بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

عمال وفلاحين

مقال رأي

محنة عمال ترسانة الإسكندرية

شجعني تصريح للصديق الأستاذ جورج إسحق، عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، نهاية الأسبوع الماضي، على أن أطرق هذه القضية هنا والآن. اتصلت به وتأكدت هاتفيًا من الخبر الذي يتضمنه التصريح. فأكد أن المجلس سيناقش الأربعاء المقبل (غدًا) قضية عمال الترسانة البحرية بالإسكندرية المحالين إلى المحاكمة العسكرية. ومن جانبي علمت لاحقًا أن هناك مذكرة قانونية أمام اجتماع المجلس تفيد بمخالفة الإحالة للمحاكمة العسكرية للمادة 204 من الدستور. مع أن هذه المادة محل انتقادات لأنها لا تغلق بشكل تام باب محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري.

وعلى أي حال، خيرًا فعل المجلس القومي بالشروع في فتح هذا الملف، ولو كان ثمة تأخير. لأن القضية تتفاعل منذ احتجاج العمال في مايو الماضي، ثم حصار وإغلاق شركة الترسانة البحرية بالإسكندرية (وحتى كتابة هذه السطور) وإحالة 26 من عمالها للمحكمة العسكرية يوم 24 مايو مع حبس 13 من بينهم، واعتبار باقي المتهمين بالتحريض على الامتناع عن العمل هاربين، باستثناء سيدة واحدة جرى إخلاء سبيلها. والقضية تعني المجتمع المدني في الداخل. وقد صدرت بالفعل بيانات العديد من الأحزاب والنقابات والجمعيات تضامنًا مع هؤلاء العمال. ولا شك أن العالم بأسره لا يستسيغ أو يتقبل فكرة إحالة مدني – ناهيك بعامل في مصنع – للمحاكمة أمام القضاء العسكري. فمابالنا أن يجرى هذا في الإسكندرية التي شهدت مع نهاية القرن التاسع عشر فصولًا لا تُنسى في تكوين الطبقة العاملة المصرية وخبراتها النضالية من إضرابات ونقابات.

وكنت قد ذهبت إلى الإسكندرية لاستقصاء وتحقيق القضية من أفواه عائلات وزملاء هؤلاء العمال. وهذا لأننا ربما إزاء أكبر عدد من العمال يحالون للقضاء العسكري على صلة بعلاقات العمل في تاريخ مصر. ونحن هنا يقينًا لانتحدث عن متهمين بشبهات إرهاب أو عن محاكمات عسكرية لسياسيين. ولقد حرصت قبل الاستماع إلى أصحاب القضية أن أطلع على تيسر من أوراقها، وبما في ذلك قرار النيابة العسكرية إحالة العمال الستة والعشرين إلى المحاكمة والمذكرة التفصيلية بالوقائع من إدارة الشركة ذاتها ورئيس قطاع الأمن بها. وخلصت من كل هذا إلى أن العمال احتجوا مطالبين بحقوق مالية ووظيفية وبتطوير وتحسين الانتاج والتشغيل وبالسلامة المهنية والوقاية من مخاطر وإصابات العمل بما في ذلك الحروق. وكلها أمور وتطورات تجري في أي مصنع أو شركة. ويمكن حلها عبر التفاوض الجماعي وحتى باستخدام أدوات ضغط كالإضراب، وهو حق مشروع بمقتضي المادة 15 من الدستور والاتفاقات الدولية التي وقعت عليها الحكومة المصرية وأحكام قضائنا المحلي.

والثابت من أوراق إدارة الشركة والقضية ذاتها أن احتجاج عمال شركة الترسانة البحرية لم يكن قد تطور إلى الإضراب، وأنه كان سلميًا، وقد اقتصر على مجرد وقفات رفع العمال خلالها مطالبهم المشروعة. ولم يشهد يقينًا حادث تخريب أو اعتداء واحد. والاتهامات الموجهة للعمال لا تتجاوز كثيرًا التحريض على الامتناع عن العمل.

والترسانة البحرية بالإسكندرية هي بالأصل شركة مدنية تأسست عام 1960، وانتقلت إلى تبعية القوات المسلحة قبل سنوات معدودة فقط. وتعاقد الشركة مع عمالها المدنيين يخضع للقوانين المدنية. بل ويستغرب عمال الشركة محاكمتهم عسكريًا بدعوى تبعية المكان للقوات المسلحة فيما لا يتمتعون هم بأيٍ من مزايا العسكريين، بما في ذلك العاملين المدنيين بالقوات المسلحة.

وفوق كل هذا فهؤلاء العمال التحقوا بالشركة قبل انتقالها لتتبع جهاز الصناعات والخدمات البحرية بالقوات المسلحة. ولم يجر استحداث أي تغييرات أو تعاقدات جديدة تخرج بعلاقات العمل في الشركة عن القانون المدني. ولكل هذا ولاعتبارات يضيق عنها المقام هنا فان التوسع في المحاكمات العسكرية بدعوى الولاية المكانية للقوات المسلحة كي تشمل عمال مدنيين ولتفصل في مجال علاقات العمل الخاضعة للقوانين المدنية من الأمور التي تستأهل القلق وتستحق المراجعة.

ومن يستمع إلى المعاناة المعيشية لعمال الترسانة البحرية وعائلاتهم، قبل هذه القضية وبعدها، وفي ظل أعباء غلاء لا يمكن احتمالها لابد أن يتساءل: وهل من صالح أحد في هذا البلد أن يجرى وضع العمال في مواجهة الإدارات والمحاكم العسكرية، وخصوصًا مع التوسع في دور القوات المسلحة في الاقتصاد والإنتاج والخدمات والسوق؟ ولعل السؤال يستأهل النقاش المجتمعي قبل أن تستفحل آثار مثل هذه الظواهر وعواقبها. وبالقطع يمكن إدارة حوار يسوده العقل والتبصر ولصالح المجتمع المدني والقوات المسلحة معًا.

ولقد كان من المفترض أنه لدينا في مصر حساسية تاريخية إزاء محاكمة العمال عسكريًا بعد مأساة إعدام خميس والبقري في مصانع كفر الدوار سبتمبر 1952. وبشهادة قادة عسكريين تاريخيين عظام عندنا، فإن تضحيات الطبقة العاملة ودورها الوطني في القتال من أجل إجلاء الإنجليز عن القناة في مطلع الخمسينيات وحروب 1956 والاستنزاف و1973 لا ينكرها إلا جاحد. وليس من صالح هذا البلد أن يلتحق مجددًا بالقائمة السوداء عند منظمة العمل الدولية وأن تتعدد الملاحظات السلبية على انتهاكات حقوق العمال. وبالقطع فإن المحاكمات العسكرية للعمال والمدنيين ليست من الأمور التي يتقبلها أو يتفهما الرأي العام في أي مكان بالعالم وعلى أي وجه أو مبرر كان.