ما هي «العمالوية»؟

بالنسبة لنا كاشتراكيين ثوريين، تعتبر الطبقة العاملة والتحرير الذاتي لها هي محور سياساتنا. وتعتبر الطبقة العاملة – أولئك الذين يعيشون من بيع قوة عملهم – أو “الطبقة الثورية الوحيدة حقاً” على حد تعبير البيان الحزب الشيوعي، هي الطبقة الوحيدة القادرة على قيادة الفلاحين وجميع المضطهدين في نضال ضد الرأسمالية، وهي الطبقة الوحيدة التي يقود نضالها الجماعي المشترك إلى الاشتراكية والمجتمع اللا طبقي.
وهي أيضاً محور نظرتنا إلى العالم. وانطلاقاً من نضال الطبقة العاملة ومصالحها نقرأ كلاً من التاريخ والفلسفة والاقتصاد؛ فنحن “منظري البروليتاريا” كما قال ماركس [1]. وبهذا المعنى نحن جميعاً “عمالويون”، أو ينبغي لنا أن نكون.
كيف من الممكن إذن أن يكون هناك “انحراف” أو “تشويه” أو نزعة خاطئة تحت مسمي “العمالوية”؟ نعم هذا ممكن، بسبب أن العُمَّالويَّة تخلط بين الدور التاريخي للطبقة العاملة ككل وبين السمات الشخصية لأفراد الطبقة العاملة في ظل الرأسمالية هنا والآن، وفي المقابل، بيّن ماركس هذا الفارق في كتاباته في وقت مبكر للغاية.
وعندما ينسب الكُتّاب الاشتراكيين هذا الدور العالمي – التاريخي للبروليتاريا، فليس هذا لأنهم يرون البروليتاريين آلهة. بل على العكس.. إنها ليست مسألة من هذا أو ذاك البروليتاري، أو حتى البروليتاريا كلها، في هذه الحظة باعتبارها هدفاً. بل السؤال هو ما هي البروليتاريا، وما هو دورها التاريخي [2].
وبسبب هذا الخلط تميل العُمَّالويَّة إلى تمجيد العمال من الرفاق كأنهم لا يخطئون، بينما تحقر من الرفاق غير العمال كما لو أن كونهم غير عمال وحده يبطل آرائهم. وبوجه عام، فإن العُمَّالويَّة هي موقف وسلوك، أو مجموعة من المواقف والسلوكيات، وليست بالأحرى حالة مُعرفة بوضوح أو فكرة واردة في نص معين. وعلاوة على ذلك فإن العُمَّالويَّة ليست بأي حال من الأحوال أسوأ التشويهات أو الانحرافات. فمن المرجح أن يتضمن أي تنظيم ثوري صحي مقداراً من العمالوية، إما بسبب علاقته المادية بقطاعات كبيرة من الطبقة العاملة الفاعلة أو لأنه يسعى إلى تحقيق مثل هذه العلاقة. وعلى أية حال فإن مثل هذه العلاقة بالطبقة العاملة بشكل عام يسعى إليها أيضاً الانتهازيون، وذوو الميول الوسطية، والطائفية، أو النشاطوية أو حتى اليسار شديد التطرف. للأسف يمكن لهذه الانحرافات “الصحية” نسبياً، في ظل ظروف معينة، أن تلحق ضرراً بالغاً أو تعرقل تطوير وبناء الحزب الثوري.
يوجد تشابه هنا مع التطرف اليساري، والذي غالباً ما يرتبط ارتباطاً وثيقا بالعمالوية. في عام 1920، سمي لينين التطرف اليساري تسميته الشهيرة “مرض طفولي”، أي أنه نتاج قلة الخبرة، ومن الواضح أنه كان تياراً حقيقياً بين شريحة العمال الثوريين في السنوات الأولى للأممية الشيوعية (في ألمانيا وإيطاليا وبريطانيا، إلخ) المنخرطين حديثاً في موجة النضال في 1917 – 1919. ونتيجة لذلك كان لينين أقل معاداة له – أي التطرف اليساري – بكثير من معاداته للكاوتسكية على سبيل المثال. ولكن التطرف اليساري في العام 1921 أوشك على تدمير الحزب الشيوعي الألماني في كارثة مارس عندما حاول الحزب، بشكل مصطنع، التحريض على انتفاضة بتعبئة العمال العاطلين عن العمل بشكل مستقل، وحتى ضد العمال العاملين. عند هذه النقطة أصبح التطرف اليساري، وبالرغم من جذوره “الصحية”، يشكل خطراً مباشراً وحاضراً يتحتم مقاومته وبقوة.
مخاطر العمالوية
يمكن للعمالوية أن تتخذ عدداً من الأشكال المختلفة. ما سأعرضه هنا هو بيان مختصر للأخطاء التي كثيراً ما ترتبط بالعُمَّالويَّة وتؤدي إليها.
1- تمجيد بطل من قيادة عمالية بعينها:
حدث هذا في بريطانيا مع آرثر سكارجيل من اتحاد عمال المناجم، وديريك هاتون (زعيم تيار ليفربول المناضل، عضو مجلس مدينة ليفربول في الثمانينات)، وتومي شيريدان (الحزب الاشتراكي الاسكتلندي)، مع عواقب مدمرة في كل مرة للحركة والشخص المعني.
2- المغالاة في تقدير النضال الاقتصادي للعمال، بل والتركيز الحصري عليه:
بالطبع نضال العمال الاقتصادي بالنسبة للاشتراكيين الثوريين له أهمية كبيرة، ولكنه ليس الشكل الوحيد للنضال وليس الأكثر أهمية في كل لحظة بعينها من الزمن. ففي فبراير 2003، على المستوى الدولي، لم يكن النضال الاقتصادي أكثر أهمية من الحركة المناهضة للحرب. وفي 25 يناير 2011 أو يوم موقعة الجمل في مصر كان من الواضح بجلاء أنه ليس أكثر أهمية من معركة سياسية في الشوارع.
لا ينبغي أن تغيب عن بالنا كلاسيكية لينين “ما العمل؟” التي تدحض الاقتصادوية وكذلك مفهومه للكادر للثوري؛ فهو ليس مجرد “سكرتير نقابة” بل منبراً للشعب:
“لا يمكن أن يكون وعي الطبقة العاملة وعيا سياسيا حقا، إذا لم يتعود العمال الرد على كل حالة من حالات الطغيان والظلم والعنف وسوء الإستعمال على اختلافها وبصرف النظر عن الطبقة التي توجه إليها، على أن يكون الرد من وجهة النظر الاشتراكية الديموقراطية، لا من أية وجهة نظر أخرى. ولا يمكن أن يكون وعي جماهير العمال وعيا طبقيا حقا إذا لم يتعلم العمال الاستفادة من الوقائع والحوادث السياسية الملموسة والعاجلة.. لمراقبة كل طبقة من الطبقات الاجتماعية الأخرى في جميع مظاهر حياتها العقلية والأخلاقية والسياسية، إذا لم يتعلموا أن يطبقوا في العمل التحليل المادي والتقدير المادي لجميع أوجه نشاط وحياة جميع طبقات السكان وفئاتهم وجماعاتهم… ولذلك فإن ما ينادي به “اقتصاديونا” أن النضال الاقتصادي هو الوسيلة التي يمكن استعمالها بأوسع شكل لجذب الجماهير إلى الحركة السياسية هو أمر ضار منتهى الضرر ورجعي منتهى الرجعية من حيث نتائجه العملية. فلكيما يصبح العامل اشتراكياً ديموقراطياً ينبغي له أن يكوّن لنفسه صورة واضحة عن الطبيعة الاقتصادية والسيماء الاجتماعية والسياسية للملاك العقاري والكاهن وصاحب الرفعة والفلاح والطالب والصعلوك” [3].
3- التقليل من دور النظرية في الحركة:
قال لينين “لا ممارسة ثورية بدون نظرية ثورية”. قد يكون من قبيل المبالغة أخذ العبارة بمعناها الحرفي، فلم يكن كل عمال باريس مدربين ومدركين النظرية الماركسية قبل تأسيس كميونة باريس، ولم تكن الجماهير المصرية كذلك قبل ثورتهم وإسقاط مبارك. ومع ذلك كان لينين محقاً في أن النظرية تلعب دوراً حيوياً للغاية في النضال. في الحقيقة كان لعمل المناشفة بشكل ميكانيكي آثاره الكارثية على ممارساتهم في الثورة الروسية. وليس فقط جماهير العمال المصريين ولكن الكثيرين من اليساريين المصريين كان ينقصهم وجود فهم ماركسي لدور الدولة، ترتبت عليه آثار خطيرة جداً على الثورة المصرية عندما حان وقت فهم طبيعة الجيش.
قدمت روزا لوكسمبورج النقطة نفسها. في مقدمة كلاسيكيتها “إصلاح أم ثورة”. فليس هناك من إهانة للعمال أكثر وقاحة، ولا تشهير بهم أكثر وضاعة من القول بأن “النقاشات النظرية خاصة بالأكاديميين فقط”. بل إن قوة الحركة العمالية الحديثة بكاملها تعتمد على المعرفة النظرية [4].
4- التقليل من دور المثقفين:
من الخطأ تعريف النظرية بالمفكرين أو المفكرين بالنظرية. ليس هناك نقصاً في “المثقفين”، وخاصة الأكاديميين، الذين أصبحوا “أسماءاً كبيرة” دون إنتاج أي نظرية ذات جدوى أو فضل (سلافيو جيجك مثال واضح)، وبالتأكيد بعض المناضلين العمال قادرون على استيعاب وممارسة النظرية، وبعض الثوار ذوي خلفيات عمالية يمضون قدماً في تقديم إسهامات نظرية كبيرة – كريس هارمان على سبيل المثال لا الحصر. ومع ذلك وبالنظر إلى ظروف الحياة في ظل الرأسمالية، وببعض التداخل بين النظرية الماركسية والمثقفين الماركسيين؛ فكتاب كـ”رأس المال” أو المكافئ المعاصر له لن يكتبه شخص يعمل 50 ساعة في الأسبوع في مصنع أو في قيادة الحافلات.
وتكشف نظرة سريعة على تاريخ الحركة الاشتراكية الثورية الدور الحيوي الذي يلعبه “المثقفين” البارزين، أمثال ماركس وإنجلز وبليخانوف ولكسمبورج ولينين وتروتسكي وبوخارين وجرامشي وكليف وغيرهم الكثير. بالطبع للعب هذا الدور يجب على المثقفين أن يلزموا أنفسهم بقضية الطبقة العاملة وكسر خلفيتهم مع الطبقة الوسطى، وتحيزاتها ومواقفها، وإذا فعلوا ذلك يمكنهم تقديم إسهامات لا غنى عنها للحركة من حيث تطوير النظرية والدراسة العلمية للحزب والطبقة. توني كليف يؤكد على ما ذكرته روزا لوكسمبورج، بشكل مميز في هذه المسألة.
“يمكن بالتأكيد أن يكون هناك تفاوت في مستوى الوعي والمعرفة النظرية بين أعضاء منظمة أو حزب ثوري واحد. لكن هذه الدرجة من التفاوت يجب، بشكل إرادي، أن يتم تجاوزها عن طريق رفع مستوى وعي ومعرفة كافة الأعضاء. حيث أن أخطر شيء يمكن أن يلحق بالحزب الثوري من الداخل هو أن يسيطر على قرارات الحزب مجموعة من المثقفين المعزولين عن الواقع، وأن يدعوا أنهم يمثلون السياسة الثورية للبروليتاريا. يمكن اعتبار ذلك بمثابة إهانة حقيقية للعمال داخل الحزب، حيث أن ذلك ينفي قدرة العمال على فهم النظرية واستيعابها وبالتالي المشاركة في صياغة توجهات الحزب.
قضى ماركس 26 عاماً من حياته في كتابة “رأس المال”. لماذا إذن كل تلك الفترة الطويلة؟! مع العلم بأنه لم ينه الكتاب حتى وفاته. تم نشر الجزء الأول فقط أثناء حياته، أما الأجزاء الثاني والثالث فقد حررهما إنجلز بعد وفاة ماركس. لماذا أيضاً كان الماركسيون الروس ينظمون ندوات ومحاضرات ليلية طوال تسعينات القرن التاسع عشر لتعليم العمال الماركسية الثورية؟” [5].
5- عمالوية اليمين أو الشعوبية.
العُمَّالويَّة عموماً تقدم نفسها داخل الحركة الثورية بوصفها نزعة يسارية تندد بالطبقات الوسطى وتأثيرها، ولكن من الضروري أن نضع في الاعتبار أنه من الممكن، بل وغالباً، ما يتم استخدامها من قبل كل من الإصلاحيين والبيروقراطيين النقابيين من أجل أغراض رجعية. وكما يقولون: “كل هذا الحديث عن الثورة، يأتي من المثقفين. العمال العاديين ليس لديهم الوقت لذلك، ما يهمهم هو قضايا الخبز والزبد”. ويُقال الشيء نفسه عن الحقوق الديمقراطية والحريات المدنية، ومكافحة العنصرية، وتحرير المرأة وغيرها، يمكن أن تُرفض كل هذه النضالات فقط بحجة القلق من الطبقات المتوسطة أو بحجة ان ليس لها أي فائدة “للعمال الحقيقيين”، عندما يحدث هذا حقاً وتُطلق هذه الأحكام المسبقة، فيكون بهدف تقسيم وحرف الطبقة العاملة. الشعوبية اليمينية والفاشية (في كل بلد) دائماً ما تحرص على تشويه سمعة الاشتراكية بوصفها “أممية” (أجنبية أو يهودية، إلخ) غريبة على العامل “الوطني”. هذا بعيدٌ كل البعد عن العُمَّالويَّة اليسارية التي تتجلى داخل المنظمات الثورية، ولكن نحن بحاجة إلى أن ندرك أن إحدى هذه الأمور يمكن، عن غير قصد، أن تدفعهنا للانزلاق في الأخرى.
في تاريخنا الخاص، كانت أوائل السبعينات هي الفترة التي تفشت فيها العُمَّالويَّة بشكل أكبر في تاريخ منظمة الاشتراكيين الأمميين التي صارت فيما بعد حزب العمال الاشتراكي البريطاني. كان هذا الوقت الذي تصاعد فيه النضال الصناعي في بريطانيا (وغيرها) بالتوازي مع حركة قوية من عمال المتاجر وإضرابات عامة كبيرة (المهندسون، وعمال الموانئ، وشركات بناء السفن، وعمال المناجم وغيرها)، تلك الإضرابات التي ألحقت هزائم خطيرة بأصحاب العمل والحكومة. وكانت الاشتراكية الأممية، قد تطورت من رحم الاحتجاجات الطلابية وحركة مناهضة حرب فيتنام في أواخر الستينات، مما طرح بجدية ضرورة “التوجه إلى الطبقة العاملة”. في هذه الحالة كان قدراً من العُمَّالويَّة لا مفر منه، بل وضرورياً لمواجهة افتراضات الطبقة الوسطى بالتميز عن العمال، تلك الافتراضات التي سادت بين الطلاب الثوار في ذلك الوقت. ولكن عندما انتهت هذه الطفرة وانكمشت في النصف الثاني من السبعينات والثمانينات، بدأ العديد من النقابيين في التحول لليمين أو فقدوا روحهم المعنوية، فأصبحت هذه العُمَّالويَّة كارثة. ثم تحرك توني كليف، وقيادة الحزب الاشتراكي البريطاني للدفع في الاتجاه المعاكس.
في هذا الوقت ظهر شكل واحد معين من العُمَّالويَّة المعروف باسم “التصنيع”. وطُرحت هذه الفكرة بوصفها استراتيجية فعلية، وتقول بأنه يجب حث الطلاب والرفاق غير العمال ودفعهم للحصول على وظائف في المصانع والصناعات الرئيسية. في الواقع كانت هذه محاولة لخلق طريق مختصر وبديل اصطناعي لبناء علاقة حقيقية مع الطبقة العاملة، ولم تفلح هذه الطريقة أبداً. لحسن الحظ قاوم الحزب الاشتراكي البريطاني هذا الإغراء ولكنه انتشر على نطاق واسع بين بعض قطاعات الأممية الرابعة حيث كانت له عواقب ضارة للغاية.
في الختام، العُمَّالويَّة تُحقّر من الطبقة العاملة وتلعب على أكثر عناصرها رجعية. إن ما نحتاج إليه عوضا عن ذلك هو ما سماه أنطونيو جرامشي “المثقفين العضويين” من الطبقة العاملة. عمالٌ يطورون فهماً حقيقياً للنظرية الاشتراكية، ووجهة نظر واضحة ومتسقة عن العالم، تمكّنهم من الرد على جميع الهجمات الأيديولوجية للطبقة الحاكمة، وتمكّنهم أيضاً من قيادة زملائهم في معارك مختلفة على جبهات متنوعة، وترسم لهم الطريق خلال موجات حتمية من الصعود والهبوط خلال الحرب الطبقية.
[1] لتفصي هذه النقطة انظر جون مولينو، “ما هو التراث الماركسي الحقيقي؟” و “الغاية هي تغيير العالم”: مقدمة في الفلسفة الماركسية The Point is To Change it: an Introduction to Marxist Philosophy.
http://johnmolyneux.blogspot.com/2006/07/point-is-to-change-it.html
[2] كارل ماركس، العائلة المقدسة.
http://www.marxists.org/archive/marx/works/1845/holy-family/ch04.htm
[3] لينين، ما العمل؟
http://www.marxists.org/archive/lenin/works/1901/witbd/iii.htm
(الكتاب باللغة العربية هنا)
[4] روزا لوكسمبورج، ثورة أم إصلاح
http://www.marxists.org/archive/luxemburg/1900/reform-revolution/intro.htm
[5] توني كليف، Marxism at the Millennium،
http://www.marxists.org/archive/cliff/works/2000/millennium/chap03.htm
(الكتاب باللغة العربية هنا)