“الثورة الدائمة”.. والربيع العربي

مستنداً إلى خبرة الثورة الروسية في 1905، طوّر الثوري الروسي ليون تروتسكي نظرية الثورة الدائمة التي وُضعت قيد التنفيذ العملي في موجة 1917 الثورية. وحتى بعد قرن من ذلك الحين، لا تزال هذه النظرية ترشدنا لفهم حدود الحاضر وفرص مستقبل الربيع العربي، بدءاً من التطور المركب واللامتكافئ للرأسمالية، مروراً بالدور المركزي للطبقة العاملة، إلى إمكانيات التغيير العالمي.
أوضح كارل ماركس كيف يمكن هزيمة الرأسمالية وتحقيق الاشتراكية، وكتب عن ضرورة تحقيق مستوى معين من التطور الاقتصادي، وعن نهوض أغلبية الطبقة العاملة القادرة على الإطاحة بالنظام القديم والتي بامتلاكها التطور الاقتصادي والاجتماعي يمكنها بناء مجتمع اشتراكي دائم. في حين اعتقد الكثير من الاشتراكيين في ذلك الحين أن على كل بلد أن يمر عبر مراحل محددة من التطور الاقتصادي والسياسي قبل أن تتمكن الطبقة العاملة فيه من قيادة ثورة اشتراكية. لكن ذلك التصور أدى إلى استنتاج ميكانيكي بأن فقط البلدان المتقدمة، مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا، هي التي ستشهد ثورات اشتراكية مبنية على مستوى تطور الصناعي والاجتماعي لديها.
وبناءاً عليه، بالنسبة لكثير من أولئك الاشتراكيين، لم تكن روسيا – ذات النظام القيصري الاستبدادي، والفلاحين الذين شكلوا أغلبية السكان، والطبقة العاملة التي كانت تعد بملايين قليلة – مرشحة بقدر كبير لتشهد ثورة بقيادة الطبقة العاملة. وحتى لينين والبلاشفة اعتقدوا ذلك أيضاً؛ فبينما لا يمكن للطبقة العاملة أن تثق بالبرجوازية وسيكون عليها بالضرورة أن تلعب الدور القيادي في الحركة الثورية، إلا أنها لن تشكل حكومة عمالية بل عليها في المقابل تنفيذ حزمة من الإصلاحات الديمقراطية التي ستمهد الطريق للنضال من أجل الاشتراكية في المستقبل. لكن بناءاً على الثورة الروسية الأولى في 1905، وضع ليون تروتسكي نظرية “الثورة الدائمة” قبل نحو 12 عاماً من الثورة الاشتراكية بقيادة الطبقة العاملة التي تعد روسيا البلد الأول (والوحيد) الذي يشهدها.
التطور المركب اللامتكافئ
وضعت نظرية الثورة الدائمة في اعتبارها التطور العالمي للرأسمالية، وفي مقابل المفهوم الميكانيكي التدرجي للثورة الاشتراكية الذي كان سائداً في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني الإصلاحي، شدد تروتسكي على ضرورة فهم النظام العالمي للرأسمالية من حيث تطوره المركب واللامتكافئ.
تتطور الرأسمالية بشكل مركب، بحيث تسير الاقتصادات الرأسمالية في البلدان المختلفة بمعدلات مختلفة في التطور. فالطبيعة التنافسية للرأسمالية وعملية التراكم، التي هي بمثابة المحرك الفعلي للنظام، تعني أن الاختلاف في معدل التطور بين الاقتصادات القومية – وداخلها – تصبح كبيرة. وفي نفس الوقت، تجمع الرأسمالية اقتصادات كافة البلدان في نظام عالمي مركب واحد.
ويمكننا أن نلاحظ هذا التطور المركب سواء في روسيا 1905 أو حتى في مصر 2012؛ حيث يتوازى الإنتاج الزراعي شبه البدائي بجانب الصناعات الأكثر حداثة – مثل مصنع بوتيلوف للتعدين في روسيا وقت الثورة، أو مصنع غزل المحلة في مصر.
وكما كتب تروتسكي، فإن التطور المركب واللامتكافئ “يسمح، أو بالأحرى يجبر على.. القفز على سلسلة كاملة من المراحل الوسيطة”.
الديمقراطية والطبقة العاملة
أما الاستنتاجات السياسية التي توصل إليها تروتسكي من ذلك، فهي أن الهياكل الاجتماعية والسياسية للبلدان المتأخرة تتأثر أيضاً بدخول هذه البلدان متأخراً لمسرح الرأسمالية العالمية. فلأن البرجوازية الروسية أوجدت طبقة عاملة متطورة رغم صغر حجمها، وتشابكت مع النظام الإمبريالي العالمي، فلم يكن بمقدورها أن تضطلع بالدور الثوري الذي قامت به البرجوازية الفرنسية في 1789 في الإطاحة بالإقطاع وتحقيق الاستقلال الوطني وتأسيس ديمقراطية برجوازية. والدور المحافظ للبرجوازية لا ينبثق فقط من مصالحها في النظام القائم، بل أيضاً من خوفها من أن تتجاوز الطبقة العاملة المتمردة حدود الإصلاحات الديمقراطية وأن تطرح سلطة بديلة في المقابل.
أكد تروتسكي على أن الطبقة الاجتماعية الوحيدة التي بإمكانها الاضطلاع بالدور القيادي في الثورة هي الطبقة العاملة. فالوضع الاستراتيجي لها في الاقتصاد وحقيقة أن نضالها من أجل تحسين ظروف المعيشة مرتبط بالضرورة بالديمقراطية، كان يعني أنه حتى وإن كانت تمثل نسبة صغيرة من السكان فيظل بإمكانها أن تقوم بدور قيادي وتقدمي، وبالتالي جذب جماهير الفلاحين والفئات المضطهدة من المجتمع.
وفي الربيع العربي، استعرضت الطبقة العاملة نفسها كقوة حاسمة في عدد من الزوايا. ففي تونس، كان دور اتحاد الشغل حاسماً في إسقاط زين العابدين بن علي. وفي مصر، زلزل اعتصام التحرير عرش مبارك لكن في النهاية سددت الإضرابات الجماهيرية للعمال في قطاعات الغزل والنسيج والموانئ وغيرها الضربة القاضية لمبارك وأسقطته. وفي المقابل، في بلدان مثل سوريا، يعد الافتقار إلى تدخل الطبقة العاملة كقوة منظمة عائقاً في طريق تطور الثورة.
أبرز الربيع العربي أيضاً عجز البرجوازية عن تحقيق مطالب “العيش والحرية والعدالة الاجتماعية”، وكذلك عجزها عن تحدي الإمبريالية. فبينما أتى محمد مرسي من جماعة الإخوان المسلمين إلى السلطة بديلاً عن مبارك، عمل على ترسيخ قبضة الجيش على الاقتصاد، وأكد على الولاء للولايات المتحدة وإسرائيل. وبالرغم من ترويج جماعة الإخوان لأنهم سيسيرون بالملايين لكسر الحصار على غزة، إلا أنه حينما هطلت الصواريخ الإسرائيلية كالأمطار على القطاع، لم يكن هناك رد فعل يُذكر من جانب الجماعة. وفي المقابل، من توجه بالتضامن مع الفلسطينيين رغم الحصار والقصف كانوا هم الاشتراكيين وغيرهم النشطاء.
وكما كتب الاشتراكي الثوري المصري حسام الحملاوي، بعد إسقاط مبارك بفترة قصيرة: “علينا أن نأخذ التحرير إلى المصانع. وبينما تستمر الثورة، حتمياً سيحدث استقطاب طبقي. علينا أن نكون متيقظين؛ فنحن نمتلك مفاتيح تحرير المنطقة بأكملها وليس فقط مصر. علينا أن ننطلق إلى الأمام في ثورة دائمة ستضع جماهير هذا البلد في السلطة بديمقراطية من أسفل”. إن الاحتجاجات الراهنة ضد الإخوان المسلمين وتأسيس اتحاد للنقابات المستقلة تظهر بجلاء إمكانية المرحلة الثانية من الثورة المصرية التي لها بالتأكيد تبعات إقليمية وعالمية واسعة.
من الثورة الديمقراطية إلى الثورة الاجتماعية
وبينما تعجز البرجوازية عن حل القضايا الزراعية والديمقراطية والوطنية، أكد ليون تروتسكي على أن حل هذه القضايا مستحيل من دون تحدي حدود الملكية الخاصة البرجوازية، ومن دون تحدي الرأسمالية نفسها.
تقدم لنا الثورة الروسية في 1917 مثالاً واضحاً على ذلك؛ فما بدأ في فبراير من ذلك العام من المطالبة بالحقوق الديمقراطية و”الخبز – الأرض – السلام” تحول إلى ثورة عمالية اشتراكية على خلفية عجز الحكومة الرأسمالية، التي حلت محل القيصر، عن إيقاف الحرب أو وضع حد للملكية الإقطاعية للأرض، أو حتى إطعام الشعب. اكشتف العمال والفلاحون الروس أنه ليس بإمكانهم الاعتماد على الحكام الجدد في تأمين “الخبز والأرض والسلام”، وفي المقابل احتشدوا على شعار “كل السلطة للسوفيتات” وانتزعوا السلطة بأنفسهم.
ومن هذا المفهوم ترتسم أمامنا النقطة الأخيرة لنظرية تروتسكي في الثورة الدائمة، وهي أن “إنهاء الثورة الاشتراكية ضمن الحدود الوطنية أمر غير معقول.. وهكذا تصبح الثورة الاشتراكية ثورة دائمة بالمعنى الجديد والواسع لهذه الكلمة، ولا تصل إلى كمالها إلا عندما ينتصر المجتمع الجديد نهائياً على كوكبنا بأجمعه”.
وفي حين لا تزال الثورات في مصر وتونس بعيدة عن كونها ثورات اشتراكية، من الواضح أنها قد أدت إلى تغيرات حادة في بلدان أخرى، حيث فجرت حركات احتجاجية ضخمة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، وألهمت نشطاء “احتلوا وول ستريت”، وعمال القطاع العام في ويسكونسن بالولايات المتحدة، وطلاب كيبيك بكندا، وغيرهم. وبالرغم من أننا اليوم بعيدين عن الاشتراكية العالمية التي أثبتت الثورة الروسية 1917 أنها ممكنة، إلا أنه من الواضح أن الربيع العربي قد منح حياة جديدة لمختلف النضالات حول العالم. وتقدم لنا نظرية الثورة الدائمة طريقة لفهم الثورة عبر العالم، كما تشير لنا أن حيوية الطبقة العاملة وتنظيم حركتها يعد أمراً ضرورياً من أجل عالم أفضل. في هذا المسار، تعتبر النظرية البلدان الأقل تقدماً مركزاً للنضال من أجل عالم أفضل ممكن، وليس على هامش هذا النضال كما كان يُعتقد سابقاً.
* المقال منشور باللغة الإنجليزية بقلم بيتر هوجارث في 3 يناير 2013 بموقع منظمة الاشتراكيين الأمميين الكندية