تصوُّر أوَّلي حول احتمالات صعود الحركة الاجتماعية في المرحلة المقبلة

تراجُع الحركة الاجتماعية على النحو الحاصل، وغياب ردود الفعل على صدمات السياسات الاقتصادية التي تتَّبِعها السلطة، يمكن أن يبعث على الكثير من الإحباط، ما لم نحاول فهم احتمالات صعود وهبوط النضال الاجتماعي في الظروف المختلفة.
ربما تمثِّل بعض الاحتجاجات العمالية في الفترة الأخيرة، مثل المحلة وشركة السكر، وغيرها، بارقة أمل، ولكن لا زالت الحركة العمالية والاجتماعية بعيدة نسبيًا عن مواكبة ما تسبِّبه السياسات الاقتصادية للسلطة من آثارٍ اجتماعية قاسية وغير مسبوقة.
إطلالة سريعة على فترات سابقة توضح أن حالة الركود الحالية ليست الأولى، وربما تكون تسعينيات القرن الماضي قريبة الشبه على نحوٍ ما بالفترة الحالية. فهي لم تكن فقط فترة ركود في النضال الاجتماعي، أعقبت صعود ملحوظ في الإضرابات في المراكز العمالية الكبيرة، حلوان، المحلة، كفر الدوار، شبرا، الحوامدية، السكة الحديد، إلخ، بل أيضًا كانت الفترة التي أطلق فيها نظام مبارك برنامج الإصلاح الاقتصادي بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي، والمفارقة أنها هي نفسها المرحلة التي شهدت تحوُّلاتٍ جذرية في القضية الفلسطينية وفي الترتيبات الإقليمية، ابتداءً من حرب عاصفة الصحراء في 1991، وحتى غزو العراق 2003، مرورًا بمؤتمر مدريد للسلام واتفاقية أوسلو.
الهجوم الشديد من السلطة وقتها على الأوضاع الاجتماعية الراسخة لقطاعاتٍ واسعة من العمال والطبقة الوسطى والطبقات الفقيرة لم يؤدِ إلى ردود فعل متناسبة مع الهجوم، بل على العكس كانت الحركة العمالية والاجتماعية في ذلك الوقت في مستوى أدنى بشكل ملحوظ عن الفترة السابقة، وإن لم يخلُ الأمر من ردود فعل، أبرزها بالطبع مقاومة الفلاحين في 1997 لتطبيق قانون الإيجارات الزراعية الجديد، وإضراب كفر الدوار في 1994، واحتجاجات عمالية أخرى. لكن الهدوء كان السمة الأبرز لعقد التسعينيات، حتى أن هذا الهدوء صاحبته الهرولة نحو المعاش المبكر في مراكز عمالية كبيرة أدت لتصفيتها بالكامل.
الأمر اللافت أن عودة الحركة الاجتماعية والعمالية للصعود جاءت مع منتصف العقد الأول للألفية الجديدة، ومع تحسُّن مؤشرات الاقتصاد، فمع ارتفاع معدلات النمو، والتي وصلت إلى 8% عام 2006، واستقرار سعر الصرف وتراجع عجز الموازنة، وارتفاع احتياطي النقد الأجنبي، كانت الحركة العمالية والاجتماعية تتهيَّأ لشنِّ هجومها. تهليل النظام المفرط لنجاحه في تطبيق الإصلاح الاقتصادي وقتها، وتسويقه لحالةٍ من الازدهار الاقتصادي، وتدفُّق عائدات الخصخصة وبيع الغاز الطبيعي على خزينة الدولة، أعطى الحركة العمالية والاجتماعية في ما يبدو حافزًا قويًا للحركة، للحصول على نصيبها من ثمار النجاح.
لا توجد معادلاتٍ ثابتة في فهم الحركة العمالية، فلا يمكن الخروج بالنتائج نفسها من المقدمات المتشابهة في كلِّ مرة، ولكن فهم حركة المجتمع والمعطيات المتوفرة يسهم في محاولة فهم الواقع واستشراف المستقبل.
لقد مثَّلَت فترة تسعينيات القرن الماضي بالفعل الفترة الذهبية لمبارك، فرغم أنها كانت الفترة التي شهدت تطبيق سياسات الإصلاح الاقتصادي، والمشاركة في حرب عاصفة الصحراء وتصفية القضية الفلسطينية، وهي أيضًا فترة الحرب على الإرهاب بما شهدته من توسيع صلاحيات الأمن وتدجين المعارضة السياسية، فقد كانت الفترة التي تمكَّن فيها من ترسيخ سلطته لدرجةٍ استثنائية ليتحوَّل إلى فرعون حقيقي.
ولكن نجاح برنامج الإصلاح الاقتصادي، من وجهة نظر النظام، مع مطلع الألفية وتباهي السلطة بهذا النجاح، حرَّر المطالب المجمدة ودفع قطاعاتٍ مختلفة للمطالبة بنصبيها في ثمار النمو.
يتشابه ما يجري الآن من أكثر من ناحية مع ذلك، فالتراجع الواضح في الحركة العمالية والاجتماعية منذ 2013 وحتى الآن صاحَبَه هجومٌ عنيف على أوضاع العمال والفقراء والطبقة الوسطى، وكلما ازاداد الهجوم كان رد الفعل يتراجع أكثر، عكس ما كان مُتوقَّعًا؛ فالهجوم على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي كان يصاحبه دائمًا هجومٌ أمني وإعلامي وسياسي.
ولكن في الوقت نفسه، تبدو الاختلافات أكثر من التشابهات على أكثر من صعيد؛ فمطلع الألفية كانت الفترة التي شهدت بداية حراك سياسي في الشارع المصري، من دعم انتفاضة الأقصى إلى مناهضة الحرب على العراق إلى حركة الإصلاح الديمقراطي؛ أي أن الحركة المطلبية تنامت في ظلِّ بداية انفتاح سياسي وحراك في الشارع، بعكس الوضع الحالي الذي يمثِّل انتكاسةً للحياة السياسية عقب ثورة. كذلك القبضة الأمنية التي تعاني من الحركة السياسية والاجتماعية على السواء اليوم لا يمكن مقارنتها بأيِّ فترةٍ سابقة. علاوة على أن مطلع الألفية يُعتَبَر بداية ظهور تأثير الانفتاح الإعلامي وتراجع هيمنة الدولة على وسائل الإعلام، بظهور القنوات الفضائية في النصف الثاني من التسعينيات ثم الصحافة الخاصة ثم الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، بينما تمثِّل الفترة الحالية تراجعًا كبيرًا عن كل ذلك بسعي الدولة -ونجاحها إلى حدٍّ كبير- في استعادة هيمنة مُطلَقة على كافة وسائل الإعلام.
ولكننا في كلِّ الأحوال لسنا بصدد عقد مقارنة بين فترتين، وإنما بصدد محاولة فهم احتمالات صعود الحركة الاجتماعية في الفترة المقبلة، وربما يكون إعلان السلطة رفع الحد الأدنى للأجور، كما حدث في أبريل الماضي، مُحفِّزًا لمطالب عمالية واجتماعية أكثر من إعلانها رفع أسعار المواصلات والوقود، لأن الإمكانية والاستحقاق يمكن أن يكونا أكثر تأثيرًا في الحركة العمالية والاجتماعية من الهجوم والمعاناة.
وبينما تبدأ اليوم الدولة في إعلان مؤشرات نجاحها في الإصلاح الاقتصادي، يبدو منطقيًا -أو حتى مُحتَمَلًا- أن تظهر مطالب بتقسيم ثمار هذا النجاح، وأن يحصل من تحمَّلوا أعباء الإصلاح على بعضها، خاصةً عندما تبدو الدولة قادرةً على رفع الحد الأدنى للأجور وزيادة المعاشات إضافةً إلى أن ظهور هذه المطالب لن يكون بالضرورة مشابهًا لفترة سابقة، سواء في الآليات أو الأدوات أو التنظيم. وهو ما يستدعي بالضرورة الاستعداد للكثير من الاحتمالات.
يتباهى النظام اليوم بالوصول بمعدلات النمو إلى 5.5% وبتجاوز احتياطي النقد الأجنبي 40 مليار دولار، وبتحسُّن سعر الصرف وتحقيق فائض أولي في الموازنة، وبإشادة لا تنقطع من قبل المؤسسات الدولية بنجاح برنامج الإصلاح الاقتصادي المصري. هناك بالطبع الكثير مما يمكن توجيهه لخطاب الدولة لتفنيده، فالمؤشرات الاقتصادية التي الذي يتباهى بها النظام تحقَّقَت عبر وصول الدين العام لحدود خطرة وأصبحت أعباء الدين تلتهم النسبة الأكبر من الموازنة العامة، علاوة على أن التكلفة الاجتماعية للإصلاح كانت استثنائيةً في أثرها على الطبقات الفقيرة، وتراجع معدلات البطالة ارتبط بالتشغيل في قطاعاتٍ هشَّة ومؤقَّتة.
ولكن قد يكون الأهم من تفنيد خطاب السلطة الاقتصادي في هذه اللحظة، رغم أنه مطلوبٌ في كلِّ الأحوال، هو بناء الخطاب المطلبي المتناسب مع النجاح المزعوم، فإذا كانت السلطة نفسها تصرُّ على أنها نجحت، وأن إصلاحها الاقتصادى يؤتي ثماره، فأقل ما يجب هو توزيع ثمار هذا النجاح، وأن يحصل من تحمَّلوا العبء الأكبر في الإصلاح على حقهم. إذا كان هناك تحسُّن في سعر الصرف، فهذا يعني طرح أسئلة جريئة حول أسعار السلع التي ارتفعت بسبب ارتفاع سعر الصرف. وإذا كانت البطالة تتراجع وهناك زيادة في معدلات التوظيف، فيجب مناقشة شروط العمل. وإذا كانت الموازنة تُحقِّق فائضًا أوليًّا، فيجب مناقشة الإنفاق على الدعم والأجور.
الاحتجاجات القليلة التي تجري في هذه الفترة ربما تكون مقدمةً لموجةٍ جديدة من الاحتجاجات الاجتماعية والعمالية، والتي تدعمها قصة النجاح التي تردِّدها السلطة؛ مجرد احتمال يدعمه فهم تطوُّراتٍ سابقة رغم الاختلافات الكثيرة، وهو ما يجعل مناقشة وفهم الأوضاع الحالية ووضع التجمُّعات العمالية والمهنية والإمكانيات المتوفِّرة والقدرة على التفاعل معها أمرًا ضروريًا للغاية، لأن ما سيجري في المستقبل -إذا جرى بالفعل- لن يكون بأي حال مجرد تكرار لما حدث من قبل.