الاشتراكية
لم يتعرض مذهب سياسي أو اجتماعي أو فكرة للتشويه والافتراءات مثلما حدث للاشتراكية. تشويه بدأ منذ ظهورها واستمر حتى الآن خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي ودول الكتلة الشرقية التي كانت ترفع كذبًا لواء الاشتراكية. ونتيجة لهذا التحريف والتشويه والادعاءات التي تعرضت لها الاشتراكية أصبح من الضروري إزالة الالتباسات والرد على الادعاءات من أول تلك التي تقول بخياليتها وعدم إمكانية تحقيقها حتى تلك التي تقول بأنها قد تحققت بالفعل ولم تجلب معها سوى مزيد من التعاسة والشقاء والاستغلال وهي الادعاءات التي تنتهي جميعها إلى عدم ضرورة الاشتراكية.
إن فهم المعنى الحقيقي للاشتراكية وجوهرها لن يتأتى إلا بتتبع التطور التاريخي للاشتراكية والظروف التي أدت إلى ظهورها. الاشتراكية الحديثة وهي من ناحية نتاج إدراك العداء الطبقي الموجود في المجتمع بين الملاك والمعدمين.. بين الرأسماليين والعمال، ومن ناحية ثانية إدراك الفوضى الموجودة في عملية الإنتاج. أما في شكلها النظري فالاشتراكية الحديثة تظهر كامتداد منطقي للمبادئ التي وضعها الفلاسفة الفرنسيون الذين ظهروا في القرن الـ18. ولأن هؤلاء الفلاسفة العظام لم يكن في مقدورهم تجاوز الحقائق المادية لعصرهم، فكانت مبادؤهم تعبيرًا مثاليًا عن المجتمع البرجوازي المنشود في مقابل الإقطاع. ولذلك كانوا ينادون بمملكة العقل ورفض أي سلطة خارجية سواء دينية أم سياسية أم غيرها. ورغم دعوتهم لتحرير البشرية كلها إلا أنهم في الواقع كانوا معبرين عن مصالح البرجوازية الوليدة ضد النبلاء الإقطاعيين.
وبانتصار البرجوازية وإقامتها لمجتمع العقل والعدالة الأبدية المدعي ثبت كذب هذا المجتمع. فبدلاً من تحرير البشرية كلها كما كان يريد هؤلاء الفلاسفة أدى انتصار البرجوازية لمزيد من الشقاء حيث كان تطور الصناعة على أسس رأسمالية وإزالة المؤسسات الإقطاعية وإفساح الطريق للبرجوازية مدعاة لمزيد من الاستغلال.
وبتغيير الظروف المادية ظهرت الطوباوية التي كانت انعكاسًا لسقوط جماعة العقل التي بشر بها الفلاسفة الفرنسيون. وكان أهم منظري الطوباوية ثلاثة من الفلاسفة العظماء هم سان سيمون، فورييه وأوين. وعلى الرغم من أن هذه الفترة شهدت تطورًا في النظام الرأسمالي إلا أنه كان تطورًا ضئيلاً فكانت الصناعة الحديثة قد بدأت لتوها في إنجلترا ولم تكن معروفة في فرنسا بعد. وبسبب عدم بلوغ النظام الرأسمالي تطوره الكامل لم يتطور أيضًا العداء أو الصراع بين البرجوازية والبروليتاريا.
كانت الصناعة الحديثة ما زالت في مرحلة التكوين وبالتالي لم تتطور بعد الصراعات التي تجعل من الحتمي حدوث ثورة في نظام الإنتاج والقضاء على طبيعته الرأسمالية ومن ناحية أخرى لم تتطور بعد وسائل إنهاء تلك الصراعات والقضاء على الرأسمالية. وهكذا إذا كانت سنة 1800 قد شهدت بدايات الصراعات الناتجة من النظام الاجتماعي الجديد فهذا ينطبق أيضًا على وسائل إنهاء هذه الصراعات.
هذا هو الظرف التاريخي الذي كان مسيطرًا على مؤسسي الاشتراكية الطوباوية. فظروف الإنتاج الرأسمالي غير المكتملة والظروف الطبقية غير المكتملة أيضًا يؤديان لنظريات غير مكتملة. بالتالي حاول الطوباويون استخراج حل المشاكل الاجتماعية الكامن في الظروف الاقتصادية من العقل البشري وحده وهو ما أنتج بطبيعة الحال نظريات خيالية ومثالية. فلم يستطع الطوباويون اكتشاف الطبقة القادرة على تحقيق المجتمع الاشتراكي الحقيقي والواقعي لسبب بسيط هو أن هذه الطبقة لم يكن قد اكتمل نموها بعد ولم تكتشف نفسها كطبقة قادرة على إحداث التغيير ولم تكتشف بعد القوة الكامنة داخلها. بالتالي أنتج الطوباويون نظريات محلقة في السماء وليست مستمدة من الإمكانيات الواقعية.
لكن مع بدء الصراعات العمالية في عام 1831 في ليون بفرنسا وحركة “الشارتيست” في إنجلترا أصبح الصراع الطبقي بين البرجوازية والبروليتاريا في الضوء بالتوازي مع التقدم في الصناعة الحديثة والسيادة السياسية للبرجوازية. هذه الحقائق الجديدة جعلت من الممكن دراسة التاريخ بشكل مختلف. حيث أصبح من الممكن رؤية التاريخ القديم باستثناء مراحله البدائية كتاريخ للصراع الطبقي وإدراك أن الطبقات المتصارعة في المجتمع هي دائمًا نتاج للظروف الاقتصادية السائدة، وأن البناء الاقتصادي للمجتمع دائمًا يمثل القاعدة الحقيقية التي يمكن من خلالها إيجاد فهم حقيقي للبنية الفوقية لمؤسسات المجتمع وأفكاره في أي فترة تاريخية.
لقد كان ظهور البروليتاريا كطبقة في ظل ظروف الإنتاج الرأسمالي المكتملة ومعاناتها من الاستغلال هو العامل الرئيسي والحاسم المؤدي لظهور الاشتراكية في شكلها العلمي الحديث. فمنذ ذلك الوقت لم تعد الاشتراكية اكتشاف بالصدفة لبعض العقول الذكية ولكن نتيجة حتمية للصراع بين طبقتين متطورتين تاريخيًا هما البروليتاريا والبرجوازية. ولم يعد دور الاشتراكية هو إنشاء نظام للمجتمع المثالي قدر الإمكان ولكن دراسة التتابع التاريخي الاقتصادي للأحداث التي تنشأ فيها الطبقات والعداء بينها وأن تكتشف في الظروف التاريخية التي خلقت بسببها وسائل إنهاء هذا الصراع.
لقد انتقد الاشتراكيون الأوائل النظام الرأسمالي ونتائجه لكن اشتراكيتهم لم تستطع تفسير كيف يحدث ولماذا يحدث وكيف بدأ. لتستطيع الاشتراكية فهم هذه الأسئلة كان من الضروري رؤية النظام الرأسمالي في الإنتاج في علاقاته وحتميته خلال فترة تاريخية معينة، وبالتالي أيضًا التنبؤ بإمكانيات سقوطه. هذا هو ما حققه اكتشاف فائض القيمة، حيث أظهر أن امتلاك العمل غير المدفوع هو أساس النظام الرأسمالي للإنتاج ولاستغلال العمال الذي يحدث من خلال هذا النظام. وهكذا تم تفسير جوهر الإنتاج الرأسمالي. ويعود الفضل في هذا الفهم للرأسمالية لكارل ماركس وفريدريك انجلز الذين كانا مؤسسي الاشتراكية العلمية.
وترتكز الاشتراكية العلمية على الفهم المادي للتاريخ الذي يبدأ من افتراض أن إنتاج وسائل الإعاشة هو أساس كل تكوين اجتماعي. وفي كل المجتمعات التي ظهرت في التاريخ تعتمد طريقة توزيع الثروة والتي ينقسم فيها المجتمع إلى طبقات على ما يتم إنتاجه وكيف يتم تبادل المنتجات. ومن وجهة النظر هذه فإن أسباب التغيير الاجتماعي والثورات السياسية يجب أن يتم البحث عنها ليس في العقول ولكن في التغييرات التي تحدث في وسائل الإنتاج. فعندما يتغير نظام الإنتاج لا تصبح المؤسسات والعلاقات الاجتماعية التي كانت موجودة في النظام السابق صالحة ولا مناسبة لنظام الإنتاج الجديد. وهو ما يعني أيضًا أن إمكانية وأسلوب التخلص من هذا الوضع غير المتناسق وغير الملائم موجود داخل نظام الإنتاج المتغير نفسه. أين إذن يوجد هذا التناقض في النظام الرأسمالي الحالي؟
قبل تطور الإنتاج الرأسمالي كان نظام الإنتاج الصغير يعتمد على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج . وكانت أدوات الإنتاج وسائل فردية، ولذلك كانت ملكية وسائل الإنتاج للمنتج ذاته. وكان أثر الإنتاج الرأسمالي والبرجوازية منذ القرن الخامس عشر تركيز وسائل الإنتاج المتناثرة والمحدودة لتحويلها لأدوات قوية للإنتاج وهو ما تم خلال ثلاثة مراحل آخرها الصناعة الحديثة. لكن البرجوازية لم تكن تستطيع تحويل وسائل الإنتاج الضعيفة هذه إلى قوى إنتاجية ضخمة بدون تحويلها في الوقت نفسه من وسائل إنتاج فردية إلى وسائل إنتاج اجتماعية يمكن استخدامها أو العمل بها فقط عن طريق مجموعة عمال صغيرة أي بدون تعاون مئات أو آلاف العمال. والإنتاج نفسه تحول من سلسلة أفراد إلى سلسلة من الأفعال الاجتماعية والمنتجات من منتجات فردية إلى منتجات اجتماعية.
ولكن في الوقت الذي تم فيه تركيز وسائل الإنتاج والمنتجين في مصانع كبيرة وتحويل الإنتاج إلى إنتاج اجتماعي استمرت معاملة المنتجين والمنتجات بعد هذا التحول كما كان يتم التعامل معهم من قبل كوسائل إنتاج ومنتجات فردية. فقبل ذلك كان مالك وسائل الإنتاج يستحوذ على المنتجات لأنها من صنعه وكان الاستثناء أن يساعده أحد في عملية الإنتاج أما مع تركيز وسائل الإنتاج فقد تغير الوضع حيث أصبح مالك وسائل الإنتاج ليس هو العامل، ومع ذلك فقد استمر يحصل على المنتج بالرغم من أنه لم يصنعه، وبالرغم من أنه نتيجة عمل جماعي لمجموعة من العمال. وهكذا فالمنتجات التي يتم إنتاجها الآن بشكل جماعي لا يحصل عليها منتجوها ولكن الرأسماليين. فرغم تحول العمل ووسائل الإنتاج هذا ليصبحا اجتماعيين في الجوهر تم إخضاعها لشكل تملك فردي يفترض أن الإنتاج يتم بشكل فردي.
هذا التناقض الذي يعطي لأسلوب الإنتاج هذا طبيعته الرأسمالية يحتوي داخله على بذرة التنافر (العداء) الاجتماعي الموجود اليوم. إن هذا التناقض بين الإنتاج الاجتماعي والاستحواذ الرأسمالي يظهر نفسه كعلاقة عداء بين البرجوازية والبروليتاريا وهو ما يميز النظام الرأسمالي. أما الأمر الآخر الذي تتميز به الرأسمالية فهو إنها نظام عالمي، فبتطور الرأسمالية ونموها تحتاج لفتح أسواق جديدة لتصريف منتجاتها وهو ما أدى إلى فتحها لأسواق جديدة وبالتالي لغزوها للعالم كله.
سيادة نظام اقتصادي واحد يؤدي بطبيعة الحال إلى تقارب الظروف والبنى الفوقية في الدول المختلفة من ناحية وإلى مزيد من التقارب بين عمال العالم من ناحية أخرى. إن الرأسمالية قد جعلت من العمال في كل مكان طبقة واحدة تجمعها مصالح مشتركة هي القضاء على الرأسمالية مثلما جعلت من أصحاب رأس المال طبقة واحدة ذات مصالح مشتركة.
إن هذا التناقض الذي يمثل جوهر النظام الرأسمالي (بين الطابع الاجتماعي لعملية الإنتاج والفردي للملكية) هو ما يجعل الثورة الاشتراكية ممكنة. وهو ما ينفي عن الاشتراكية الاتهام بأنها نظرية خيالية. فالثورة الاشتراكية وإقامة المجتمع الاشتراكي في ظل هذا الفهم الواقعي للتاريخ تجعل من الاشتراكية إمكانية بل وضرورة. فاستمرار المجتمع الرأسمالي يعني استمرار الاستغلال ويعني المزيد من البؤس للبشرية. ولكن في ظل الإمكانيات المتاحة والكامنة في الطبقة العاملة تصبح الاشتراكية ممكنة والطبقة العاملة هي الطبقة القادرة على إقامة المجتمع الاشتراكي.
أما الانتقاد الآخر الذي يوجه للاشتراكية. وهو أنها قد جلبت الشقاء للشعوب التي طبقتها فهو أيضًا غير صحيح. فالنظر للإتحاد السوفيتي ودول الكتلة الشرقية على أنها دول استطاعت تحقيق الاشتراكية هو أمر غير صحيح. ففي أي من هذه الدول لم يمتلك العمال وسائل الإنتاج بل كانت الملكية للدولة وهو ما يجعل من النظام السائد فيها رأسمالية دولة وهو ما يعني استمرار الاستغلال. الفارق الوحيد هو أن المستغل كان الدولة وليس طبقة الرأسماليين الأفراد.
في النهاية تبقى الاشتراكية هي الحل الوحيد الممكن أمام البشرية لتجاوز تناقضاتها وهي أيضًا الخيار الوحيد أمام الطبقة العاملة. فالكفاح من أجل تحقيق المجتمع الاشتراكي هو الطريق الوحيد نحو تحررها وتحرر البشرية من الاستغلال والقمع.