صناعة الأثاث بين إرث الماضي وتحديات المستقبل

ترتكز صناعة الأثاث في مصر بشكل أساسي في محافظة دمياط، ولكن خلال السنوات الأخيرة أغلقت الكثير من ورش صناعة الأثاث أبوابها مُتأثرة بالوضع الاقتصادي العام حيث قفزت أسعار المواد الخام المُستخدمة في الصناعة بصورة غير مسبوقة وتأثرت الصناعة بسياسات التقشف وتعويم الجنيه بتحرير سعر الصرف، واستخدام أصحاب رؤوس الأموال الماكينات الحديثة لخفض التكاليف. ولم تعد الحرفة تُدر على العاملين بها إلا استهلاك الصحة والتعرض للإصابة بالأمراض بدون مُقابل يكفي حد الكفاف من العيش، وفي هذه الظروف لا مجال للإبداع أو المهارة، فالحرفي الذي لا يزال يعمل في ورشته يعمل في الحقيقة لدى تاجر الموبيليا الذي لا يكُف عن “اصطياد” منتجه ببخس السعر، لتنتشر ظاهرة سماسرة الموبيليا بعد تزايد أعداد العاطلين من الحرفيين أو تعرض الحرفي الذي أغلق ورشته للاغتراب بالعمل لساعات داخل المصنع أو المكان الذي اضطُر إلى العمل به دون أن يكون له يد في المنتج الصادر.
مع عدم اعتراف عبد الفتاح السيسي بدراسات الجدوى لأياً من المشروعات التي يتم تنفيذها، تم إهدار ملايين الجنيهات لإنشاء مشروع مدينة دمياط للأثاث، ليعترف السيسي نفسه العام الماضي بعدم فهم طبيعة أهالي دمياط معللاً عدم ذهابهم للعمل داخل مدينة الأثاث لتعودهم على العمل بالورش أسفل منازلهم، بينما تصب جميع المُبادرات ومعارض التسويق والمراكز المعنية بصناعة الأثاث التي تحاول الدولة من خلالها النهوض بصناعة الأثاث في صالح المصانع الكبرى، وبدون تنظيمات نقابية أو جمعيات تعاونية فاعلة تُعبر عن مصالح الحرفيين.
تحولت المحافظة التي كانت جاذبة للعمالة من المحافظات المجاورة إلى محافظة تعاني من البطالة بعد أن كان يطلق عليها “يابان مصر”. وفي محاولة مِنا لفهم ما جَرىَ وكيفية الحفاظ على ما تبقى من هذه الصناعة قبل أن تندثِر بين قصور معارض الموبيليا المُشيدة من عرق الحرفيين وبين مشروعات السيسي الفاشلة أعددنا هذا التقرير.
• زيادة أسعار الخامات
شهدت أسعار المواد الخام ارتفاعات قياسية مدفوعةً بأزمة الدولار فعلى سبيل المثال قفز سعر متر الخشب الزان من حوالي 13700 جنيه إلى نحو 29000 جنيه على نفس الفترة “يوليو” من العام الماضي وارتفع سعر كيلو البوليستر من 35 جنيه إلى 70 جنيها خلال نفس الفترة، وقفزت أسعار الأخشاب بنسبة 30% خلال شهر مايو الماضي نتيجة لارتفاع أسعار الشحن ونقص سلاسل الإمداد الخشبية، فيما قفز سعر خشب “الأبلكاش” باختلاف أنواعه بسبب الحرب الروسية الأوكرانية بسبب استيراده من روسيا.
أدى ارتفاع أسعار المواد الخام المُستخدمة في الصناعة إلى عدم قدرة صغار ومتوسطي الصناع على تحقيق هامش ربح عند بيع منتجاتهم، مما أدى إلى إغلاق بعض الورش وتحولها إلى نشاطات أخرى وتصدرت المقاهي هذه الأنشطة البديلة، ولم تنجح غرفة صناعة منتجات الأخشاب CWWFI التابعة لاتحاد الصناعات المصرية التي تم إنشاؤها بموجب القرار الجمهوري رقم 453 لسنة 1985 في حل مشكلة ارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج والمشاركة في دراسة التشريعات التي تُمهد لتخفيض الجمارك على الأخشاب ومواد الدهانات والإكسسوارات كأحد المهام التي أُنشئت من أجلها وبقيت قابعة على كورنيش النيل مع الغرفة التجارية بالمحافظة دون أن تُحرك ساكناً وسط حالات الإغلاق المتزايدة لورش الأثاث.
• تحديث الصناعة
أدى استخدام الآلات الحديثة إلى القضاء عملياً على أهم ما يميز الأثاث الدمياطي وهي المهارة اليدوية المستخدمة فيها، ويتجلى هذا في انهيار أحد أهم الحرف في عملية التصنيع وهي مهنة الحفر على الخشب أو ما يعرف “بالأويمجي”، فأغلقت الكثير من الورش التي تعمل بهذه الحرفة والتي لا تعتمد على المواد الخام مُطلقاً، وتعتمد بصورة أساسية على العنصر البشري ومهارته، وأدى وفرة الإنتاج لمكن الأؤيما CNC إلى انهيار أُجرة الأويمجي بعد أن كان في السابق هو من يسعر قطعة الخشب التي يقوم بحفر الزهور عليها.
وفي حين تم افتتاح مركز تحديث الصناعة بمدينة دمياط الجديدة عام 2013، حيث يقوم المركز بعقد دورات إدارية ومهنية ووضع الخطط التي تهدف إلى تطوير المنشآت الصناعية من حيث جودة المنتج وصولا الى تسويقه، تقف الاشتراطات الرسمية من أوراق السجل التجاري والبطاقة الضريبية حائلا بين استفادة صغار الحرفيين من المركز، ولا يستفيد منه سوى أصحاب المصانع الكبيرة.
• المشاكل الصحية
بالإضافة إلى الأمراض الجلدية التي يتعرض لها الحرفيون نتيجة لعملهم بالأخشاب مثل تشقُق الأيدي والتقيحات، يتعرض النجارين والعاملين على ماكينات تقطيع وشق الأخشاب وماكينات الحلايا وغيرها إلى بتر الأطراف “أصابع اليد” في ظِل عدم وجود مستشفى متخصص بمدينة دمياط لعلاج مثل هذه الحالات التي تستلزم سرعة العلاج في الوقت المناسب.
ويتم تحويل المصابين إلى العيادات الخارجية بعد محاولة المستشفى وقف النزيف فقط، فيما يتعرض العاملون بحرفة دهانات وتلميع الأخشاب “الأستورجية” إلى الإصابة بأمراض الربو والحساسية وغيرها من أمراض الجهاز التنفسي حيث يتم استخدام العديد من المواد الكيميائية في الدهانات مثل البوليستر وغيرها من المواد المُلوثة للبيئة داخل الورش الغير مُجهزة لذلك من حيث توافر عوامل التهوية الجيدة فضلاً عن عدم تعود العمال على ارتداء الأقنعة والفلاتر التي تحميهم خلال عملية “رش” الموبيليا. أضف الى ذلك تواجد هذه الورش داخل نطاق المناطق السكنية أسفل المنازل، وتمثل قرية “الشعراء” و”شط الملح” أحد أبرز أماكن تجمع هذه الحرفة بكثافة، و من أجل تقليص التكلفة النهائية للمنتج يتعرض العاملون بحرفة تنجيد أطقم الأنتريه والصالون لأمراض الجهاز التنفسي حيث يتم إستخدام “الكرينه” المٌحملة بكميات كبيرة من الأتربة بدلاً من الإسفنج.
• الاغتراب
تدفع الظروف الاقتصادية من غلاء للخامات وغلاء أسعار المعيشة بشكل عام، فضلاً عن تربُص التجار لاصطياد منتجات الورش بأبخس الأسعار إلى تقليص مساحة الابتكار وارتباط العامل بما ينتجه، وتنامي شعور الاغتراب لدى العامل الحرفي في المصانع الكبيرة حيث أدى إغلاق الورش إلى اتجاه بعض الحرفيين إلى العمل بهذه المصانع وترك الورش التي عملوا بها لسنوات إضافةً إلى اتجاه بعض أصحاب الورش أنفسهم للعمل بالمصانع، حيث لم يتعود هؤلاء الحرفيين على تلقى تعليمات أو التعامل مع بعض حالات التسلُط من جانب رئيس العمال في المصنع “الأسطى” فضلا عن أنهم وجدوا أنفسهم مُعرضين لإنهاء عملهم في حالة عدم التماهي مع هذه الظروف نظراً لوجود الكثير من الحرفيين المُتعطلين.
• السماسرة
بدأت ظاهرة سماسرة الموبيليا من بعض أهالي المحافظة لسهولة الحصول على الأموال كبديل للعمل 12 ساعة يومياً في الورشة، حيث أدى انهيار الصناعة إلى انضمام العديد من الحرفيين إلى العمل كسماسرة للموبيليا، حيث يمكن ملاحظة “موتوسيكلات” السماسرة عند مداخل المحافظة يقومون بإيقاف السيارات التي تحمل أرقام محافظات أخرى لإقناع أصحابها بمرافقتهم إلى معارض مُعينة كأفضل المعارض بدمياط، بل يمكن ملاحظة السماسرة على الميادين الرئيسية داخل المحافظة نفسها.
ويقول الصناع أن السماسرة ساهموا في “تطفيش” الزبائن الوافدين من المحافظات الأخرى نظراً لما يتعرضون له من مضايقات في حالة عدم ذهابهم مع السماسرة إلى معارض الموبيليا فضلاً عن بعض حالات الغش التي يتعرض لها المُشتري من حيث جودة المنتج أو سعره، حيث يكون هناك اتفاق مُسبق بين أصحاب المعارض والسماسرة الذين يقومون بجلب الزبائن إلى المعرض.
• مدينة دمياط للأثاث
في 27 أبريل عام 2015 تم تخصيص مساحة 331 فدان لإقامة مدينة دمياط للأثاث كمنطقة صناعية حرفية وفقاً لقرار مجلس الوزراء رقم 999، وبُناءً على القرار تم تأسيس شركة مدينة دمياط للأثاث، وتم قيد الشركة بالسجل التجاري تحت رقم 104462 وفقا لأحكام القانون رقم 8 لعام 1997 وتعديلاته، وأنشأت المدينة بتكلفة بلغت 207 مليارات و925 مليون جنيه للمرافق بمنطقة شطا عند تقاطع الطريق الدولي الساحلي مع طريق دمياط – بورسعيد.
تتكون شركة دمياط للأثاث من عدد من المساهمين وهم بنك الاستثمار القومي بنسبة 45% ومحافظة دمياط 34% وشركة أيادي مصر للتطوير الحضري 17% والهيئة العامة لتنفيذ المشروعات الصناعية والتعدينية 4%، ويبلغ رأس مال الشركة 5.52 مليار جنيه مصري، ويُقدر سعر الورشة بالمدينة بحسب مساحتها حيث يبلغ سعر المتر على مساحة 50 الى 100 متر للورشة بنحو 5950 جنيه ليبدأ ثمن أصغر ورشة بالمدينة من 290 ألف جنيه ويُسمح بشراء الورشة بالتقسيط من خلال البنوك المشاركة بالتمويل وهي بنك مصر والتنمية الصناعية وQNB وبنك الإسكان والتعمير بقسط شهري يقدر بنحو 2900 جنيه، يُسدد على مدار 10 سنوات ليصل سعر الورشة الصغيرة بالتقسيط إلى نحو 384 ألف جنيها، ويُمثل سعر الورشة الصغيرة ثمن تخصيص الورشة فقط ولا يشمل الشروط الواجب توافرها من دهانات خاصة وتركيب شفاطات وغيرها من عوامل الأمان.
تطرح الشركة ايضاً أراضي صناعية داخل المدينة جاهزة المرافق لبناء مصانع مباشرة بحد أدنى 2000 متر للمصنع على أن يكون البناء على 65% فقط من مساحة الأرض، وبلغ متوسط سعر المتر للأراضي المرفقة بالمرحلة الأولى نحو 2000 جنيه بالدفع عن طريق الكاش أو التقسيط ذاتياً أو بتمويل بنكي، وفي محاولة لجذب الحرفيين إلى العمل بالمدينة الجديدة أعلنت مدينة دمياط للأثاث الشهر الجاري في بيان لها عن طرح وحدات صناعية للإيجار لصناعة الأثاث والصناعات المُكملة، بمساحات تبدأ من 400 متر وحتي 2600 متر، بأسعار تبدأ من 2100 جنيه لمساحة 100 متر. لكن الورش الصغيرة لا تستطيع التمُلك أو الإيجار في المدينة الجديدة نظراً لارتفاع تكلفة ذلك، فضلاً عن تحمل تكاليف إضافية لبعُد المدينة عن الصناعات المُكملة لصناعة الأثاث.
•التسويق
غالباً ما يتم احتكار منتجات الورش الصغيرة من جانب تُجار الموبيليا “أصحاب المعارض” وفق دُفعات أسبوعية للاستحواذ على إجمالي منتجات الورشة “الطريحة”، أو بشراء المُنتج في نهاية تصنيعه في حالات أخرى، فيما تعتمد المعارض على ذهاب المُستهلك المحلي الوافد من المحافظات الأخرى إلى المعارض لاختيار ما يناسبه قبل أن يتم نقله عبر سيارات أو مكاتب الشحن إلى المكان المُحدد، وفي بعض الحالات يتم ذهاب الوافدين من المحافظات الأخرى المُقبلين على الزواج أو لتجديد الأثاث إلى ورش التصنيع مُباشرةً بدون الذهاب إلى المعارض حيث يتم تحديد تصميمات مُعينة، ويعتمد أصحاب المعارض أيضاً على الاشتراك في معارض الموبيليا التي تُقيمها الدولة، حيث لا يستطيع غالبية أصحاب الورش من الاشتراك في هذه المعارض لصعوبة استخراج التراخيص والسجلات التجارية.
تُعد عملية التسويق أحد المعوقات الرئيسية للصناعة حيث تغلُب العشوائية على عمليات التصنيع بدون دراسة للسوق أو وضع خطة تسويقية فالصناعة تعتمد في الأساس على “توريث” الحرفة، بل يتم التعامل مع التسويق الخارجي بنفس الطريقة وبالرغم من وجود قسم للتسويق في عدد من المصانع الكبرى إلا أن عملها يقتصر فقط على “تصريف” المُنتج، ويعتمد أصحاب المصانع الكبرى والمستوردين على علاقاتهم الخارجية، ومراسلتهم عبر الإنترنت لشحن المنتجات إليهم أو بعد قيامهم بالحضور لاختيار ما يناسبهم.
وعلى الرغم من أنه تم افتتاح مركز تكنولوجيا الأثاث بمدينة دمياط للأثاث في الخامس من أكتوبر عام 2017 لتقديم خدمات الدعم الفني ونقل تكنولوجيا الأثاث لدفع صناعة الأثاث إلى المنافسة في الأسواق العالمية، وزيادة التصدير بالإضافة إلى أنشاء معرض داخل مدينة دمياط للأثاث على مساحة 3000 متر، ألا أن ذلك لم يساهم في تشغيل الصناعة التي باتت مهددة بالاندثار، وفي حين عمدت الدولة الى اختيار موقع مدينة الأثاث كموقع استراتيجي يدفع نحو سهولة عملية النقل والتصدير حيث تقع المدينة على مسافة لا تزيد عن 22 كيلومتر من ميناء دمياط و55 كيلو متر من مطار الجميل ببورسعيد و15 كيلو متر من السكة الحديد، إلا أن غياب العنصر البشري “الحرفيين” عن المدينة يدفع الفكرة برمتها إلى الفشل.
وقد شهدت صادرات الأثاث المصري تراجعاً كبيراً خلال السنوات الماضية، فوفقاً لمجلس تصدير الأثاث بلغت صادرات الأثاث خلال النصف الأول من عام 2020 نحو 122 مليون دولار مقابل 167 مليون دولار خلال نفس الفترة من عام 2019 بتراجع نسبته 26%، وفي حين ساهمت مدينة دمياط للأثاث في فرش العديد من المشروعات السكنية مثل بشائر الخير والأسمرات إلا أن الحرفيين يرون أن المساهمة بهذه المشروعات أضرت بسمعة الأثاث الدمياطي حيث يتم استخدام خامات رديئة لانخفاض السعر المُتفق عليه، والذي يستحيل معه إنتاج غرفة أثاث متوسطة على الأقل فضلاً عن انعدام الحرفية في الموديلات.
• الكيانات والتنظيمات العمالية
تهدف الجمعيات التعاونية إلى اتحاد بعض الأشخاص لتلبية احتياجاتهم وتطلعاتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المشتركة، ويوجد بالفعل العديد من الجمعيات التعاونية الخاصة بمجال الأثاث بمحافظة دمياط يُقدر عددها بنحو 5 جمعيات تتنوع أهدافها بين إنتاج الصناعات الخشبية والديكور وتجارة واستيراد مستلزمات الموبيليا واستيراد المواد الخام والأخشاب والتسويق. ولكن هذه الجمعيات بعيدة تماماً عن الحرفيين وصغار الصناع ويقتصر دورها على بعض أصحاب المصانع حيث يُشترط أن يكون لديهم سجل تجاري مسجل بالغرفة التجارية، كما لا توجد تنظيمات نقابية ذات صلة حقيقية بالحرفيين تدافع عن مصالحهم، لتصبح الغالبية من الحرفيين بدون تنظيمات تعبر عنهم في مقابل تجمعات المستوردين والتجار ورأس المال.
• التطور العمراني الناتج عن صناعة الأثاث
ساهمت صناعة الأثاث في التطور العمراني للمحافظة، ولكن هذا التطور لم يكن في مصلحة الحرفيين، وظهر التطور العمراني كمؤشر للعلاقة الطبقية بين الأقلية من التجار والمستوردين وبين الغالبية من الحرفيين، وبالنظر إلى مباني المعارض التي يتم من خلالها بيع منتجات الحرفيين فهي ليست بِنايات مُعتادة بل قصور مُشيدة من الرخام والأحجار ومع تراكم الأرباح امتدت هذه المعارض من مركزها الرئيسي على كورنيش النيل بمدينة دمياط إلى مناطق أكثر اتساعا كانت غير مأهولة سابقاً أو ليست من المراكز التجارية.
وشهدت مناطق مثل طريق المحور وطريق بورسعيد وغيرها بِنايات عملاقة لمعارض الموبيليا، وفي المقابل تراجع النمو العمراني لمساكن الأهالي من الحرفيين حيث أدى نمو ورش الموبيليا سابقاً إلى تعمير مناطق غير مأهولة نسبيا، فعلى سبيل المثال كان امتداد الورش إلى منطقة “شط جريبة” و”شط الملح” نقلة نوعية من حيث بناء المساكن وفتح الورش أسفلها، ومع انهيار الصناعة، لعبت شركات الاستثمار العقاري دوراً أكبر في بناء العمارات السكنية، وتراجع إسهام الحرفيين في بناء البيوت والورش، وأصبح السكن أحد الأعباء التي يعاني منها الكثير من الحرفيين، لارتفاع تكلُفة تأجير الوحدات السكنية بقانون الإيجار الجديد. تصدرت مدينة دمياط هذا التطور العمراني الطبقي باعتبارها مركز الصناعة يليها مدينة ومركز كفر سعد من حيث عدد المعارض، في حين كان للحرفيين من الريف الذين تلقوا تعليمهم بورش دمياط، ثم عودتهم إلى قُراهم، دوراً في تكوين بعض التجمعات الصناعية في الأرياف، مما أدى إلى تطور عمراني نوعي بالمناطق الريفية التي شهدت بنايات لمعارض الموبيليا وظهور طبقة من تجار الموبيليا بالأرياف.
• السياسات البديلة للنهوض بصناعة الأثاث
تمُثل أزمة استيراد المواد الخام المُستخدمة في صناعة الأثاث أحد المعوقات الرئيسية التي تؤدي إلى ارتفاع التكلُفة النهائية للمنتج مما يؤدى إلى ضعف القدرة التنافسية، ولم تكن محافظة دمياط بحاجة إلى المزيد من ورش مدينة دمياط للأثاث، فالورش متواجدة أسفل كل منزل، ولم تكن بحاجة إلى المصانع المتواجدة بالمنطقة الصناعية بمدينة دمياط الجديدة وتم إهدار الملايين من الجنيهات على إنشاء مدينة دمياط للأثاث، كان من الممكن أن يتم ضخها في تصنيع بعض المواد الخام المُستخدمة في صناعة الأثاث لتقليص نسبة المكون الأجنبي في المنتج مما يؤدي إلى زيادة قدرته التنافسية في السوق.
ونطرح عدة بدائل قد تساهم في حل هذه الأزمة
1. إتاحة الفرصة للحرفيين وأصحاب الورش الصغيرة: أن يكون لهم نسبة من الأسهم بالمصانع المنتجة للخامات بحيث يكون لهم سلطة المشاركة في اتخاذ القرارات المتعلقة بالإنتاج أو بتسعيره، للحفاظ على مصالحهم وعدم استغلالهم.
2. إنهاء الاحتكار: تحتكر مجموعة مُغلقة من المستوردين الكبار لواردات الخشب الزان والبياض والابلكاش والقشرة مما يؤدي إلى تحكمهم في سعر المواد الخام فضلا عن ضعف الدور الذي من المفترض أن تقوم به هيئة الرقابة على الصادرات والواردات مما جعل محتكرين الخامة “المجموعة” تقوم باستيراد خامات خشبية رديئة مثل أخشاب الفيبر MDF وغيرها لمراكمة المزيد من الأرباح مما يؤدي إلى تدني مستوى المنتج النهائي.
3. تنويع مصادر الاستيراد: ضرورة تنويع مصادر الأخشاب والابلكاش بعد ارتفاع الأسعار بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، واحتكار الصين لغابات الأخشاب في رومانيا التي تُعد المصدر الرئيسي لاستيراد الخشب الزان مما أدى إلى تضاعف اسعاره، ويمكن الاعتماد على استيراد الأخشاب من كوبا أو اليابان والتي تتميز بجودة عالية.
4. الاعتماد على العنصر البشري: تتعامل الدولة من خلال مبادرتها للنهوض بصناعة الأثاث من خلال مراكز دعم الصناعة وإقامة المعارض وغيرها باعتبار صناعة الأثاث في محافظة دمياط كقطاع من الاقتصاد الرسمي، متجاهلةً أن العمود الفقري للصناعة في دمياط هو العنصر البشري الذي يقوم بعملية التصنيع بالورش الصغيرة أسفل المنازل وهو اقتصاد غير رسمي بدون سجلات تجارية أو بطاقات ضريبة وغيرها من الاشتراطات الرسمية، ولا تسمح الظروف التي يتعرض لها الحرفيين المحاصرين بين مستوردي المواد الخام وأصحاب معارض الأثاث أن يندمجوا تحت مظلة الاقتصاد الرسمي فهذه الاشتراطات فوق طاقة هذه الورش الصغيرة وبالتالي تصب كل المبادرات التي تقدمها الدولة في صالح أصحاب المصانع الكبيرة ومن يستغلون العمال أنفسهم، ولابد من توجيه هذه المبادرات لصالح هذه الورش الصغيرة للنهوض بها فهي حجر الأساس لهذه الصناعة.
5. تكوين نقابات مستقلة: تكوين نقابات معبرة عن الحرفيين وجمعيات تعاونية إنتاجية يستطيع من خلالها الحرفيين أن يمتلكوا وسائل الإنتاج بشكل جماعي واستغلالها بصورة جماعية لتحقيق مصالحهم والحفاظ على الصناعة من الاندثار وتسويق منتجاتهم بالتنسيق مع الجهات ذات الصلة.
6. التعاقدات من خلال الورش الصغيرة: تتعاقد الدولة مع كبار الشركات والمعارض لتوريد الأثاث إلى الجهات الحكومية ومشروعات الإسكان الاجتماعي، متجاهلة الورش الصغيرة أو التجمعات المناطقية لهذه الورش التي من الممكن أن تشترك لتنفيذ هذه التعاقدات مما يسهم في انتعاش الورش باعتبارها النواة الرئيسية لهذه الصناعة.
7. تأسيس شركات متخصصة لتسويق الأثاث ودراسة الأسواق الخارجية لدفع معدلات التصدير على أن يكون لصغار الحرفيين نسبة من أسهم هذه الشركات والمشاركة في اتخاذ القرارات.
8. الحد من التوسع في استيراد الأثاث الصيني، حيث يعتمد الأثاث الصيني على الأخشاب الصناعية الرديئة ذات التكلفة المنخفضة، والاهتمام بتشطيب المنتج “التفنيش” مما يؤدى إلى ركود المنتج المحلي للأثاث.
9. إنشاء كلية متخصصة لتدريس تصميم وصناعة الأثاث، والسماح للورش الصغيرة بالاندماج في مراكز ودورات تطوير الأثاث بدون التقيد بالاشتراطات الرسمية من سجلات تجارية وضريبة وغيرها.
10. تدريب العمالة الحرفية على استخدام الآلات الحديثة، واستخدام هذه الآلات كوسيلة لزيادة الإنتاج وفتح أسواق جديدة للتسويق، بحيث تساهم هذه الآلات في رفاهية العامل وتوفير جهده وليس بتوفير أجره.
11. تسجيل براءات اختراع للموديلات الجديدة، التي يقوم الحرفيين بابتكارها لوقف حالات المحاكاة “التقليد”.
12. إدماج الورش الصغيرة ضمن منظومة الأمن الصناعي بخطوات تدريجية بحيث تكون هذه الورش مستوفيةً لمعايير الصحة والسلامة المهنية.
13. إنشاء هيئة للاستعلامات خاصة بصناعة الأثاث لإتاحة المعلومات المُتعلقة بأسعار الخشب والمواد الخام وتقديم الدعم الفني والمعلوماتي للحرفيين، وللعملاء الوافدين للمحافظة لشراء الاثاث.
14. إدماج العمالة الحرفية ضمن منظومة التأمين الصحي والاجتماعي، والإسراع في إنشاء المستشفى الخاص بجراحة الأطراف.
وبلا شك أن إنقاذ صناعة الأثاث في دمياط هو انقاذ لمجتمع الحرفيين وأسرهم وللعلاقات الاجتماعية التي تأثرت بما آلت إليه الصناعة، فالمحافظة التي كانت “كخلية نحل” لا ينقصها الطموح كما يقول السيسي مُعلقاً على عدم ذهاب الحرفيين للعمل بمدينته للأثاث القابعة في أطراف المدينة.
في الحقيقة ما ينقص المحافظة التي عرف عنها تقديسها للعمل هو فتح المجال العام وإطلاق حرية تكوين الروابط والنقابات والجمعيات التعاونية التي تمكن أصحاب المصلحة الحقيقية من التعاون وملكية وسائل ومواد الإنتاج، ما تحتاجه صناعة الأثاث هو رفع القبضة الأمنية والرأسمالية على السواء عنها، وهذا ما عبر عنه الحرفيين خلال الاحتجاجات عام 2019، عندما أسقطوا صورة عبد الفتاح السيسي في ميدان الساعة “ميدان الثورة” وتصدرت حينها دمياط أكبر المحافظات من حيث عدد المعتقلين، فالطريق لتطوير الصناعة والحفاظ عليها يبدأ من أسفل، من الحرفيين أنفسهم، هذا ما أثبتته التجربة، فدعم ورش الأثاث الصغيرة هو الطريق الذي ضل عنه السيسي عندما قام ببناء مدينة دمياط للأثاث.
• المصادر والمراجع :
• المصادر الرسمية ..
*الموقع الرسمي لمحافظة دمياط
*الموقع الرسمي لمدينة دمياط للأثاث
*الموقع الرسمي لوزارة التجارة والصناعة
*الموقع الرسمي لاتحاد الصناعات المصرية
*الموقع الرسمي لجهاز تنمية المشروعات
*الموقع الرسمي لخريطة مشروعات مصر
*موقع الهيئة العامة للاستعلامات
•الدراسة والملاحظة الميدانية ..
*الدراسة والملاحظة الميدانية (2023) لمعارض وورش
صناعة الأثاث بمحافظة دمياط، يوليو 2023
• أبحاث ودراسات
*منار علي (2021) بحث لدرجة الماجستير “جهود الدولة للنهوض بصناعة الأثاث بمحافظة دمياط”، كلية البنات جامعة عين شمس، أكتوبر 2021.
*مروة عيسى (2019) بحث لدرجة الدكتوراه “اقتصاديات صناعة الأثاث الخشبي بمحافظة دمياط “، قسم الجغرافيا ،كلية الآداب جامعة المنصورة، سبتمبر 2019
* المجلة العلمية للدراسات والبحوث المالية والتجارية (2020) بحث “صناعة الأثاث في محافظة دمياط.. تحديات الواقع وطموحات المستقبل”، صادر عن كلية التجارة جامعة دمياط، يوليو 2020
* شريف محمد (2015) دراسة – أستاذ مساعد علم الاجتماع بكلية الآداب، جامعة القاهرة “أثر الركود الاقتصادي في الصناعات الحرفية بمحافظة دمياط..صناعة الأثاث نموذجاً”، ديسمبر 2015
• أرشيف بوابة الاشتراكي ..
*مقال- معاناة حرفي دمياط: استغلال وتجاهل وأزمة كهرباء وغلاء ،أكتوبر 2013
* مقال- مدينة دمياط للأثاث منطقة أشغال عسكرية، مايو 2017
* مقال- نجارو دمياط و أزمة الأبلكاش، أبريل 2018
* مقال -صناعة الأثاث في دمياط.. وقف الحال بأمر الدولة، نوفمبر 2018
* مقال – مدينة أثاث دمياط. نموذج أحلام السيسي الذي أفسده بنفسه ، أكتوبر 2022 .