«سماد طلخا».. ضحية جديدة لتعويم الجنيه

في نهاية ستينيات القرن الماضي، قرَّرَت الحكومة المصرية إنشاء شركة الدلتا للأسمدة الكيماوية بمدينة طلخا بمحافظة الدقهلية، بعد أن نُقِلَ المصنع من السويس لظروف الحرب. غير أنه بعد فترة قليلة من إنشائه تحوَّل إلى مصدر للتلوث البيئي ومن ثم المرض، خاصة أنه أُنشِئ وسط الكتلة السكنية بقرية ميت عنتر.
يعد مصنع سماد طلخا أحد المصانع المتخصصة في إنتاج أسمدة اليوريا المملوكة للدولة، وهو آخر مصنع ينتمي للقطاع العام في محافظة الدقهلية. لكن المصنع الذي بدأ تشغيله عام 1975 لإنتاج الأسمدة الزراعية، أصبح الآن يشكِّل خطرًا بيئيًا، بعد تكرار انبعاث الغازات السامة الضارة للتربة الطينية في الدلتا، كما أنه بُنِيَ على مساحة 400 فدان من أجود الأراضي الزراعية.
وصل المصنع إلى مرحلة الانهيار مؤخرًا، رغم أنه كان يُورِّد إنتاجه إلى البنك الزراعي، ومن ثم يُوفِّر متطلبات المزارعين ويُصدِّر الفائض إلى الخارج، ما يعد أحد أهم مصادر الدخل لدى الحكومة.
خطورة بيئية يجب مواجهتها
وفقًا لتصريحٍ أدلى به المهندس نبيل مكاوي، رئيس مجلس إدارة شركة الدلتا للأسمدة، في شهر سبتمبر 2017، فإنه جاري تطوير وحدة حامض النيتريك المقامة منذ 65 عامًا، رغم انتهاء عمرها الافتراضي (40 عامًا)، وبعد ما يقرب من عامٍ كامل، لم تقل الأضرار البيئية و لم يلمس المواطنون أي تحسُّنٍ مرجو بعد عملية التطوير المزعومة، واستمر المصنع في بث سمومه على المواطنين نظرًا لتواجده وسط الكتلة السكنية وانبعاث رائحة النشادر من حين إلى آخر بالهواء، فضلاً عن الأثر البالغ على المزروعات نتيجة إلقاء مخلفات الصرف الصناعي بمصرف ميت عنتر، والذي ينتهي في النيل بمركز شربين، ووجود ارتفاع لنسبة النترات بواقع 140 مليجرام بمخرج الصرف الصناعي بطلخا “1”، وزادت إلى 160 مليجرام بمخرج الصرف بطلخا “2”، رغم أن الحد المسموح لا يتعدى 40 مليجرام فقط.
كشفت عدة مذكرات صادرة لإدارة البحوث الزراعية عن مدى تأثر المزروعات، بسبب زيادة نسبة الحامض بوحدات المصنع وبثه يوميًا في الهواء الجوي 8 آلاف و832 متر مكعب من الأكاسيد النيتروجينية عالية السُميَّة، ما يؤدي إلى سحب الأكسجين من الجو المحيط، ووصل الحال أحيانًا إلى سقوط المطر الحمضي في الشتاء، الذي يتسبَّب في بوار بعض الأراضي بالقرية.
وحسب مصادر بالمصنع فإن وحدة إنتاج اليوريا، التي أكدت التقارير الفنية البيئية أنها لا تصلح، عبارة عن وحدتين هما “أ، ب”، بسبب تلف أجهزة التحكم بها، والمعروفة باسم الحساسات، والتي تتحكم في كمية غاز الأمونيا بها، ما يتسبب في زيادة الكمية داخل الخزانات عن المقرر، وهو ما قد يؤدي إلى حدوث كارثة مع زيادة الحرارة، حيث تتحول إلى قنبلة قد تنفجر في أي وقت لتتعرض حياة العمال للخطر، وحسب ما رصدته أجهزة القياس البيئي، فإن الشركة تلجأ لفتح صمامات الأمان لإخراج الزيادات في الجو، مما يؤثر بالضرورة على صحة المواطنيين القاطنيين بجوارالمصنع، رغم انتهاء وزارة البيئة في عام 2016 الى خطة لتوفيق أوضاع المصنع، للحد من أضراره بتكلفة مالية قدرها 120 مليون يورو، على أن تُنفذ تلك الخطة في مدة زمنية من ثلاث إلى خمس سنوات.
ليس هناك تعارضٌ بين الحفاظ على صحة المواطنين واستمرار إنتاج المصنع، لكن الصيانة الدورية لازمة للحد من التلوث البيئي واستمرار العمل بالمصنع، إضافة إلى الحفاظ على حياة العمال الذين يلجأون مضطرين، بتعليمات من الإدارة، إلى فتح صمامات الأمان وإخراج العوادم الضارة للهواء، لتفادي حدوث انفجارات بالوحدات، نتيجة ارتفاع الضغط، مما يعرض حياتهم للخطر، مثلما حدث عام 2010، حين أُصيبَ 4 عمال بالاختناق بالغاز.
تكمن الأزمة في عدم توفير الدولة للأموال اللازمة لعمليات الصيانة الدورية من حصص الإنفاق الحكومي، فالدولة التي توجه اهتمامها ومواردها نحو شراء السلاح وتنظيم مؤتمرات مكلفة تستهدف البروباجندا لصالح النظام، لا تنفق على التعليم والصحة ودعم محدودي الدخل، وهو ما يتضح من ميزانية العام الحالي، حيث يحتل بند حماية البيئة، الذي أغلق المصنع، لأجل الحفاظ عليها حوالي 0.17% من الإنفاق الحكومي، مقابل 4.30% لقطاع الدفاع والأمن القومي على سبيل المثال، كما أن بنود مثل الصحة والتعليم والبيئة تحتل أقل من نصف المطلوب دستوريا من الإنفاق الحكومي، وتلك النسب في انخفاض مستمر بالنسبة للأعوام السابقة.
إيقاف مؤقت واحتجاجات
أصدر الدكتور أحمد الشعراوي، محافظ الدقهلية السابق، في 25 مايو الماضي القرار رقم 308 لسنة 2018، بوقف وحدة إنتاج اليوريا بشركة الدلتا للأسمدة والصناعات الكيماوية بطلخا إيقافًا كليًا، دون المساس بمرتبات العمال، على أن يتم متابعة عمليات توفيق الأوضاع البيئية للوحدة، لوقف انبعاثات غاز الأمونيا الصادرة عنها، والتي تجاوزت الحدود المسموح بها قانونًا.
وبسبب قرار المحافظ، تجمهر عشرات العاملين بالشركة وقتها، احتجاجًا على القرار، مطالبين برحيل رئيس مجلس الإدارة، وإلغاء قرار المحافظ، لحين توفيق الشركة أوضاعها البيئية، وفقًا للخطة الزمنية التي اعتمدها وزير البيئة.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتوقف فيها المصنع عن العمل، حيث تم إيقاف المصنع عن العمل ثلاث مرات سابقة في عام 2015، نظرًا لتحويل ضخ الغاز عن المصنع وتوجيهه إلى محطات الكهرباء، لإيهام المواطنين بحل أزمات انقطاع الكهرباء المتكررة وقتها، قبل حديث رئيس الوزراء عن استيراد الغاز من إسرائيل. وقد واجه العمال هذا القرار باحتجاجات ضخمة بسبب وقف الإنتاج، وانخفاض أجورهم، نظرًا لارتباطها بمعدلات الإنتاج (الأرباح)، وخوفًا من تسريحهم حال توقف المصنع، كما حدث بين عامي 2015-2016، حيث انخفض عدد العمال من حوالي 7000 عامل إلى 3500 عامل، بالإضافة الى تسريح 94 عامل باليومية، نتيجة خسائر المصنع وانخفاض إنتاجه، وخوفًا من خصخصة المصنع أو توقفه عن العمل.
تكرَّرَت احتجاجات عمال المصنع في يوليو من العام المنصرم، حيث نظم العشرات منهم وقفة احتجاجية أمام مقر إدارة الشركة، للمطالبة بإقالة رئيس مجلس إدارة الشركة، بسبب التوقف المتكرر للمصنع، وصرف الملايين على العَمْرة دون جدوى حقيقية، وللمطالبة بصرف علاوة تشجيعية لموظفين مقبلين على الخروج على المعاش والعلاوات المتأخرة، ورفع العمال لافتاتٍ مكتوبًا عليها “ارحل من أجل المصانع”، و”ارحل من أجل الوطن”، و”ارحل من أجل العمال”، و”الرحيل لحل مشكلة مصانع الدلتا للأسمدة”، وردَّدوا هتافات “ارحل يعني امشي”، و”انزل يا ترحل”، و”مصانعنا وهنحميها غصب عن اللي سارقها”.
وأكد العمال أن الشركة تعاني من خسائر متكررة بسبب التوقف المتكرر للمصانع، وتم صرف 150 مليون جنيه لإجراء عَمْرة للمصنع، ومع ذلك توقفت معظم وحدات الإنتاج، حيث يعمل المصنع بـ25% من طاقته فقط.
وقال عددٌ من العمال: “هذه شركتنا التي نقضي فيها معظم حياتنا ونريد الحفاظ عليها، لكن توقف المصانع المتكرر وفشل آخر عَمْرة للمصنع، وتخريب المبنى الإداري من 4 طوابق، والذي تم صرف مبلغ 12 مليون جنيه عليه، رغم هلاكه، جعلنا نتحرك من أجل الحفاظ على المصنع”.
وطالب العمال بضرورة محاسبة المسئولين عن الشركة لإهدارهم أموالها، وصرف علاوات تشجيعية وأرباح للمحاسيب، حيث تم صرف علاوة تشجيعية لـ14 موظفًا، منهم موظف خرج للمعاش و4 آخرون على وشك الخروج.
لم تسفر هذه الاحتجاجات عن أي مكاسب عمالية بالتزامن مع التراجع في الحركة العمالية مؤخرًا، بسبب تعرض الحركات العمالية لقبضة أمنية عنيفة، كان أبرز أمثلتها إحالة عمال الترسانة البحرية إلى محاكمات عسكرية، وتكرار الفصل التعسفي لقيادات عمالية المعروفة، وهو الأمر الذي لا ينفصل عن غلق المجال العام والسياسي واتجاه النظام للحكم بالحديد والنار، إضافة مناخ عالمي تصاعد فيه اليمين الشعبوي وتوحشت فيه الأنظمة الديكتاتورية من حلفاء النظام بالخليج العربي، مما ساعد على تمكين القبضة الأمنية للنظام.
خسائر مزعومة
تعالت الأصوات وكثُرت التصريحات داخل إدارة الشركة حول هول الخسائر المادية السنوية للمصنع، مبررة بهذا تسريح العمال وعدم الصيانة الدورية للوحدات، وكان الحل عندهم هو رفع أسعار السماد، الذي يعتمد عليه الفلاحين ويتم توريده لوزارة الزراعة.
ونتيجة للسياسات الاقتصادية النيوليبرالية التي تنتهجها الدولة والنظام الحالي من تعويم للجنيه، ورفع الدعم الذي أدى الى انخفاض قيمة الجنيه المصري أمام الدولار، مما أدى الى انخفاض قوته الشرائية وبالتالي ارتفاع أسعار السلع الزراعية، وعلى رأسها السماد، تحملت الطبقات الكادحة وحدها تبعات سياسة الاقتراض من صندوق النقد الدولي.
وكانت إدارة المصنع أعلنت في العام المنصرم أن الشركة تحملت نحو 187 مليون جنيه نتيجة تعويم الجنيه، مما زاد من الخسارة، إضافة لتحمل الشركة 100 مليون جنيه “فارق سعر السماد”، مطالبة برفع أسعار السماد، رغم أن الخسارة الأكبر نتجت عن تعويم الجنيه، وليس بسبب فرق سعر السماد على حساب الفلاحين.
وفي ظل غياب نقابات عمالية وفلاحية حقيقية، بسبب تصفية الدولة النقابات المستقلة واعتقال قيادات عمالية وتزوير انتخابات النقابات العمالية الأخيرة، بشكل لم يسبق له مثيل، غابت الكيانات الحقيقية التي من الممكن أن تدافع عن مصالح وحقوق العمال والفلاحين. وأصبحت ساحة المعركة خالية من أي كيان يواجه انحيازات الدولة الطبقية التي تقف بالضرورة ضد العامل والفلاح.