بساطة – إخلاص – صمود
عم أحمد خضر
مشهد أول
الزمان: بعد منتصف الليل بساعتين من ليلة ممطرة من شتاء 1951
المكان: حواري بولاق أبو العلا حيث توجد بعض ورش الحرفيين وسط البيوت
الشخوص: رجل قصير القامة، نتعرف عليه بعد لحظات
أحمد الجنايني، عامل نسيج، عضو منظمة “النجم الأحمر”( منظمة شيوعية).
خالد حمزة، طالب ثانوي، مرشح لعضوية منظمة “طليعة العمال” (منظمة شيوعية)
المناخ العام: حركة جماهيرية تتزايد يقودها الشيوعيون وبعض العناصر الوطنية الديمقراطية، ضد سياسات القصر الملكي والقوى السياسية الخائنة والمهادنة للاحتلال الإنجليزي، وبدايات لعمليات مسلحة ضد قوات الاحتلال الإنجليزي في مدن القنال.
كان هناك جدل حول أيهما أولى بالتركيز النضال السياسي ضد القوى الرجعية في الداخل، أم الكفاح المسلح في القنال وكان رأي الشيوعيين ومعهم العناصر الوطنية الديمقراطية أن الكفاح المسلح هو الطريق لطرد قوات الاحتلال، لكنه مهدد بالتآمر عليه من قبل القوى الرجعية ما لم تتم إزاحتها وإحلال قوى وطنية ديمقراطية مكانها تحمي الكفاح المسلح وتمده بكل احتياجاته.
كان رأي قيادة جماعة (الإخوان المسلمون) عدم التعرض للقوى الرجعية والتركيز على الأعمال الفدائية المنفردة في القنال. في هذه الفترة كانت منظمة “طليعة العمال” ومنظمة “النجم الأحمر” يمارسان تنسيقا فيما بينهما في بعض الأعمال الجماهيرية والسرية، قمنا أحمد الجنايني وأنا بتوزيع منشور يحمل توقيع “النجم الأحمر” يدعو إلى الصراع المستويين السياسي والمسلح.
قرب نهاية توزيع المنشورات، لمحنا العسكري الطواف (عسكري يركب دراجة) ننحني على أسفل الباب الحديد لندخل المنشور إلى أحد الورش، ظن أننا لصوص، زعق بصفارته، جرينا، أسرع خلفنا بدراجته، فجأة برز رجل قصير واصطدم بالدراجة،وقع الرجلان على الأرض، أثناء تحسس كل منهما جسديهما كنا قد هربنا.
قلت لأحمد:
– نجونا بالصدفة، معجزة
أجاب أحمد:
– ولا معجزة ولا حاجة، الراجل اللي رمى نفسه على العجلة، معانا، زميل من النجم.
مشهد ثان
الزمان: صيف 1958
المكان: سرادقات الاتحاد القومي (تنظيم سياسي وحيد أقامه النظام وفرض وصايته على الشعب)، سرادقات أقامها النظام لترويج سياساته وبحثا عن شعبية.
الشخوص: نفس شخوص المشهد الأول بالإضافة إلى عدد من الشيوعيين وسط حشد جماهيري
المناخ العام: كان نظام عبد الناصر قد خاص معارك ضد الهجمات الاستعمارية بتأييد مطلق من الشيوعيين، أعقبها تمصير الشركات الأجنبية التي كانت تربح كثيرا من عرق العمال المصريين وتحرمهم من حقوق كثيرة، تم التمصير بعيدا عن أي دور أو مشاركة للشعب وبواسطة الأجهزة الفوقية والأمنية، وانفرد العسكريون والمدنيون المحيطون بهم بإدارة هذه الشركات على ذات النمط الرأسمالي، بل إن بعضهم حرم العمال من بعض مميزات حصلوا عليها من المستثمر الأجنبي عبر صراعات طويلة.
أفاق الشيوعيون وتنبهوا أنهم في غمرة تأييدهم للنظام في معاركه الوطنية، قد نسوا أنهم في الأساس ممثلين للشعب وخاصة الطبقات الكادحة، فانتشروا في سرادقات النظام يطالبون بنصيب الشعب من ثمار هذه المعارك ومن ثمار التمصير، يطالبون بلقمة عيش أفضل للناس وإلغاء قوانين الوصاية على الشعب حتى يتمكن من انتزاع حقه في حياة أفضل.
واظب الرجل القصير على حضور هذه المؤتمرات وساهم في تحويل هذه المؤتمرات من زفة وتصفيق للنظام إلى مظاهرات عالية النبرة تطالب بنصيب الشعب من أرباح الشركات الممصرة. كان الرجل القصير أول الحضور وآخر المنصرفين.
مشهد ثالث
الزمان: صيف 1962
المكان: معتقل الواحات في جوف الصحراء الغربية، على بعد مئات الكيلومترات من القاهرة.
الشخوص: عديد من الشيوعيين، معتقلين ومحكومين قضائيا، والرجل القصير
المناخ العام: انحسرت موجات التعذيب البدني والنفسي الجماعي والتي استهدفت التصفية الجسدية للشيوعيين، وبقيت محاولات التصفية الفكرية والسياسية وكان لابد من مقاومتها ومحاصرتها.
في الواحات تعرفت على عم أحمد الرجل القصير، كنت قد أمضيت حكما بالسجن ثلاث سنوات ورفضت أن أتنكر لمبادئي فرحلت إلى الواحات، نشأت بيننا صداقة حميمة رغم الخلافات السياسية. كان عم أحمد يعتقد وعدد من الشيوعيين أن عبد الناصر على رأس مجموعة اشتراكية غير علمية وعلى الشيوعيين أن يتعاملوا معه كي يطوروا هذه المجموعة في اتجاه الاشتراكية العلمية، كنت أعتقد أنا وأغلبية الشيوعيين أن مجموعة عبد الناصر تشكل طبقة جديدة تحتكر السياسة والاقتصاد تتعارض مصالحها مع الطبقات الكادحة وتعرض بدكتاتوريتها أمن واستقلال الوطن للخطر ومنجزات عبد الناصر نفسه.
كثيرا ما كنت احتد عليه، كان يقابل احتدادي بالبسمات، كان يقول: مهم يا خالد إن إحنا نتفق، بس الأهم إن إحنا نفضل شيوعيين وتفضل الشيوعية، استمرارنا وصمودنا ح يوصلنا للرأي الصح.
تعالوا نتعرف على مواقع عم أحمد خضر في الحركة الشيوعية المصرية.. هو أحمد خضر
– عضو بالحركة المصرية للتحرر الوطني أواخر عام 1943 ثم عضو لجنة قسم 1945 ثم عضو لجنة منطقة عام 1947 ثم عضو بالحركة الديمقراطية قبل أن ينتهي العام.
– عضو لجنة قسم بالعمالية الثورية بمعتقل الهاكستب أواخر عام 1948.
– عضو اللجنة المركزية بالنجم الأحمر عام 1950.
– عضو اللجنة المركزية بالحزب الشيوعي الموحد عام 1956.
– عضو اللجنة المركزية بالحزب الشيوعي المصري عام 1957 (غير الحزب الشيوعي المصري المعروف بالراية).
– عضو بالحزب الشيوعي المصري (حدتو 1958 بعد الانقسام).
– عضو التيار العلني لحدتو عام 1965.
– عضو بحزب التجمع الوطني الوحدوي
– فترات السجن والاعتقال، سنتان اعتقال، اثني عشر سنة سجن، ست سنوات مطارد من البوليس وممنوع من العمل بتاتا في أي مصنع أو شركة.
عندما قاد المهندس فوزي حبشي الشيوعيين المعتقلين لبناء مسرح لم تكن البناية في حد ذاتها هدفا، كان الهدف إذكاء روح التحدي وقوة الإرادة والتثقيف والترفيه باختصاركان الهدف الصمود. أدرك عم أحمد بفطرته السليمة هذا الهدف فكان من أنشط المشاركين في عمل عجينة الطين ثم صبها في قوالب طوب ثم نقلها إلى الموقع ثم المشاركة في البناء.
عندما فرض الشيوعيين على إدارة المعتقل تواجد من يمثلهم في المطبخ كان عم أحمد هو رجل كل الشيوعيين على اختلاف آرائهم ليحافظ على الكم ويحسن النوع، كان يقضي نهاره كله في الطهي والإعداد له. كان يقوم بغسل الأواني والخضراوات بنفسه دون الاعتماد على المساجين الجنائيين المعاونين له، كان يفعل ذلك في مقاومة سوء التغذية كان يقول: على الشيوعي أن يحافظ على صحته على قد ما يقدر علشان ح ييجي يوم يخرج ويكون النضال محتاج صحته.
كان لنا جلسات طويلة في ظل الجامع الذي بناه الشيوعيون المعتقلون وشارك هو في بنائه بحزم ونشاط حكى فيها عن حياته وسأحكي لمحات خاطفة
تزامن مولد عم أحمد مع ثورة 1919، في 13/4/1919، اضطر والده وهو أحد المشاركين في الثورة لإدخاله بسبب ضيق ذات اليد المعهد العلمي الصناعي بالعباسية قسم النسيج وكان المعهد مخصص للفقراء واليتامى يتعلمون ويأكلون وينامون، قضى فيه ست سنوات في تعلم مهنة النسيج، كان الأول. كما كان الأول في تعلم مبادئ الموسيقى والعزف على الآلات التي كانت تدرس بالمعهد في هذا الزمن البعيد.
استغل بعدة مصانع للنسيج، عايش الظلم والاستغلال، فكان يتصدى له بفطرة سليمة، فكان يفصل دائما، وكان يبحث عن طريق للخلاص، قرأ كتابا عن هتلر يصوره كعامل اضطهد وكافح وسجن حتى وصل البرلمان لإنصاف الشعب الألماني، فأحب هتلر وتعصب له، لكنه انصرف عنه لنه لا يرحب بكبار السن ولا بالضعفاء ويعتقد في ضرورة أن يسود الشعب الألماني كل الشعوب، وبفطرة سليمة شارك في إضرابات العمال في منطقة شبرا الخيمة فتعرف على الشيوعيين المرحومين محمود محمد حمزة وفضالي عبد الحميد والمهندس طه سع عثمان وشاركهم في النضال من أجل الاعتراف بالنقابات للعمال وقوانين عقد العمل الجماعي والفردي، وكانت بداية رحلته في الحركة الشيوعية المصرية.
يقول عم أحمد: أنا بطبعي أحب الناس وأعرف أتكلم معاهم بلغتهم، مش بس عمال النسيج، أنا عاشرت عمال المعمار وعمال نقابة التجارة وعمال الأحذية، وكلمتهم عن الشيوعية وجندت منهم زملا بقوا أحسن مني.
هذا يفسر لنا كيف عاش عم أحمد خضر فترة تعطل عن العمل دون أن يكلف التنظيم مليما واحدا، بل كان يدفع له من فائض مساعدات العمال له، امتدت هذه الفترة 25 شهر متواصلة إلى أن أضرب عن الطعام فأصدر الطاغية اسماعيل صدقي أمرا بالقبض عليه وحجزه بقسم السيدة زينب على ذمة قضية تشرد أو العدول عن الإضراب لكنه لم يخضع للضغط، تعاطفت الأقلام الحرة وفضحت المؤامرة على صفحات مجلة الطليعة (العدد الأول) التي كان يصدرها اتحاد خريجي الجامعة، وكذلك جريدة المصري لسان حال حزب الوفد آنذاك، برأه القضاء وسجل في حيثياته أن البوليس السياسي هو الذي يسعى إلى تشريده.
نظرا لمهارته في مهنة النسيج وقدرته على الإدارة اختاره أحدهم لينشئ له مصنع نسيج في مدينة المنيا بأجر أقل من الأجور السارية، يقول عم أحمد: كان الأجر ضعيف، لكن يعيشني، ما أنا واخد على الفقر وكان لي قصد إن أنا ألهم الصعايدة عن الشيوعية، وخصوصا إن واحد أفندي قللي مرة إن الشيوعية ضد طبع المصريين وخصوصا الصعايدة.
تم إنشاء المصنع وتشغيله في زمن قياسي، وهنا حدث خلاف بينه وبين صاحب المصنع الذي أراد أن يشغل العمال الذين يتدربون شهرين بدون أجرن رفض عم أحمد وأشرك العمال في الأمر فهددوا بالانسحاب، يقول عم أحمد أن صاحب العمل صرخ في وجهه
– إنت معايا ولا معاهم!!
يجيب عم أحمد:
– أنا زيي زيهم، هما بيشتغلوا بأجر وأنا باشتغل بأجر ولا يمكن أفرط في عرقهم.
ورضخ صاحب المصنع وألزم عم أجمد نفسه بمتابعة العمال فردا فردا أثناء الإنتاج لكي يجنب الإنتاج أي عيوب صيانة للخام وحفاظا على مال صاحب العمل، يقول عم أحمد:
– المصنع اشتغل كويس واطمنت عليه. أنا أحيانا كنت أبات في المصنع أصلح المكن طول الليل، بعد كدة بصيت على المناطق العمالية فعاشرت عمال محلج القطن وبعض القرى القريبة وعمال أتوبيسات نقل الركاب وعمال الورش وبعض الطلبة، وعن طريق الزميل لويس إسحاق من منظمة طليعة العمال، المنظمة بتاعتك، اتعرفت على ناس من جمعية الشبان المسيحيين وعلى ناس من جمعية الشبان المسلمين وعملت معاهم شغل وكنت بتقابل معاهم كلهم على القهوة يوم الجمعة بعد صلاة الظهر.
لم يكتف عم أحمد بالمنيا فعن طريق عمال كوم أمبو العاملين في المنيا عمل علاقات بأسيوط وسوهاج، أنتجت هذه العلاقات بالتعاون مع زملاء المناضل لويس إسحاق، الذي قتل رميا بالرصاص في معتقل الواحات، أنتجت طرد عملاء البرنس عباس حليم من نقابات الصعيد. وهنا تحرك الأمن واحتجزه بالمديرية دون توجيه تهمة فامتنع عمال مصنع النسيج عن العمل، وتدخل بعض أعضاء جمعيتي الشبان المسلمين والمسيحيين فأفرج عنه. وعاد إلى المصنع للعمل بعدها بأيام وكانت حرب فلسطين قد قامت. فبرك البوليس السياسي خبرا كاذبا سربه للصحف ونشرته جريدة المصري مؤداه أن طائرة بعد منتصف الليل سارعت إلى المنيا للقبض على العامل الخطير أحمد علي خضرالذي يعمل لحساب الصهيونية والحقيقة أن الأمن في المنيا ألقى القبض على عم أحمد ورحله ليلا عن طريق السكة الحديد ليواصل الرحلة إلى معتقل الهاكستب، يقول عم أحمد:
انتشر خبر القبض علي بسرعة وجاء الكثير من معارفي لوداعي وحملوني بكميات هائلة من الأكل والفاكهة أمام رجال الأمن، حتى صاحب المصنع طلع جدع معايا وإداني أجرة شهرين زيادة.
عندما أخبرني عم أحمد بانقسامه على الحركة المصرية وانضمامه إلى العمالية الثورية التي تحولت إلى منظمة النجم الأحمر قلت مشاغبا: يعني إنت مارست الإنقسام الذي أضر بالحركة الشيوعية. يعني إنت انقسامي بكل ما تحمله الكلمة من ضرر.
ضحك عم أحمد ضحكة صاخبة وكانت ضحكاته كلها من القلب وقال: كانت الخطاء مشتركة من الجانبين.
وكان لابد أن نتكلم عن الانقسامية التي أضرت بالحركة الشيوعية كثيرا، فكان رأيه مستفيدا من التجربة أن الوحدة غال، ويجب أن تأتي عن طريق التنسيق في مجالات النضال الجماهيري في الأساس بين كل التنظيمات، لابد أن يتوجه الشيوعيون للجماهير برأس واحد متفق عليه بعد نقاش وحوار عميق.
من حكايات عم أحمد ونوادر عمال النسيج، أنه في فترة تعاظم فيها تعطل عمال النسيج في نهاية الأربعينات، قرر العمال العاطلون عن العمل ومعهم عم أحمد والزميل سيد عبد الوهاب أن تتوجه مجموعات منهم إلى عدة مطاعم يأكلون ويشبعون وعند الدفع يعتذرون بسبب البطالة. فلجأ بعض أصحاب المطاعم إلى البوليس بينما تعاطف معهم البعض. تم حجز العمال المقبوض عليهم في أقسام الشرطة وكانت ضخة تناولتها الصحف وطالبت بعض الأقلام بتأمين ضد البطالة واضطرت الحكومة إلأى التصريح بأنها ستصدر قانونا للتأمين ضد البطالة ولم يصدر حتى الآن.
في عام 1952 قبض على عم أحمد وفي مواجهة البوليس والنيابة والقضاء فاخر بعضويته للحركة الشيوعية المصرية ككل ودوره القيادي بها. حاور القضاة دفاعا عن مبادئه فحكم عليه بخمس سنوات سجن.
وفي مارس 1959 قبض على عم أحمد وأمام وكيل النيابة صلاح نصار سجل على مدى خمسة عشر صفحة فلوسكاب دافع عن الشيوعية وعن كونه عضوا قياديا بالحزب الشيوعي المصري، وفي المحكمة العسكرية بالاسكندرية بقيادة الفريق هلال عبد الله هلال قال قولته المشهورة: إن الشيوعيين المصريين مخلصون لحد الشهادة لهذا الوطن والكادحين فيه بشرف وأمانة.
طوال معرفتي بعم أحمد ثارت بيننا خلافات ليست بالهينة، لكننا اتفقنا على الجوهر، حب الشعب المصري والاخلاص للطبقة العاملة والتمسك بالشيوعية وضرورة توحيد الشيوعيين.
رحل عم أحمد وبقي له حب كل من عرفوه.