مشروع قانون الوظيفة العامة..
آخر طريق الوظيفة الميري
ليس مشروع قانون الوظيفة العامة، الذي تجهزه وزارة التنمية الإدارية حاليا للدفع به في أقرب فرصة، كارثة فقط بالنسبة للعاملين بالجهاز الإداري للدولة وأسرهم -والذين يبلغون أكثر من 5.5 مليون موظف أو حوالي 20 مليون مواطن مصري في المتوسط- وإنما علي أغلبية الطبقات الفقيرة. فالعاملون بالجهاز الإداري للدولة هم موظفو القوي العاملة والتأمينات، والضرائب بأنواعها، والتعليم والصحة وغيرها من الوظائف التي تمس حياة المواطنين. هذا القانون ينسف عقد اجتماعي تاريخي عقدته الدولة منذ الستينيات بضمان الوظيفة الحكومية لخريجي الجامعات، والذي توسع بعدها ليضم آخرين بمؤهلات متوسطة والحاصلين على الشهادات الفنية. هذا العقد الاجتماعي كان القشة الأخيرة التي يستمسك بها من يبحث عن وظيفة آمنة ولو بدخل ضئيل. لقد كان موظفو الحكومة يتحملون مرتباتها التي لا ترقي لأن تكون إعانة بطالة، وذلك بحثاً عن الاستقرار والأمان في الوظيفة، التي يفتقدونها في القطاع الخاص خاصة بعد تطبيق قانون العمل الجديد. بهذا تستبدل الحكومة المثل السائد “إن فاتك الميري أتمرغ في ترابه”، بـ “آخرة خدمة الحكومة فصل وتشريد”. هذا ما ينضح به مشروع قانون الوظيفة العامة، الذي بإنهائه هذا العقد الاجتماعي يهدد بمفاقمة عدد العاطلين، وبهجمة جديدة على أجور الموظفين الذين سيبقون، بل وفي تقدير العديد من الخبراء والقانونيين بدعم الفساد.
التاريخ
ربما يسبق هذا المثل الشعبي المتعلق بالوظيفة الميري هذا التطور الهائل الذي شهده جهاز الخدمة المدنية المصري أو ما اصطلح على تسميته بالجهاز الإداري للدولة مع مطلع الستينيات. البرجوازية المصرية التي اقتربت من تبني واضح لرأسمالية الدولة قررت أنها محتاجة لأعداد متزايدة من الموظفين والمهنيين للاستجابة لدواعي التراكم والنمو الرأسماليين. ومن ثم قررت إتاحة التعليم للجميع بشكل مجاني حتى في التعليم الجامعي وأنتجت عقدا اجتماعيا جديدا لهؤلاء عام 1961 يتيح لهم تعيينا آليا في وظيفة حكومية مضمونة وهو العقد الذي تم توسيعه في 1964 ليضم خريجي المدارس الثانوية والفنية. أدى ذلك إلى نمو متزايد في جهاز الخدمة المدنية تواصل حتى نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات.
ومع بدء ولاية مبارك بدأ التحرك نحو تبني قواعد اقتصاد السوق، المتناقضة مع الأمان الوظيفي، يكتسب زخما ومعه بدأ التفكير في تقليص حجم الجهاز. من هنا بدأ تشجيع الحصول على الأجازات بدون مرتب للعمل بالخليج. وأدى هذا بحسب اقتصاديين مصريين ليبراليين إلى تحسين أداء القطاع العام المالي والاقتصادي لكن ظلت معايير التحرير الاقتصادي تقول إن الأجور التي تدفعها الدولة للموظفين عبء لا يجب أن تتحمله موازنتها بما أنها يجدر بها الانسحاب من الحياة الاقتصادية.
وفي العام 1991، وفي أعقاب أزمة ميزانية عنيفة، تبنت مصر برنامج التكيف الهيكلي بالاتفاق مع البنك الدولي والصندوق ليبدأ الضغط الحقيقي، الذي تزامن مع تدهور هائل في الكفاءة الإدارية ومستويات الأجور الحقيقية للموظفين، لكن أيضا مع مقاومة شديدة من البيروقراطية الكبيرة التي رأت في تقليص الجهاز الإداري للدولة تقليصا لمزاياها السياسية والاقتصادية. وهكذا وبرغم الحديث المتكرر عن ضرورة التوجه للوظيفة الحرة الخاصة وتحجيم التعيينات ظل التعديل الجذري الذي تتطلبه ضرورات التراكم الرأسمالي الجديدة معلقا إلى أن جاءت حكومة نظيف التي خصصت لهذا الغرض وزارة التنمية الإدارية لإنجازه ضمن برنامجها النيوليبرالي الطموح لدفع هوامش الأرباح الرأسمالية.
المبررات
نحن نتعامل مع جهاز مترهل يستنزف ميزانية الدولة وتتراجع كفاءة تقديمه للخدمات وهناك ضرورة لإصلاحه. هذا ما تقوله الدولة. وهي تبني موقفها أيضا على حجتين يكشفان بوضوح عن منهجها ونواياها بخصوص التعامل مع الحقيقة الأولى التي تبدأ منها. الأولى هي أن برامج توظيف القوى العاملة قد أدت إلى ضغط كبير على التعليم الجامعي هو الذي أدى لتراجع مستواه ونوعيته! أي أن تراجع التعليم ليس بفعل تراجع الإنفاق العام وخصخصة التعليم وتسرب الفقراء منه، وإنما لأن عددا أكبر من الناس يطلبونه للحصول على الوظائف.
الحجة الثانية هي فاتورة الأجور التي تتحملها موازنة الدولة لموظفيها والتي يصفها الاقتصاديون الليبراليون بأنها هي والدعم الوحش الذي يلتهم عوائد الدولة. كما أن ساعات العمل القليلة التي تضمنها الوظيفة الحكومية والتي تتيح للموظفين القيام بأعمال أخرى تضر بنمو القطاع الخاص محرك النمو وتزيد من الاقتصاد غير الرسمي. وترد هذه الحجة على نفسها إذ أنها تشير بوضوح إلى تدني مستويات الأجور بالنسبة للموظفين الصغار، حيث لا يمثل الأجر الأساسي سوى حوالي عشرين في المائة من ميزانية الأجور التي وصلت في ألفين وأربعة إلى أكثر من خمسين مليار جنيه بقليل. أما الحوافز وغيرها من الأجور الإضافية التي يحصل كبار الموظفين على نصيب الأسد منها فهي تستحوذ على ثمانين في المائة منها. المشكلة إذن ليست في ملايين الموظفين الصغار وإنما في القطط السمان الذين سيستمرون بالطبع في الوجود وإن قد تختلف انتماءاتهم الطبقية والسياسية (فقط أنظر إلى مستشاري وزراء الاستثمار والتجارة الخارجية وغيرهم الذين يحصلون على مرتبات بآلاف الجنيهات شهريا وليس العشرات القليلة التي يحصل عليها الموظف الصغير). ويكشف مشروع القانون الجديد بوضوح عما ترغب الحكومة والبرجوازية من خلفها من وراء الدفع به.
القانون.. الكارثة
إن فلسفة مشروع قانون الوظيفة العامة تتعامل منذ اللحظة الأولي لا علي اعتبار الموظف إنسان له حقوق اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية، ولكن علي أنه سلعة. يتضح هذا كلما مررنا علي مواد هذا المشروع الكارثة. فبداية من الاسم فقد تم تغييره من “قانون نظام العاملين المدنيين بالدولة”، إلي “قانون الوظيفة العامة”. لكن الأهم هو أن المشروع الجديد يحول الوظيفة الحكومية إلى نظام العقود المؤقتة لعدة سنوات، ثم بعدها يتقدم الموظف من جديد لشغل وظيفة سواء في وحدته التي عمل بها، أو في أي وحدة أخري. هذا وقد عمد هذا المشروع إلي إغفال الكثير من الحقوق التي كانت منظمة في القانون السابق، ولم يأتي بذكرها لا من قريب ولا من بعيد.
كذلك أحال الكثير من المسائل الهامة والتي تمثل مسألة حياة أو موت بالنسبة للموظف، إلي اللائحة التنفيذية والتي لن تصدر إلا خلال ستة أشهر من تاريخ العمل بأحكام القانون كما ورد بالمادة الثانية بالمشروع. إذن علينا أن نقبل القانون بدون أن نعرف الجداول التي تنظم درجات الوظائف، أو جداول الأجور، كذلك علينا أن ننتظر تفسير للمادة الأولى من الباب الأول والتي جاء بها “الوظائف المدنية تكليف للقائمين بها لخدمة أشخاص وإنجاز مصالحهم بشكل متميز وفي أقل وقت ممكن علي نحو يكفل تنمية المجتمع”. ماذا يعني بكلمة (لخدمة أشخاص) فلننتظر حتى يصدر القانون ويطبق ثم تصدر اللائحة التنفيذية لتحدد لنا ما يجب علي الوحدات الخاضعة لأحكام هذا القانون عمله لكفالة فاعلية دور الوظائف المدنية!!
وغيرها الكثير مما سنستعرضه، هذا وقد تم الخلط طوال مواد المشروع بين الاعتداء علي حقوق العاملين، وإخفاء الكثير من المعلومات، سواء عن طريق الإحالة للائحة، أو جداول غير موجودة، فيما يلي سنعرض لبعضها:
أولا، علي ما يبدو أن أجور العاملين الحالية والتي تضعهم جميعاً تقريباً، فيما عدا الوظائف القيادية، تحت خط الفقر حسب المقاييس الدولية، يبدو أن الطبقة الحاكمة بدلاً من أن تفكر في رفع أجور العاملين لكي تتناسب مع الأسعار ولكي تمكنهم من العيش وأسرهم حياة كريمة، فإنها تفكر في خفض أجورهم. هذا بالإضافة إلي ما ورد بالفصل السادس والمسمى “الأجور والعلاوات والحوافز والمزايا الأخرى” م27 “ويجوز بقرار من مجلس الوزراء بناء علي عرض الوزير المختص بالتنمية الإدارية واقتراح الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة، تعديل الجدولين المشار إليهما بالزيادة أو إضافة جداول أجور أخري للوظائف التي تقتضي طبيعتها ذلك. وذلك كله بما يتناسب مع طبيعة كل وظيفة وأعبائها ومسئوليتها وبمراعاة الظروف الاقتصادية السائدة”. علماً بأن الجدولين المشار إليهما لم يتم وضعهما بعد، معني هذا بأنه سيكون هناك تمييز بين العاملين وبعضهم البعض في الأجور، فلن توضع في الاعتبار ضرورة رفع الحد الأدنى الأساسي للأجور لكل العاملين بحيث يكفي لحياة كريمة.
ثانيا، الاعتداء علي حق العاملين في استخدام أجازاتهم حين الحاجة إليها، وإجبارهم علي استنفاذها خلال ثلاث سنوات علي الأكثر من تاريخ العمل بالقانون الجديد. ولا يستحق الموظف مقابلاً عن أي قدر من هذا الرصيد إلا إذا تقدم بطلب لاستنفاذه ورفضته السلطة المختصة لأسباب ترجع إلي مصلحة العمل، وذلك لكي تحرم آلاف بل وربما ملايين من العاملين من حقهم في صرف بدل رصيد الإجازات عند الوصول لسن المعاش. بخلاف هذا الاعتداء فهذا معناه إرباك وتعطيل العمل، وذلك لأن لدي الكثير من العاملين اللذين قضوا في الخدمة أكثر من 25 سنة أكثر من 500 أو 600 يوم إجازة أي ما يقرب من السنتين. معني هذا أن هؤلاء الموظفين لكي يستنفذون رصيد إجازاتهم سوف لا يتواجدون في أماكن عملهم في نفس الوقت أكثر من ثلثي مدة الثلاث سنوات.
ثالثا، وفي شروط شغل الوظيفة شرط خطير: “أن تثبت لياقته الصحية لشغل الوظيفة” والذي كان موجوداً في القانون 47، ولكن مع شروط شغل الوظيفة المؤقت لعدد من السنوات. وفي حالة تطبيق هذا الشرط في كل مرة، سوف يأتي علي الموظف وقت لا ينطبق عليه هذا الشرط بعد أن يكون قد أفني عمره وصحته في الوظيفة فأين يذهب هو وعائلته؟؟
رابعا، في الوقت الذي ترك المشروع فيه حقوق الموظفين مبهمة وأحالها للائحة التنفيذية، نجد أنه شرح بالتفصيل كيفية مجازاة الموظف، فعلي سبيل المثال، تفصل المادة 39 في عدد الجزاءات التي يجوز توقيعها علي الموظف بالطبع مع تغليظها.
خامسا، توسع المشروع في أسباب إنهاء خدمة الموظف، فبدلاً من 7 أسباب في قانون 47، أصبحت 11 سبباً. هذا بالإضافة إلي أنه أضاف لبعضها من الألفاظ المبهمة والتي تخضع لعدد من التفسيرات لكي تضع العديد من الموظفين وبالذات غير المرضي عنهم تحت طائلة هذا الشرط، مثل المادة 44: “الحكم عليه بعقوبة جناية أو بعقوبة مقيدة للحرية في جريمة مخلة بالشرف أو الأمانة أو تفقده الثقة والاعتبار”. هذا وقد أضيفت في المشروع “أو تفقده الثقة والاعتبار” علي السبب في القانون الحالي، وهي كما نري مطاطة، ماذا يقصد بالثقة، الثقة لدي من والاعتبار في عيون من؟؟!!
سادسا، فتح المعاش المبكر، مع إضافة مميزات لإقناع الموظفين للخروج علي المعاش المبكر بداية من سن الخمسين: ترقية الموظف إلي الوظيفة التالية لوظيفته من اليوم السابق علي تاريخ إحالته للمعاش وتسوية حقوقه التأمينية بعد الترقية علي أساس مدة اشتراكه في التأمينات الاجتماعية مضافاً إليها خمس سنوات. ولا نعرف في هذه الحالة هل ستتحمل الدولة هذه الفروق أم ستحمل علي التأمينات؟
هجمة على الموظفين الصغار لصالح الفاسدين الكبار
تؤكد دراسة حديثة للمشروع أعدها المستشار ماهر أبوالعينين، نائب رئيس مجلس الدولة، ليس فقط على ما سبق الإشارة إليه من أن القانون الجديد لا يراعي البعد الاجتماعي، بل أنه يفتح الباب علي مصراعيه للفساد فضلاً عن مخالفته للواقع والدستور وامتلائه بالشبهات الدستورية. فالأخذ بنظام التعاقد كطريق وحيد لشغل الوظائف يخالف روح ونصوص الدستور. فوفقاً للمادة 14 من الدستور فإن الوظائف العامة “تكليف للقائمين بها وتكفل الدولة حمايتهم وقيامهم بأداء واجباتهم ورعاية مصالح الشعب ولا يجوز فصلهم بغير الطريق التأديبي إلا في الأحوال التي يحددها القانون”، وهو ما يعني عدم جواز تأقيت الوظيفة العامة وشغلها إلا من خلال ضوابط تبرر إنهاء خدمة الموظف.
مشروع قانون الوظيفة العامة تعبير عن عداء متأصل في برنامج وفلسفة حكومة نظيف، وتوسيع لنطاق ضرباتها لشريحة واسعة جديدة من فقراء المصريين إلى درجة تستوجب اعتبار إيقافه وتعطيله هدفا رئيسيا على جدول أعمالنا وجدول أعمال كل من يصنف نفسه على جانب الفقراء من المتاريس.