ما هي «العصبوية»؟

كثيرًا ما يُساء استخدام مصطلح العصبوية إلى الحد الذي يجعلنا لابد أن نبدأ بتوضيح ما لا يُعد عصبوية. ففي بعض الأحيان يُنظر لمحاولة بناء تنظيم مستقل في سياق التدخل في النضالات المختلفة باعتبار ذلك من قبيل العصبوية. وهذا محض هُراء، لو أنك مؤمن بأن الخط السياسي المُتبع داخل منظمتك سليم، أو على الأقل الأكثر صحة مقارنة بالآخرين، ستمتلك الحافز والدافع لبناء هذا التنظيم والحرص على نموه، وإلا فأنت غير جاد سياسيًا.
بالطبع، في بعض الأحيان تتسم محاولات البناء تلك بالغطرسة والتعالي، لكن، في الواقع هذا لا يعد عصبوية بقدر ما يُعد غباءًا. وعلى وجه الحصر فإن العصبوية تعني بوضوح: اتخاذ مواقف خاطئة تجاه الصراع الطبقي.
كتب لينين: “من خلال توجيه الاشتراكية نحو الاندماج مع حركة الطبقة العاملة أسدى كلٌ من كارل ماركس وفريدريك إنجلز خدمات جليلة في هذا الصدد: فقد أرسيا قواعد النظرية الثورية التي أوضحت ضرورة هذا الاندماج وأوكلت للاشتراكيين مهمة تنظيم الصراع الطبقي للبروليتاريا”.
الاندماج، في هذا السياق، لا يعني أبدًا إحلال منظمة ثورية بأخرى غير ثورية. لقد كان لينين ملتزمًا إلى أبعد حد ببناء منظمة ثورية، لذا قطع بلا هوادة كل صلة مع أولئك، بما في ذلك العديد معاونيه السابقين، ممن ترددوا بشأن قضيته المركزية تلك. وكانت كلمة السر هي “الصراع الطبقي للبروليتاريا”. هذا ما يجب على الاشتراكيين “الاندماج” فيه.
تعود أول إشارة لمفهوم “العصبويين” للبيان الشيوعي. فالعصبويون، في رأي كل من ماركس وإنجلز، هم أولئك الذين يبنون “اليوتوبيا” أو المدينة الفاضلة، من خلال خطط وبرامج مجردة مستمدة من المبادئ العامة المُفترضة، التي يحاولون كسب الجماهير بإقناعهم بها – مثال على ذلك “الجزر الاشتراكية” التعاونية وما شابه – وهذا مخالف لجوهر الماركسية التي تركز وتعتمد على الحركة الحقيقة، والصراع الطبقي الفعلي. وضع ماركس ذلك في اعتباره حين كتب يقول: “ترى العصبوية مسوغات وجودها وتفتخر ليس بما لديها من قواسم مشتركة مع حركة الصراع الطبقي، وإنما بـ “اللغو الخاص” الذي يميزها هذا الحركة”.
وهنا حركة الصراع الطبقي مقصودة حرفيًا. فهي ليست مجرد قضية، وليست حتى في المقام الأول قضية تخص تنظيم الطبقة العاملة هذا أو ذاك، بل قضية تطوير الصراع الطبقي الحقيقي وتنمية الوعي الطبقي. فماركس كان ثوريًا، وكانت الثورة بالنسبة له ليست مجرد “لغو خاص”، لكنها مرحلة ضرورية من مراحل النضال من أجل الاشتراكية التي، بدورها، لا يمكن أن تُبنى إلا عن طريق الصراع الطبقي، بغض النظر عن، كما يقول ماركس، “ما يعتبره البروليتاري هذا أو ذاك، بل البروليتاريا بأجمعها في هذه اللحظة هدفها الخاص”.
ومع ذلك، لا يمكن تجنب العصبوية بمجرد التمسك الشكلي بمصطلح مركزية الصراع الطبقي. ففي بدايات عقد الثمانينيات من القرن التاسع عشر سَخَر إنجلز من الماركسيين الألمان المهاجرين في الولايات المتحدة الأمريكية، الذين حولوا الماركسية إلى “شكل من أشكال الخلاص بجعلها عقيدة ومذهب و[حفظها] بمعزل عن أي حركة لا تقبلها”. وضع إنجلز في اعتباره “فرسان العمل”* الذين قاموا بمحاولات مُعتبرة، لكن متخبطة، لتنظيم الطبقة العاملة، والتي وصفها بأنها “كان ينبغي ألا نكتفي بأن تُزدرى وتُحقّر من الخارج، بل كان لابد من تثويرها داخلياً”.
هذه المجادلة يمكن تطبيقها بشكل عام. ففي السنوات الأولى للأممية الشيوعية، عارض عددٌ لا بأس به من الثوريين الحقيقين، بالأساس في ألمانيا لكن ليس هناك فقط، العمل بطريقة منهجية داخل النقابات القائمة. وكانت حجتهم التي ساقوها أنّ تلك النقابات بيروقراطية ومحافظة، إن لم تكن رجعية بشكل صريح. وكان هذا صحيحًا إلى حد بعيد. لكن كان صحيحًا أيضًا أن تلك النقابات قد نظمت ملايين العمال، على الرغم من بيروقراطية ورجعية قياداتها، لقد كانت تلك النقابات منظمات طبقية لعبت دورًا (وإن كان سيئًا) في الصراع الطبقي، ولا يمكن تجاوزها ببساطة. يقول لينين:
“إننا نخوض الصراع ضد القادة الانتهازيين والشوفينيين بغية كسب الطبقة العاملة إلى جانبنا. ومن السخف أن ننسى هذه الحقيقة الأساسية والبديهية البسيطة. وكان ما ارتكبه “الشيوعيون اليساريون” الألمان أمرًا عبثيًا عندما – وبسبب الطابع الرجعي المعاد للثورة للقيادة العليا لتلك النقابات – توصولوا لاستنتاج مفادة أنه علينا الانسحاب من النقابات العمالية، ورفض العمل معهم، وبناء أشكال جديدة ومبتكرة للتنظيمات العمالية! وهذا خطأ لا يُغتفر، وهو بمثابة أكبر خدمة يمكن أن يقدمها الشيوعيون للبرجوازية”.
القاسم المشترك فيما يخص هذا الخطأ (في معظم الأحيان) بين “اليسار” الثوري النشط وبين كل أنماط العصبوية الأخرى هو الفشل في خلق الصلة مع نضالات العمال الملموسة، بالرغم من صعوبة ذلك، ووضع خطط طوباوية كبدائل.
ولذلك، فإن الأشكال الدعائية للعصبوية، التي يبدو اختلافها ملحوظًا من الوهلة الأولى، جميعها لها مرجعية واحدة. لدينا هنا في بريطانيا تجربة غنية (إن كانت هذه هي الكلمة المناسبة). يمكن أن نطلق عليهم “القلة النقيّة المُختارة”. وها هي أبيات الشاعر “تومي جاكسون” تصفهم، في إشارة لحزب العمل الاشتراكي البريطاني:
نحن القلة المُختارة
وملعون كل من دوننا
في الجحيم متسع لكم
أما الجنة، فلنا!
كان حزب العمل الاشتراكي، دون أي داع على الإطلاق الأسوأ من نوعه في هذا الصدد، حيث ركزوا تركيزًا مفرطًا على الدعاية، وكان من شروط العضوية تدريب عال المستوى على (الماركسية) الشكلية. وليس مستغربًا، أنهم اعتقدوا في ضرورة تكوين “نقابات حمراء” مستقلة، وكانت لديهم قاعدة تمنع الأعضاء من الترشح لأي مناصب نقابية، رغم أنهم سمحوا لهم بأن يكونوا أعضاءًا في تلك النقابات حيث كان هذا من “ضرورات العمل”.
إن الهوس بضم أعضاء “مُميزين”، والخوف من “ميوعة” العمال “قليلو الخبرة”، أمرٌ قد اتسمت به أيضًا بعض المجموعات التروتسكية وتفريعاتها (وإن لم يكن كلها). لِمَ إذن يُعد هذا الموقف عصبويًا؟! في الواقع إن إجابة هذا السؤال تعيدنا مرةً أخرى للصراع الطبقي بوصفه جوهر هذه القضية.
وكما قال تروتسكي نفسه: “إن اتهام الانتهازيين لنا بالعصبوية هو، في معظم الأحيان، من قبيل المدح”. وهذا صحيح للغاية، لكنه لا يغيّر حقيقة أن الانحرافات العصبوية يمكن أن تمثل خطرًا حقيقيًا. لقد فسّر تروتسكي ظهور النزعة العصبوية بين البعض من أتباعه وأرجعه لملابسات وظروف نشأتهم.
“لقد مرت كل أحزاب الطبقة العاملة، وكل فصيل، أثناء المراحل الأولى، بفترة من الدعاية المحضة.. فترة من الوجود كحلقة ماركسية ذات أفكار مجردة حول طريقة العمل والاشتباك مع الحركة العمالية. وكل من لا يستطيع أن يتغلب، في الوقت المناسب، على هذه الحلقية المقيّدة يتحول بمرور الوقت إلى عصبوي محافظ.
ينظر العصبوي للحياة بوصفها مدرسة كبيرة، وهو أحد مدرسيها.. ورغم أنه قد يُقسم بالماركسية في كل جملة، لكن تبقى العصبوية نقيضًا للمادية الجدلية، التي تتخذ الخبرة كنقطة انطلاق ودائمًا ما تعود إليها.. يحيا العصبوي في عالم من الصيغ الجاهزة.. وهذا التنافر مع الواقع يعزز من حاجة العصبوي المستمرة لتقديم صيغه بشكل أكثر دقة. وهذا يتم تحت اسم النقاش. والنقاش بالنسبة للماركسي أداة هامة بالطبع، لكن أهميتها تكمن في أنها أداة من الأدوات الوظيفية للصراع الطبقي. بينما النقاش بالنسبة للعصبوي هو هدف في حد ذاته. لكنه، كلما أكثر من النقاش، كلما غفل عن المهام الفعلية. إنه يشبه من يروي ظمأه بماءٍ مالح؛ كلما نهل منه، كلما ازداد عطشًا”.
لحسن الحظ، هذه العصبوية أصبحت أقل شيوعًا مما كانت عليه قبل سنوات مضت. فكثيرٌ من العصبويين السابقين من هذا الطراز استوعبهم حزب العمل الاشتراكي.
لكن أليس كل ما قيل يشير إلى أمر محدد، هو أنه يجب على الثوريين الدخول في حزب العمل الاشتراكي، والقيام بأدوار أكثر فاعلية، والانضمام لها؟! ألا يُعد عصبوية، كما تقول جريدة المناضل (Militant)، البقاء بعيدًا عن الطبقة العاملة؟!
هذه القضية، بالتأكيد، لا يمكن حلها عن طريق الصيغ الجاهزة. إن جوهر العصبوية هو الامتناع، أيًا كانت الذريعة أو الحجة، عن التفاعل مع الصراع الطبقي الحقيقي. هل يحتل الصراع الطبقي مكانًا، رئيسيًا أو فرعيًا، داخل حزب العمل؟! من الواضح أنه ليس كذلك.
بما أن لدينا معلومات مؤكدة عن صراعات داخل حزب العمل، فلابد أن يكون لنا تأثير عليها من خلال دعمنا للجناح اليساري، بشكل نقدي حين يلزم الأمر، ولكن مع استمرار كامل دعمنا لهم في نضالهم ضد الجناح اليميني. لكن، هذا مختلفٌ تمامًا عن فكرة أن يقوم حزب العمال الاشتراكي (SWP) بتذويب نفسه داخل حزب العمل (أو أن يفعل ذلك بينما يحافظ على تنظيمه بشكل سري). وهناك ثلاثة أسباب تجعل من ذلك أمرًا خاطئًا.
أولًا، النضال الأساسي في أماكن العمل، ثم يأتي في المرتبة الثانية النضال في النقابات. على المنظمة الثورية، كلما كان هذا ممكنًا، أن تعمل على مستوى عالٍ من التنظيم في التأثير بكفاءة على العمال، وذلك عن طريق مطبوعاتها ووجودها الصريح. هناك فارق نوعي بين النقابات؛ المنظمة على أساس الوظيفة أو على أساس الصناعة، وبين الحزب العمالي القائم على فكرة سياسية (الإصلاحية)، وهذا ما نرفضه. ويبقى هذا الأمر صحيحًا وحقيقًا بغض النظر عن مدى كون قادة النقابات إصلاحيين أو رجعيين. ولهذا، فإن مقال لينين المقتبس منه أعلاه، لم ينادي بضرورة انضمام مؤيديه للحزب الاشتراكي الديمقراطي، برغم أن معظم قادة النقابات كان ينتمون لهذا الحزب.
ثانيًا، حتى في حالة الانحسار والتراجع الشديدين للنضال في أماكن العمل، فإن الوقوف جانبًا والعزوف عن المشاركة في النقابات يعد عصبوية. فعندما تتراجع موجات النضال تحتفظ النقابات بصلة عضوية بالنضال الطبقي. حتى وإن كانت بعيدة.
ثالثًا، وتحديدًا من وجهة النظر التي تقول بضرورة التأثير على الأجنحة اليسارية داخل حزب العمل، سيكون من الأفضل كثيرًا أن يحتل الاشتراكيين الثوريين مكانًا بصفتهم تنظيم مفتوح يناضل من أجل أفكاره السياسية، لأننا لن ندخل في صراعات حول المناصب الحزبية، أو اختيار المرشيحن، وما شابه ذلك من أمور.
هوامش:
* فرسان العمل: من أهم وأكبر التنظيمات العمالية خلال ثمانينيات القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة الأمريكية. (المترجمة)
المقال باللغة الإنجليزية هنا.