بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

التطور المركب واللامتكافئ

“التطور المركب واللامتكافئ” هو أحد المفاهيم المركزية في النظرية الماركسية الثورية. فهو من ناحية أولى يعد حجر زاوية للتحليل الماركسي لطبيعة التطور الرأسمالي العالمي، ومن ناحية ثانية يعتبر أساس لنظرية “الثورة الدائمة” التي طورها ليون تروتسكي في العقدين الأولين من هذا القرن.

يقول تروتسكي: (.. أن تاريخ البشرية كله محكوم بقانون التطور اللامتكافئ، الرأسمالية تتسلم الأقسام المختلفة من البشرية وهي في مراحل مختلفة من التطور، كل له تناقضاته الداخلية العميقة..). الرأسمالية ل متنشأ في أجزاء العالم في وقت واحد، وإنما نشأت في مراكز أولى للتراكم – إنجلترا وأوروبا الغربية – يرجع ذلك لعدد من العوامل المتشابكة: اختلافات البنية الاقتصادية والاجتماعية فيما بين الأجزاء المختلفة من العالم، وتباين طبيعة التناقضات الداخلية في كل مجتمع ما قبل رأسمالي، والفوارق في الموارد الطبيعية والمادية.. إلخ.

ولكن مع نشوء الرأسمالية، وبالذات مع تطورها إلى مرحلتها الإمبريالية، بدأت مرحلة جديدة في التاريخ الاجتماعي للإنسان. فقد وحدت الرأسمالية فيما بين الأجزاء المختلفة من العالم وجعلتها حلقات في سلسلة واحدة يربطها سوق عالمي واحد، وفي نفس الوقت عمقت التناحر والتنافس والتفاوت فيما بين هذه الوحدات القومية. ابتلع التوسع الرأسمالي الدول الأقل تطورًا في داخل السوق العالمي، وبدأت هذه الدول تشهد عملية تحول سريعة ومركبة: “فالرأسمالية” – كما يقول تروتسكي – (تهدف غريزيًا وبشكل مستمر إلى التوسع الاقتصادي، وإلى اقتحام بلاد جديدة، وإلى محو التباينات الاقتصادية. وإلى تحويل المقاطعات المكتفية ذاتيًا والاقتصادات القومية إلى نظام من العلاقات المالية المتداخلة. وبهذا فهي تقرب من الفوارق وتنزع إلى المساواة بين المستويات الاقتصادية لأكثر الدول تقدمًا مع أكثر الدول تخلفًا. وبدون فهم هذه العملية الأساسية سيصبح من المستحيل فهم انكماش الفجوة بين الهند وبريطانيا..).

وهكذا، يبدو من الواضح تمامًا أنه من غير الممكن فهم طبيعة عملية التطور في دولة ما وكيفية ظهور الرأسمالية فيها والمسار الذي اتخذته، دون النظر لهذه العملية في سياقها العالمي التاريخي. ودون النظر لعلاقات تلك الدولة بغيرها من دول العالم. فانتقال الدول المتخلفة نسبيًا والمتأخرة – على الرغم من “عدم نضجها” الداخلي – إلى الرأسمالية مرتبط بشكل حاسم بالتطور العالمي للرأسمالية. في بعض الدول أو الإمبراطوريات الما قبل الرأسمالية، لعبت الضغوط الخارجية للدول الأكثر تقدمًا والتي قطعت أشواطًا على طريق التطور الرأسمالي والتي بدأت أطماعها الإمبريالية تهدد الدول المجاورة المتأخرة، دورًا أساسيًا في دفع جهاز الدولة الما قبل رأسمالي إلى التحديث والتطوير وإلى المساهمة في دفع التطور الاجتماعي وفي خلق طبقة رأسمالية. وتعد الحالة الروسية في القرن التاسع عشر نموذجًا مثاليًا لهذا الوضع. حيث كان خوف القيصرية الروسية وقلقها من تهديدات الدول الأوروبية الرأسمالية المحيطة بابتلاعها هو السبب الأول وراء قيامها بعملية تحديث اقتصادي وعسكري. وقد أظهرت هذه العملية بشكف مكثف. الطابع المركب والمتناقض لعملية التحديث الرأسمالي في الدول المتخلفة التي التحقت بالسوق العالمي في القرن التاسع عشر والقرن العشرين. اعتمدت الدولة الروسية بشكل أساسي على البرجوازيات الأوربية في عملية التحديث؛ إذ استوردت وحاولت استيعاب آخر المنجزات التكنولوجية والعلمية لهذه البرجوازيات. وهكذا نشأت في روسيا المتخلفة والما قبل رأسمالية، وفي عقود قليلة، جزر رأسمالية متقدمة تحاكي في تطورها درجة تطور القلاع الصناعية في أوروبا الغربية، بينما ظلت الأوضاع في الريف الروسي مشابهة لحالها قبل قرون. وقد كان ضعف وهشاشة البرجوازية الروسية الناشئة هو النتاج الطبيعي لهذا التحول السريع المرتبط بمشروع القيصرية للتحديث. هذه البرجوازية ولدت مشدودة بألف خيط وخيط للدولة القيصرية وللرأسمالية العالمية، اللتان ساهمتا في خلقها، ولكن اللتان استنزفتا قواها وأضعفتاها. أما البروليتاريا التي خلقها التطور الصناعي فقد نمت بوتيرة سريعة، وتمركزت في القلاع (الجزر) الصناعية الضخمة، وأصبحت بالتالي مؤهلة للعب أدوار قيادية في عملية التحول الثوري.

وفي أحيان أخرى، ومع اكتمال ملامح العصر الإمبريالي للرأسمالية في أواخر القرن التاسع عشر، كان الاستعمار المباشر هو الطريق لنشر نمط الإنتاج الرأسمالي في ربوع الكرة الأرضية. فمع سعيها لفتح أسواق جديدة، في سياق بحثها عن موارد طبيعية ومواد خام، بدأت الدول الرأسمالية الكبرى تغزو المناطق المتخلفة وتتنافس على ضمها وإلحاقها. وفي كل مكان وطأته الرأسمالية كانت هناك للبرجوازية مهمتين. يشرح ماركس هاتين المهمتين في سياق حديثه عن الاستعمار البريطاني للهند كالتالي: (.. كان لإنجلترا مهمة مزدوجة في الهند: واحدة للهدم، وواحدة للبناء – إفناء المجتمع الأسيوي القديم وإرساء القواعد المادية للمجتمع الغربي في أسيا..) وهكذا لعبت الإمبريالية دور البادئ أو المنشط لعملية تحلل وتدمير نمط الإنتاج الما قبل رأسمالي المستقر لقرو نوقرون.

وفي كل الأحوال، أكدت تطورات التوسع الرأسمالي العالمي أن الدول المتأخرة لا تسير في الطريق الذي سارت فيه سابقاتها. فبسبب الطبيعة العالمية للنظام الرأسمالي، وتبعًا لقانون التطور المركب واللامتكافئ. تجبر الدول المتأخرة – بشكل أو بآخر – على القيام بوثبات، وهو الأمر الذي يستبعد – كما يرى تروتسكي – (.. إمكانية تكرار أشكال التطور عند مختلف الأمم. إذ ليس على أي بلد متخلف أن يجد نفسه مضطرًا إلى اقتفاء أثر بلاد متقدمة وأن يتبع بالضرورة نظامًا متسلسلاً مشابه للنظام الذي سارت تلك الدول عليه. فميزة الوضع المتخلف تاريخيًا – ومثل هذه الميزة موجودة – تسمح لشعب ما، أو بالأحرى تفرض عليه، أن يتمثل الأشياء جاهزة قبل انقضاء الفترات المحددة تفرض عليه، أن يتمثل الأشياء جاهزة قبل انقضاء الفترات المحددة وأن يقفز بذلك على عدد من المراحل الوسيطة..). وبالتالي: (.. فمن المؤكد أن تطور أمة متخلفة تاريخيًا يؤدي في النهاية إلى تركيب خاص يضم مختلف مراحل التطور التاريخي، ويأخذ منحى التطور بمجمله شكلاً معقدًا، مركبًا غير منتظم. ولكن إمكانية حرق الدرجات الوسيطة لا تشكل أمرًا محتومًا. وهي في نهاية المطاف محددة بقدرات البلاد الاقتصادية والثقافية..).

نرى إذن أن نزوع الرأسمالية إلى التوسع عالميًا لا يؤدي فقط إلى تقريب الفجوة بين الدول المتخلفة والدول المتقدمة، وإنما أيضًا إلى تدعيم التناحر والتفاوت بين دول العالم (الإمبريالية)، وإلى إكساب عملية التطور في الدول المتأخرة طابعًا مركبًا تتعايش وتتناحر فيه مستويات مختلفة من التطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي (التطور المركب واللامتكافئ). والتناقض فيما بين هذه الميول المتعارضة هو الذي يمكنه أن يفسر لنا التطورات الأهم في تاريخ الرأسمالية الحديثة والمعاصرة. هو الذي يمكنه أن يفسر لنا مثلاً كيف تم في عقود قليلة تقريب الفجوة بين دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة من ناحية، ودول جنوب شرق آسيا من ناحية أخرى. وهو الذي يمكنه أن يفسر لنا أيضًا الفقر والبؤس والجوع الذي يعيشه فئات الملايين من البشر في آسيا وافريقيا، في نفس الوقت الذي وصلت فيه المستويات الاقتصادية والثقافية لعدد من الشعوب المتقدمة إلى درجات عالية جدًا. وهو الذي يمكنه أن يفسر لنا التعايش بين فقر الحياة الثقافي والاقتصادي والتكنولوجي في ريف دول كمصر والهند، وبين التقدم الاقتصادي والتكنولوجي في الإنتاج الصناعي في مدن هذه الدول:

الميكانيكية التطورية فقط هي التي تستنبط بشكل مباشر وساذج طبيعة الثورة المقبلة، في أي مجتمع من درجة تطور قوى إنتاجه. هذه الرؤية التطورية الفجة ترى أن التطور الرأسمالي في كل دولة سيتخذ نفس الشكل وسيمر بنفس المراحل بدون أية إمكانية للقفز فوق أي من هذه المراحل. ويستنتج أنصار هذه النظرية من ذلك أن الثورة العمالية ليست على جدول الأعمال في الدول المتأخرة وأنها ممكنة فقط في الدول المتقدمة.

يغفل مؤيدو هذه النظرية الطابع المركب واللامتكافئ لعملية التطور الرأسمالي، والذي يخلق وضعًا تكون فيه الطبقة العاملة في الدول المتأخرة – في الحلقات الأضعف – أكثر الطبقات تأهلاً، بفضل تمركزها وثقلها الاقتصادي والسياسي، لقيادة الحلف الطبقي لإنجاز المهام الديمقراطية والاشتراكية في آن واحد. ففي الحالة الروسية على سبيل المثال – وهي الحالة الوحيدة التي أنتجت ثورة عمالية – كانت البرجوازية، كما سبق وأن أكدنا، مهزوزة ومترددة وخاضعة لتحالفات مع القوى المسيطرة في العالم القديم إلى الحد الذي جعلها تقف في المعسكر المضاد للثورة. ولذلك فقد وقع عبء إنجاز المهام الديمقراطية للثورة البرجوازية – تحقيق الديمقراطية وإعطاء الأرض للفلاحين الفقراء – على عاتق الطبقة الثورية حتى النهاية – الطبقة العاملة – التي مزجت، حال تسلمها للسلطة، بين المهام الديمقراطية والمهام الخاصة بالتحول إلى الاشتراكية – الملكية الجماعية.. إلخ – وفي هذا السياق، أصبح الواجب الثوري الأول على بروليتاريا هذا البلد المتأخر هو أن تتحالف مع البروليتاريا الأوروبية، وأن تخرج ثورتها من حدودها القومية إلى الإطار العالمي، إذ أنه عندما تسيطر البروليتاريا في بلد متأخر على السلطة تصبح ضرورة الثورة العالمية ذات أهمية مزدحمة: أهمية مقترنة بطبيعة الانتقال للاشتراكية بوجه عام (كما أن الرأسمالية نظام عالمي لا بد أن يتم تحطيمها وتجاوزها عالميًا)، وأخرى مقترنة بالظرف الخاص لسلطة الطبقة العاملة في بلد متأخر (عدم وجود قاعدة اقتصادية تسمح بواحد من أهم شروط التحول الاشتراكي: الوفرة).

وإذا كانت الثورة الروسية – التي أثبتت عمليًا الأهمية السيايسة الاستراتيجية لقانون التطور المركب واللامتكافئ – انهزمت لأسباب ذاتية وموضوعية مختلفة، فهذا لا يعني أن قانون التطور المركب واللامتكافئ قد أصبح تاريخًا انقضى. فأي محاولة للحديث عن معنى الثورة الاشتراكية العالمية ستكون غير ذات جدوى إذا لم نفهم الاقتصاد الرأسمالي العالمي في ضوء هذا القانون.

إن الخطأ الأساسي لكل النظريات وحيدة الجانب التي تتصارع مع نظرية الثورة العمالية هو أنها لا ترى – ولها أسبابها “السياسية” في ذلك – إلا جانب واحد من عملية التطور الرأسمالي التنافسي. نظرية “التبعية” على سبيل المثال لا ترى إلا جانب التفاوت الذي تخلقه الرأسمالية فيما بين الدول القومية المختلفة. ولذلك، فشلت هذه النظرية في أن تفهم كيف بالفعل حدث تطور رأسمالي في دول كانت في السابق مستعمرات متخلفة للضواري الإمبريالية المتقدمة. واتساقًا مع طابعها الوطني البرجوازي الصغير، وعلى النقيض مع المنظور الأممي العمالي الثوري، لم تنتبه هذه النظرية للجانب الآخر من عملية التطور الرأسمالي العالمي، وهو بزوغ طبقات عاملة قوية ومركزة وقادرة على حمل عبء قيادة النضال الثوري التحرري.

أما نظرية “نهاية الإمبريالية” التي يروج لها عدد من الثوريين السابقين، والذين يرون أن الرأسمالية في سبيلها إلى تجاوز الدولة القومية، وإلى تجاوز الإمبريالية والتفاوت فيما بين الدول، فهي تعتقد أنه من الممكن في ظل عالم يحكمه قانون التنافس اللا عقلاني أن يتحول العالم إلى أمة واحدة لا مكان فيها للهيمنة على الأمم الأصغر أو لاستنزافها – أي تعتقد أي جانب تقريب الفجوة بين مستويات التطور. هو الجانب الوحيد الساري المفعول في عملية التطور الرأسمالي! هذه النظرية معادية للماركسية الثورية بسبب اتخاذها لمواقف، أقل ما توصف به هو الرجعية، في مواجهة الاضطهاد الإمبريالي (الأغلبية الساحقة من أنصار هذه النظرية يرفضون الدخول في نضالات ضد الإمبريالية خشية اتهامهم بالميول القومية!!).

في مواجهة هذه الانحرافات تطرح الماركسية – مستندة إلى تحليل الطبيعة المركبة والمتفاوتة لعملية التطور الرأسمالي – مشروعًا ثوريًا جذريًا داخل البلدان الأكثر تخلفًا، جوهر هو “الثورة العمالية”. يقوم على النضال ضد الإمبريالية والبرجوازيات المحلية على السواء، ويهدف إلى انتصار الثورة على مستوى العالم.