سياسات الأزمة: عن العلاقة بين الأزمة الاقتصادية والثورة
مقتطف من كتاب “انهيار الرأسمالية: مدخل إلى الاقتصاد السياسي الماركسي”، جوزيف كونارا، حزب العمال الاشتراكي البريطاني
إن اعتبار الكساد الاقتصادي “شيئاً عظيماً” والركود “حدثاً رائعاً”، لهو تشويه كاريكاتوري لاستجابة الاشتراكيين للأزمة الاقتصادية، بحيث يصوّر الرأسمالية وكأنها ستنهار تلقائياً نتيجة الأزمة، وأن العمال سيدركون حينئذ على الفور أن الاشتراكية هي الحل، وأن الثورة على الأعتاب لترفع الأعلام الحمراء وتبني المتاريس. لكن في الحقيقة، ليس هناك قاعدة ثابتة تحكم العلاقة بين الأوضاع الاقتصادية والنضال الطبقي أو الوعي السياسي؛ فالركود الاقتصادي وما يسببه من فقر وبطالة متزايدين، يمكنه في ظروف معينة أن يحبط العمال ويجبرهم على التراجع، لكن يمكنه في ظروف أخرى أن يدفع العمال نحو الهجوم ويقذف بهم إلى المتاريس.
خاض ماركس وإنجلز تجربتهما المباشرة الأولى في النضال الثوري خلال الموجة الجماهيرية العملاقة التي اجتاحت أوروبا في العام 1848، والتي جاءت في أعقاب الأزمة الاقتصادية في 1847. ولعبت الأزمة دور المحفز لتلك الثورات والتي كان لها أسباباً سياسية كامنة أخرى. وبعد انقضاء الموجة الثورية، شهدت الرأسمالية حالة انتعاش استمرت لأكثر من عقدين من الزمان. علّق الثوري الروسي ليون تروتسكي على ذلك في العام 1921، قائلاً:
“كتب إنجلز أنه بينما وُلدت الثورات من رحم أزمة 1847، وُلدت الثورة المضادة منتصرة من رحم الرخاء الاقتصادي في الأعوام من 1849 إلى 1851. لكن من الخطأ تماماً أن نفسر أحكام إنجلز من زاوية أن الأزمة تولد الفعل الثوري بشكل تلقائي مباشرةً، بينما الرخاء، على العكس، يهدئ الطبقة العاملة ويسكنها”.
عَكس تروتسكي خبرة ماركس وإنجلز في تناوله للفترة التي تلت ثورة 1905 في روسيا:
“لقد مُنيت ثورة 1905 بالهزيمة. قدم العمال تضحيات عظيمة، وفي 1906 و1907 كانت الثورة تلفظ أنفاسها الأخيرة، وبحلول خريف 1907 اندلعت أزمة [إقتصادية] عالمية هائلة.. وخلال الأعوام 1907 و1908 و1909، خيّمت الأزمة بظلالها الكثيفة على روسيا أيضاً. لقد قتلت الحركة تماماً، إذ عانى العمال كثيراً خلال النضال ولم يتسبب الركود إلا في تثبيط عزيمتهم” (*).
عاد النضال الثوري في روسيا إلى التصاعد مرة أخرى في العام 1917 فقط عندما بدأ الاقتصاد في التعافي وأصبح العمال أكثر ثقة في أنفسهم. ولعل الأمثلة السابقة توضح أن العلاقة بين الاقتصاد والسياسة معقدة بحيث أن المبادئ العامة والمجردة وحدها لا تكفي للتعاطي معها.
هناك أسطورة أخرى تقول أن الفقر المدقع للعمال ضروري كشرط مسبق للثورة الاشتراكية. مرة أخرى، ليس هناك ارتباط مباشر بين درجة معاناة العمال وبين إرادتهم وإصرارهم على النضال. فليس صحيحاً أن درجة تأخر بلدان أفريقيا اقتصادياً في العقود الأخيرة تجعل هذه البلدان أرضاً خصبة للثورة، وعلى الرغم من ذلك هناك الكثير من النضالات البطولية في بلدان معينة وفي أوقات محددة. كما يتصاعد النضال في الكثير من المناطق الغنية نسبياً – مثل فنزويلا والأرجنتين (كاثنين من أغنى اقتصاديات أمريكا اللاتينية)، ومصر وجنوب أفريقيا (الغنيتين قياساً بالمعايير الأفريقية)، واليونان – وأيضاً في الكثير من البلدان الأكثر فقراً في العالم، مثل بوليفيا ونيبال.
هناك نوع من الأزمة يصبح عاملاً في توليد الأوضاع الثورية، على الرغم من أن ذلك قد ينعكس في أزمة سياسية، كالتي تنتج عن حرب كارثية مثلاً. لكن الأزمة لا تؤدي إلى الثورة بشكل أوتوماتيكي. وكما كتب لينين، فإن الثورة ممكنة فقط “عندما لا ترغب الطبقات الدنيا في العيش بالطريقة القديمة، والطبقات العليا لا تعد قادرة على الحكم بالطريقة القديمة”.
يمكن أن تساهم الأزمة بشكل كبير في خلق مثل هذا الوضع الثوري إذ يصبح العمال منشغلين بسؤال ما إذا كانوا سيعيشون حياة أفضل أو أنهم سيتقاضون نفس مستوى الأجور الذي اعتادوا عليه. ومن زاوية أخرى، قد يحفز ذلك، في ظل ظروف مناسبة، نقاشاً سياسياً ونضالاً مستعراً كلما تحللت الثوابت القديمة. يمكن للأزمة أيضاً أن تفتت تماسك وثقة الطبقة الحاكمة، وبالتالي تجعلها عاجزة عن الحكم “بالطريقة القديمة”.
ربما يكون لحكامنا مصلحة مشتركة في استغلال العمال، لكن الطبقة الرأسمالية لديها الكثير من الانقسامات الداخلية، إذ ينخرط الرأسماليون في منافسة بعضهم من أجل مراكمة رأس المال. والأزمة الاقتصادية يمكن أن تزيد حدة الصراع بين الرأسماليين والعمال كلما سعى الرأسماليون بشكل أكبر للضغط على العمال لاستخلاص الثروة من عرقهم. ويمكن للأزمة أيضاً أن تفاقم التوترات بين صفوف الطبقة الحاكمة إذ يتصارعون فيما بينهم على المتبقي من فائض القيمة، ويحاولون تحويل عبء الأزمة على بعضهم، متبعين سياسات مختلفة في سعيهم للخروج من الأزمة.
كل ذلك يتسبب في إحداث تشققات في قمة المجتمع، وتوفر هذه التشققات المساحة لهؤلاء القابعين في قاعدة المجتمع كي يطرحوا مطالبهم وحلولهم الخاصة. وهكذا فإن ديناميكية النظام الرأسمالي نفسها تؤدي إلى ارتباك النظام سياسياً، وغالباً تؤدي إلى انفجار الغضب الاجتماعي بشكل غير متوقع.
هوامش:
(*) من بين كل الماركسيين الروس، بما فيهم لينين، الذين هيمنت عليهم فكرة أن الأزمة الاقتصادية من الضروري أن تولد نضالاً ثورياً، كان الاستثناء الوحيد في فهم العلاقة بين الأزمة والثورة هو ليون تروتسكي، الذي أوضح أن الأزمة يمكن أن تؤدي للعكس من ذلك. نقتبس هنا الفقرة التالية من تروتسكي لمزيد من التوضيح:
“بعد فترة من المعارك والهزائم الكبرى، قد تؤدي الأزمات الاقتصادية، لا إلى استنهاض طاقة الطبقة العاملة في النضال، بل إلى سواد حالة من الإحباط بين صفوفها، بحيث تدمر ثقة العمال في قوتهم الجماعية وتقتلهم سياسياً. وفقط نهضة صناعية تستطيع أن تضخ دماءاً جديدة في شرايين الطبقة العاملة، وتعيد لها ثقتها بنفسها، وتجعلها قادرة على النضال مجدداً” (تروتسكي، حياتي، نيويورك، 1930) – المترجم.