التنظيم الثوري والجماهير
إن أحد الأسباب الأساسية التي تجعل هناك ضرورة لبناء تنظيم عمالي ثوري هو التفاوت في الوعي الطبقي بين القطاعات المختلفة من الطبقة العاملة. فإذا كان تطور وعي الطبقة العاملة يحدث بشكل تدريجي ويشمل الطبقة كلها لكانت الطبقة العاملة قد أطاحت بالرأسمالية دون الاحتياج لتنظيم، وإذا كانت الطبقة بكاملها غارقة في الأيدلوجية الرأسمالية وتحت هيمنتها تصبح الثورة الاشتراكية استحالة موضوعية وبالتالي لا يكون هناك أي معنى لطرح موضوع التنظيم العمالي الثوري.
ولكن في الواقع أن وعي الطبقة يكون مليء بالتفاوتات والتناقضات مما يستلزم توحيد القطاع الأكثر وعيًا ونضالية في الطبقة العاملة في تنظيم عمالي ثوري يضع الثورة العمالية كهدف أساسي ويعمل على كسب تأييد ومشاركة القطاعات العمالية الأخرى وكل المستغلين والمضطهدين لمشروع الثورة الاشتراكية.
والصراع الطبق ليس عاملاً مستقرًا أو ثابتًا، ففي فترات يكون هناك تصاعد في النضالات العمالية ويقترب الكثير من العمال النشطين من الوعي الطبقي الثوري، وفي فترات أخرى تكون هناك حالة جذر وتراجع في الصراع الطبقي ويصبح القطاع الواعي أقلية ضئيلة وسط العمال. وتشكل هذه الطبيعة الغير مستقرة للصراع الطبقي سببًا آخر لضرورة بناء تنظيم ثوري يوحد الطليعة العمالية، فالتنظيم يلعب دور ذاكرة وعقل الطبقة ويبنى على أساس الخبرات النضالية للطبقة العاملة في مواجهة الرأسمالية على مر الزمن. ففي فترات الجذر يحلل أسباب التراجع ويبقى على الشعلة الثورية حتى تأتي موجة صعود جديدة. وفي فترات المد والصعود يستفيد من دروس الانتصارات والهزائم السابقة ويعممها.
وعندما نتحدث عن الخبرات النضالية للطبقة العاملة فنحن لا نتحدث عن تاريخ النضال في مصر فقط ولكن في كل أنحاء العالم، فالطبقة العاملة طبقة عالمية، ولها تاريخ وتراث ونضال أممي، وأحد الأدوار الجوهرية للتنظيم العمالي الثوري هو إثراء الحركة العمالية المصرية بهذا التراث الأممي على المستوى الاستراتيجي والتكتيكي. وهذا ليس معناه فقط الاستفادة من تراث الثورات الكرى والانتفاضات التاريخية ولكن أيضًا الاستفادة من الخبرات التي تتراكم كل يوم لدى الطبقة العاملة في جميع أنحاء العالم. فمثلاً في كوريا اليوم تحاول الدولة إصدار قانون عمل جديد يطيح بالكثير من الحقوق العمالية والنقابية المكتسبة عبر نضال مرير وطويل ويتيح للشركات حرية أكبر لفصل العمال، وبدورها واجهت الطبقة العاملة الكورية هذا القانون بأكبر موجة إضرابات في تاريخها – فأكثر من مليون عامل قد أضربوا حتى الآن، وهناك مظاهرات ضخمة يشارك فيها مئات الآلاف. وفي مصر تستعد الدولة لإصدار قانون موحد للعمل أكثر شراسة بكثير من القانون الكوري، والتنظيم الثوري إن كان موجودًا فعليه دورًا أساسيًا في الاستفادة من التجربة الكورية استعداد لمواجهة العمال للقانون في مصر.
إن كل حزب سواء كان إصلاحي أو ثوري أو حتى رجعي يستهدف جذب التأييد الجماهيري ليقود حركتها في الاتجاه الذي يراه. والحزب العمالي الثوري كذلك هدفه القيادة ولكن هنا ينتهي التشابه، فالوسائل التي يتم من خلالها تحقيق القيادة بل وطبيعة القيادة مختلفة تمامًا.
ويمكننا تخيل ثلاث أنواع مختلفة للقيادة. النوع الأول يشبه دور المعلم، وهو النوع الذي نجده في الحلقات الصغيرة الموهومة بحجم تأثيرها وهذا النوع يقوم على أساس “دراسة” معزولة وفوقية لوضع الصراع وتقديم خلاصة الدراسة في شكل برنامج على الحركة العمالية إتباعه، هذه الدراسة يقوم بها “القادة” في غرف مغلقة معتمدين على الكتب النظرية بدلاً من المشاركة الفعلية في الصراع الموجود في الواقع.
النوع الثاني يشبه العلاقة بين الضابط والجنود، والمشرف بالعمال، وهنا تجلس القيادة – التي تحمل الحقيقة المطلقة – في القمة وتقرر بشكل بيروقراطي ما يجب على الجماهير تنفيذه، ذلك دون أي مشاركة من تلك الجماهير أو حوار معها، هذه النوعية من القيادة هي التي تميز الأحزاب الستالينية والإصلاحية. ولعل المشترك بين هذين النوعين هو أن التوجيهات والإرشادات تسير في اتجاه واحد حيث تقوم القيادة بمونولوج منفرد مع الجماهير ولا تنتظر – أو تسمح – بأي مشاركة لتلك الجماهير.
أما النوع الثالث للقيادة فهي القيادة الثورية، وهي أشبه بالعلاقة بين لجنة الإضراب والعمال المضربين في موقع ما. فيجب على الحزب الثوري أن يكون في حوار جدلي دائم مع العمال خارجه، وبالتالي لا يجب على الحزب اختراع التكتيكات من الهواء بل يجب أن يكون واجبه الأول هو التعلم من خبرة الحركة الجماهيرية وتعميمها. وقد أثبتت الأحداث الكبرى في تاريخ الطبقة العاملة صحة هذا التطور، فقد خلق عمال باريس في 1871 دولة من نوع جديد، بدون جيش نظامي أو بيروقراطية، حيث يحصل المسئول المنتخب على نفس أجر العامل المتوسط ويحق للعمال تغييره في أي وقت وغيرها من سمات الدولة العمالية التي ظهرت للوجود أثناء كوميونة باريس. حدث ذلك قبل أن يبدأ ماركس في تعميماته حول طبيعة وبنية الدولة العمالية. وفي بتروجراد عام 1905 خلق العمال المجالس العمالية (السوفييتات) بشكل مستقل عن الحزب البلشفي بل أن بعض البلاشفة عارضوا ظهور السوفييتات في البداية.
إن مهمة التنظيم الثوري لا تكون فقط نشر الأفكار الثورية أو حتى التحضير للانتفاضة، فإذا كانت مفاهيم الجماهير حول العالم لا يمكن تغييرها إلا من خلال النضال فيجب إذًا على الثوريين الانخراط في كل المعارك اليومية للطبقة العاملة.
يجب أن يكون التنظيم الثوري مستعد دائمًا للانخراط في نضالات العمال اليومية حتى لو كانت المطالب التي يتم النضال حولها مطالب محدودة لا تتحدى الرأسمالية ككل وحتى لو كانت الأفكار التي يتبناها العمال أفكارًا رجعية، فالأفكار الرجعية أو الإصلاحية عند العمال لا يمكن مواجهتها إلا من خلال النضال.
ولكن من الخطأ تصور أن كل ما على التنظيم الثوري فعله هو الانخراط في الحركة العمالية، فيجب على التنظيم الثوري أن يتماسك وأن يحافظ على تماسكه حول أفكار الاشتراكية الثورية ولا يكون فيه أي مكان للإصلاحيين أو الوسطيين أو لأفكارهم، ولكن عليه أن يمزج بين ذلك بالمرونة التكتيكية الكافية التي تمكنه من التأقلم مع التغيرات في الظروف الموضوعية وفي الحركة الجماهيرية الحية.
إن التوازن بين الانخراط في النضالات الجماهيرية والتماسك حول الاستراتيجية الثورية ليس أمرًا سهلاً فكام طرحت روزا لوكسمبورج: “لدينا من جانب الجماهير ومن الجانب الآخر هدفها التاريخي ومكانه خارج المجتمع الموجود حاليًا. لدينا من جانب النضال اليومي ومن جانب آخر الثورة الاشتراكية، هذه هي جوانب التناقض الجدلي الذي يجب من خلاله أن تتطور الحركة الاشتراكية. وبالتالي فإن أفضل وسيلة لتقدم الحركة هي السير ما بين الخطرين الذين يهددانها بشكل دائم: فقد الطابع الجماهيري أو التخلي عن الهدف النهائي، الثورة الاشتراكية. الأول خطر الانزلاق في ظروف الحلقة المعزولة، والثاني هو خطر الانزلاق في حركة إصلاح اجتماعي برجوازي.”
يتطلب النجاح في تفادي هذه المخاطر التطور المتوازي لثلاث عناصر أساسية:
1. التماسك حول تحليل ماركسي علمي للعالم قادر على فهم وتوقع التغيرات في الواقع.
2. جذور عميقة داخل الطبقة العاملة تمكن التنظيم من المشاركة واكتساب الخبرة وفي الوقت نفسه التأثير في النضالات الجماهيرية.
3. شكل تنظيمي متماسك يسمح باتخاذ القرارات على أساس تقييم علمي للظرف الموضوعي يتم الوصول إليها بشكل ديموقراطي ويتم تنفيذها بشكل منظم ومركزي.
إن بناء التنظيم الثوري عملية شديدة التعقيد والصعوبة وتاريخ الحركة الشيوعية المصرية مليء بالمحاولات الفاشلة. كثيرًا منها قد فشل بالطبع لأن الرؤية السياسية المرشدة لها لم تكن ثورية بل برجوازية صغيرة إصلاحية أو وطنية. ولكن هناك كثير من التصورات الخاطئة حول العلاقة بين التنظيم والجماهير واستراتيجية بناء التنظيم ترتبط بالطبع في كثير من الحالات بالرؤية السياسية العامة ولكن ليس بالضرورة حيث يمكن لتنظيم الوقوع في هذه الأخطاء على الرغم من صحة الرؤية السياسية العامة.
تتبع معظم هذه الأخطاء من مرض الاستبدالية الذي تعاني منه الحركة الشيوعية تاريخيًا. إذ يقوم عدد من المثقفين البرجوازيين الصغار باعتبار أنفسهم إما ممثلين للطبقة العاملة والطليعة الثورية التي ستقود الطبقة وإما النخبة التي سترف وعي الطبقة العاملة دون أن يكون لديهم أية جذور حقيقية داخل الطبقة العاملة. فنجد مجموعات مكونة أساسًا من الطلبة والمثقفين يطلقون على أنفسهم اسم حزب العمال، ونجد مجموعات شديدة الضآلة من حيث العدد تخرج من جعبتها كالساحر نصائح وإرشادات حول ما يجب على الطبقة العاملة والحركة العمالية فعله الآن ويتوهمون أن بإمكانهم التأثير في الحركة وأن بإمكانهم الوصول إلى التكتيكات السليمة لا لما يجب أن يتبعوه هم مع الحركة العمالية ولكن ما يجب على الحركة العمالية نفسها أن تتبعه!
وقد رد أنطونيو جرامشي القائد الماركسي الثوري الإيطالي في كتابه “أطروحات ليون” على مشكلة الاستبدالية فقط: “إن القدرة على قيادة الطبقة العاملة لا علاقة لها بإعلان الحزب نفسه كأداتها الثورية، ولكنها تتعلق بنجاح الحزب بالفعل كجزء من الطبقة العاملة على ربط نفسه بكل قطاعات الطبقة.. فقط من خلال نشاطه في وسط الجماهير يستطيع الحزب أن يكسب اعتراف الجماهير به كحزبهم، وفقط عندما يحدث ذلك يستطيع الحزب أن يزعم أنه قادر على قيادة الطبقة العاملة. إن الحزب يقود الطبقة من خلال الانخراط في كل التنظيمات التي يتجمع فيها العمال.”
إن كل هذا مجرد بعض التعقيدات في عملية بناء التنظيم الثوري وعلاقته مع الجماهير، ومن البديهي أن هذه العملية تحتاج إلى درجة عالية من الجهد والالتزام والتماسك، وكما طرح لينين:
لا بد أن ندرب ناس سيهبون حياتهم كلها وليس فقط أوقات فراغهم للثورة، لا بد من بناء تنظيم كبير بالقدر الكافي للسماح بإدخال تقسيم عمل حاد في عملنا.