أزمة فساد أم أزمة رأسمالية؟
يحاول جاك فارمر إثبات خطأ من يعتقد أننا نشهد أزمة “الشللية في الرأسمالية”، وليس أزمة رأسمالية في حد ذاتها.
بدأ الجميع في الحديث فجأة عن “أزمة الرأسمالية”. وهذا موضوع مهم فعلًا، فالبعض يقول إن الاضطرابات الاقتصادية الحالية هي نتيجة إخفاق اللوائح، والتمويل، والجشع، والتدخل الحكومي، بينما يؤكد آخرون أن النظام نفسه قد يتسبب في أزمات مدمّرة.
حيث ظهرت لاحقًا “رأسمالية المحاسيب”، وهو مصطلح سلبي يصف أحد نماذج الرأسمالية الفاسدة التي يستغل فيها أصحاب الشركات الكبيرة صلاتهم بالحكومات للحصول على مزايا كبيرة مقارنةً بمنافسيهم. وأثناء القيام بذبك فإنهم يتسببون في تشويه آليات السوق الحر وذلك عن طريق منع ظهور شركات جديدة قد تكون أكثر ديناميةً وكفاءةً.
لذلك، على سبيل المثال، قامت الحكومات بضخ إعانات نقدية في البنوك التي كانت معرضة للإفلاس والاتهامات. وأصبح من الشائع أن المشكلة لا تكمن في الرأسمالية، ولكن المشكلة الحقيقية هي “رأسمالية المحاسيب”. فنحن بحاجة إذن إلى نوع مختلف من الرأسمالية، أيّ رأسمالية “أخلاقية” أو “مسئولة”. ولكن كيف يمكن تحقيق هذا التغيير؟ كما علينا أن نؤمن بأن الأزمة قد حدثت بسبب تدخل الحكومات في التوازن الطبيعي للسوق الحر، لذلك فالحل هو تنظيف الأسواق من هذه العوائق؛ أو جعل الأسواق أكثر أخلاقيًة عن طريق التدخل الحكيم للحكومات في السياسات الجارية.
يتضح مما سبق أن أياً كان التشخيص الصحيح للأزمة، فنحن في حاجة إلى التغيير الجذري للنظام. في الحقيقة هذا التشخيص هو هراء مطلق، وإليكم السبب وراء ذلك.
من المهم أن نميّز بين المظهر السطحي للنظام وتكوينه الأساسي. وهذا التمييز هو أحد أركان الأسلوب التحليلي لماركس. إذا تأملت النجوم في السماء فقد تتوصل إلى استنتاج معقول بأن الأرض هي مركز الكون، وأن الشمس تدور حولها. وللتغلب على المظهر السطحي الخادع، اضطر البشر إلى المرور بعمليات من التجريد، ووضع فرضيات مختلفة يمكن إثبات صحتها لاحقًا.
بالطبع فإن الرأسمالية تختلف في طريقة تنظيمها من دولة لأخرى، قد تختلف من ناحية وجود رعاية اجتماعية من عدمها، ومدى صرامة التنظيمات واللوائح، ودرجة ملكية الدولية وتحكمها في الصناعة. تشبيهًا بالآيس كريم، تتخذ الرأسمالية نكهات مختلفة، ولكن مكوناتها الأساسية تبقى ثابتة.
تتمحور الرأسمالية حول العلاقة بين طبقة من العمال الخاضعين للاستغلال ورؤسائهم الطفيليين، حيث كل شيء وكل شخص مُجبر على الرقص في تناغم مع هذا الاستغلال المُنتج للربح. ورغم أن الرؤساء يستفيدون من النظام إلا أنهم لا يسيطرون عليه ولكنهم مجبرين، كما لو كان ذلك بسبب قوة خارجية، على الانخراط في منافسة قطع رقاب مع بعضهم البعض في سعي حميم نحو تحقيق أقصى ربح. ومن يفشل في ذلك يتعرض للإفلاس.
تتميز عملية تراكم التنافسية هذه بميل نحو إنتاج وحدات أكبر، وأكثر مركزية من رأس المال، حيث تختفي شركات صغيرة كبيرة العدد ويحل محلها شركات ضخمة أقل عددًا. أثناء كتابة ماركس كتابه “رأس المال”، كانت طليعة الإنتاج الرأسمالي موجودة في مدن مثل بينجلي في غرب يوركشاير حيث تنافست عديد من شركات المنسوجات، الخاضعة لإدارة عائلات غالبًا، مع بعضها البعض. اليوم توجد شركات دولية عملاقة تسيطر على السوق العالمي.
بسبب ذلك ينشأ اعتماد متبادل بين هذه الرأسماليات الكبيرة وحكوماتها المحلية؛ حيث تعتمد الحكومة على شركاتها المحلية للحفاظ على التنافسية الدولية للحكومة. وفي الجانب الآخر تضطر الشركات إلى الاعتماد على الحكومة لوضع قوانين الضرائب والقوانين العمالية، وكذلك لتحصينها من المنافسين الأجانب. تزداد علاقة الاعتماد المتبادلة هذه مع مرور الوقت بين الحكومات والشركات الكبيرة. خلافًا للفكرة المعتادة بأن “الأسواق” تضغط على الحكومات، إلا أن المنافسة داخل الأسواق تؤدي إلى استغلال النفوذ الشخصي للشركات القوية للتشكيل السياسة الحكومية. إن المحسوبية، مثلها مثل الجشع، ليست هي سبب الأزمة، ولكن السبب هو السلوك الناشئ طبيعيًا ومنطقيًا عن آليات السوق الحر.
إلا أن هذه العملية قد تسببت في مشاكل جمة. حيث أن الرأسمالية عادةً ما تلجأ في هروبها من الأزمات إلى التدمير الشامل للقطاعات الرأسمالية غير المربحة، وهو ما يسمَّى “بالتدمير الخلّاق”، وهو ما يفتح الطريق أمام دورة جديدة من الازدهار والانتعاش عن طريق تحرير زوائد السوق ليتم بيعها بأسعار بخسة للغاية. طالما تدخلت الحكومات لحكاية شركاتها المحلية، ولكن مع تقدم عمر النظام الرأسمالي ونمو حجم الشركات بالتكامل مع الحكومات، فإن تدمير رأسمال بمقدار كافي يؤدي إلى خطورة متزايدة. فشركات عديدة، وليس المصارف فقط، أصبحت “أكبر من أن تتعرض للفشل” لأن زوالها، بعيدًا عن استعادة صحة النظام، سيؤدي إلى تدهور قاسي للأزمة حيث أنها تجذب معها الشركات الأخرى وحتى الحكومات.
تذكر لنا النصوص الاقتصادية التقليدية أنه إذا سُمح للأسواق بالعمل بحرية، فإنها ستعمل بكفاءة وستؤدي إلى نمو بدون حدوث أزمات. وأي انحراف عن هذا النموذج الراسخ لابد أن يكون نتيجة تدخل خارجي. في الحقيقة، فإن التشغيل الحر للمنافسات السوقية يؤدي في العادة إلى نشوء الاحتكارات وإلى تكامل الحكومات مع الشركات الكبيرة. إن “رأسمالية المحاسيب” ما هي إلّا تكرار للمعنى، لأن المحسوبية تنشأ من التشغيل الطبيعي للرأسمالية.
عندما ضربت الزلازل اليونان القديمة، تطلع أبناءها إلى السماء، مفترضين أن الزلازل هي غضب من بوزيدون، وليست نتيجة احتكاك الطبقات التيكتونية أسفل سطح الأرض. واليوم لا يمكن إلقاء مسئولية أزمة الرأسمالية على عاتق أيّ قوة خارجية – فهي نتيجة تصادم التناقضات الكامنة في قلب الرأسمالية.
* نُشِر المقال لأول مرة بمجلة “الاشتراكي” الشهرية البريطانية، عدد فبراير 2012، يصدرها حزب العمال الاشتراكي بالمملكة المتحدة.