأقسام المتقدمة من عمال القطاع العام (عمال الصناعات الهندسية مثلاً). وعندما تظهر مقبلاً ستتركز هذه القطاعات أيضًا.
هل يمكن للثوريين أن يلعبوا دور في تكوين النقابات أو اللجان القاعدية التي يمكن أن تنشأ بصعوبة في ظل ظروف القمع والتراجع؟ هل يمكن لحفنة محدودة أن ترتبط بهذه الأشكال وتخلق الصلات داخلها. نعم ممكن ولكن بشق الأنفس وبالعمل الدؤوب. ولكن شرط هذا هو أولاً عدم فقدان بوصلة العمل القاعدي، وثانيًا تسليح كوادرنا والعناصر التي ترتبط بها في أوساط العمال برؤية سياسية وتكتيك ثوري. فلن يرتبط بنا عناصر عمالية متزايدة – ولن نصبح منظمة ثورية تستحق هذا الاسم – إلا بمقدار ما نوضح الصلة بين ما يحدث في المصانع وما يحدث في المجتمع وما يحدث في العالم، وبمقدار ما نوضح ما الذي يعنيه الخيار الاشتراكي اليوم من أساليب للعمل والحركة.
إن جوهر المنظور الذي تدافع عنه الشرارة هو اختيار واختبار شعارات وأساليب للحركة تنبع من تحليل ظروف الواقع وصراعاته ولا تنبع بشكل مباشر – وإنما فقط تهتدي – بالمبادئ الثورية. ولكي يصح هذا المنظور لا بد أن لا ينسى الثوريون أنهم ثوريون وليسوا مجرد نقابيون شرفاء. فعندما يتحرك العمال من أسفل في معركة من أجل مطلب أو نقابة لا يصبحون ثوريون. وحتى يصبحوا ثوريون علينا نحن أن نجذبهم إلى صف الاشتراكية. وهذا لا يكون أساسًا بالدعاية المبدئية المجردة، وإنما يربط معركتهم بالصراع الطبقي الشامل وبإمكانيات الاشتراكية، وبتسليحهم بالقدرة على خوض هذه المعركة من منظور ثوري.