بين معركة العمال ومعركة الدستور:
الحركة العمالية في مفترق طرق
يبدو أن إضراب عمال غزل المحلة (27 ألف عامل) في ديسمبر من العام الماضي قد نبّه البعض فجأة إلى أن هناك شيء في مصر اسمه الطبقة العاملة. قبل هذا الحدث كان الاشتراكيون يظهرون بمظهر الكائنات العجيبة “التي لا تعيش بيننا” عندما كانوا يتحدثون إلى قوى المعارضة ونشطاء حركة التغيير عن الطبقة العاملة وضرورة الارتباط بنضالاتها. ثم أتى الإضراب “فجأة” ليبدأ كثيرون، ممن لم يهتموا يوما بالعمال، في الحديث عن مركزية الطبقة العاملة.
لكن إضراب المحلة لم يأت “فجأة”. سبقت هذا الإضراب مئات الاحتجاجات في القطاعين العام والخاص من الإسكندرية حتى أسوان. ففي العام الأخير وحده – 2006 – رصد تقرير لمركز الأرض 222 احتجاجا عماليا تنوعت بين الإضراب والاعتصام والتجمهر والتظاهر. وقبل ذلك كانت احتجاجات العمال، وفقا لإحصاءات نفس المركز، تتوالى بلا توقف: 202 احتجاجا في 2005، 265 احتجاجا في 2004، 86 احتجاجا في 2003، 96 احتجاجا في 2002، 138 احتجاجا في 2001، 135 احتجاجا في 2000، 164 احتجاجا في 1999، 115 احتجاجا في 1998، و137 احتجاجا في 1997. فلماذا إذن حظي إضراب المحلة بكل الاهتمام الإعلامي والسياسي والحكومي ولم تحظ مئات الإضرابات التي سبقته حتى بواحد على عشرة من هذا الاهتمام؟
الإجابة على هذا السؤال مهمة لأنها تشرح لنا أسباب وطبيعة “بشائر نقلة نوعية” في الحركة العمالية المصرية. فخصوصية إضراب المحلة تنبع ليس فقط من أنه انتصار كبير، وهو كذلك بالفعل، ولكن أيضا من أنه قدّم إشارات مهمة، حول فرص وإمكانيات الحركة العمالية وأوضاع السلطة الحاكمة، لقطاع واسع من الطبقة العاملة المصرية، أي بتعبير آخر: من أنه انتصار يتجاوز الحدود الضيقة للمصنع الذي حققه.
من القواعد المعروفة في العلوم العسكرية أن المعارك لا تتساوى. فهناك معارك أهم من معارك وجبهات أهم من جبهات. يعتمد الأمر على قراءة شاملة للقوى وتوازنها ونقاط قوتك ونقاط ضعف عدوك. فقد تكتسب معركة ما أهميتها من توقيتها؛ مثلا أنها تأتي في لحظة اهتزاز للثقة مما يجعل النصر فيها واحد من أدوات استعادة الثقة المفقودة. أو قد تكتسب معركة أخرى أهميتها من طبيعة الهدف الذي تتوخاه؛ مثلا إذا ما وصلت وحدة عسكرية، حتى ولو صغيرة جدا، إلى موقع يدّعي العدو حصانته التامة، مما يفقده مصداقيته ويشكك في تصوراته عن نفسه. وهكذا.
كذلك الأمر في معارك الصراع الطبقي. إذ اكتسبت معركة غزل المحلة محوريتها طبعا من حجم المصنع وعدد عماله المهول (ربما يكون مصنع غزل المحلة أكبر مصنع في الشرق الأوسط وأفريقيا)، لكن أيضا من أمرين مهمين: رد فعل السلطة على الإضراب، وإمكانية تعميم الانتصار.
الخبرة العمالية مع الإضرابات والاعتصامات، بالذات في مصانع القطاع العام، وبالذات في مصانع الغزل الكبرى، مريرة. فلا أحد من المتابعين يمكنه أن ينسى المواجهات الدامية، وقمع الدولة الوحشي، لعمال كفر الدوار في 1984 و1994، وأيضا لعمال الحديد والصلب في 1989. هذا بالإضافة إلى الاقتحامات والاحتكاكات والتهديدات في عدد آخر لا بأس به من المصانع والمدن العمالية، ومنها بالطبع المحلة في انتفاضتها عام 1988.
كان عمال المحلة يتخوفون في إضرابهم الأخير من استخدام الدولة للعنف. ففي ثاني يوم للإضراب، وكان يوم جمعة مما أدى إلى تناقص أعداد العمال المعتصمين بالمصنع، كان توقع الهجوم مطروحا بقوة. لكن “المفاجأة” كانت أن الدولة لم تهجم، بل على العكس استخدمت خطابا إعلاميا وتفاوضيا غاية في المرونة والليونة مع “أبنائنا العمال”.
لا شك أن هذا الخطاب له أسبابه، وهو ما سنأتي له لاحقا، لكن المهم أن أثر هذه اللغة كان كسر حاجز الخوف وإشعال شرارة ثقة في أوساط العمال. “نحن قادرون على التأثير وليس صحيحا أنه لا حول لنا”.. ربما يكون هذا هو ما دار في أذهان الكثيرين منهم بعد مرور يوم الجمعة بسلام، وطلوع صباح السبت مبشرا بعودة كثافة الإضراب وقوته، ثم انتهاء الأمر كله بالاستجابة للمطالب مقرونة بكلام معسول من جانب السلطة.
على جانب آخر، فإن إضراب غزل المحلة كان معديا، لأن النصر فيه كان قابلا للانتشار في كل القطاع البائس (الغزل والنسيج)، بالذات في مصانع القطاع العام. فتحقيق وعود توزيع الأرباح، التي قطعتها وزارة الاستثمار على نفسها قبل شهور، بالذات بسبب إضراب عمال المحلة، كان بمثابة رسالة للكل: إذا أردت أن تحصل على حقك عليك بالإضراب. وهو ما حدث بالفعل في سلسلة من مصانع الغزل: غزل ميت غمر، المنصورة-إسبانيا، غزل شبين الكوم، غزل كفر الدوار، مصنع السيوف بالإسكندرية، وغيرها.
ما قبل المحلة وما بعدها
لكن من المهم التأكيد على الحقيقة التالية: إضراب غزل المحلة، برغم دوره النوعي، جزء من سلسلة من النضالات سبقته وتلته.
عادت الطبقة العاملة المصرية للنضال في عام 1984 بعد مرحلة من الركود تلت قمع انتفاضة يناير 1977 (ساهم فيها جزئيا الانتعاش الكبير، لكن الزائف، الذي شهده الاقتصاد المصري في أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات). العودة كانت مع إضراب عمال كفر الدوار (1984)، الذي تلته سلسلة من “الاحتجاجات الكبرى” في إسكو (1986)، السكة الحديد (1986)، المحلة الكبرى (1986 و1988)، وأخيرا الحديد والصلب (1989).
الأمر المؤسف أن نتيجة النضالات المبهرة في النصف الثاني من الثمانينات كانت، إلى حد كبير، الهزيمة. فمن ناحية أولى لم تنجح هذه النضالات، وكانت كلها اقتصادية، في إيقاف التدهور في أجور العمال الذي بدأ في عام 1985. ففي 1985، ولأول مرة منذ عام 1975، انخفض الرقم القياسي للأجور الحقيقية من 141 في العام السابق إلى 137. ثم توالت الانخفاضات حتى نهاية العقد إلى أن وصلت للرقم القياسي 94 في عام 1990، هذا مع الوضع في الاعتبار أن سنة الأساس لهذه الحسابات هي عام 1972.
ومن ناحية أخرى، فإن التضحيات الكبرى في ظروف صعبة، وبدون نقابات حقيقية، التي قدمها العمال في الثمانينات انتهت، لأسباب لا مجال لذكرها الآن، إلى بدء الحكومة في مطلع التسعينات أشرس هجمة على القطاع القائد في الطبقة العاملة، القطاع العام، من خلال القانون رقم 203 المسمى بقانون قطاع الأعمال العام، وهو القانون الذي أدى إلى تفكيك هذا القطاع وتقليصه من أكثر من مليون عامل إلى نصف مليون عامل بالكاد في غضون سنوات قلائل.
وهكذا بدأ عقد التسعينات القاسي! في هذا العقد شهدت الطبقة العاملة المصرية ربما أكبر عملية “فك وتركيب” رأتها في تاريخها، وهو ما صفّى تاريخا نضاليا رائعا وضرب قطاعات رائدة. وقد أثّر هذا كله على الشكل الذي أخذته معارك واحتجاجات العمال في التسعينات: نضالات اقتصادية، وليس في هذا في حد ذاته عيبا، ولكنها نضالات اقتصادية شديدة الجزئية والمحدودية وذات طابع دفاعي ولا تحدث تراكما على مستوى الوعي والتنظيم والتضامن، بل إن جاز التعبير فإن أثرها في كثير من الأحيان كان هو الإحساس بالعجز وعدم القدرة على تغيير مسار الأمور. فكثير من المعارك كانت من نوع “معارك النهاية”، أي المعركة الأخيرة قبل التفكيك والتصفية، مثلا كحالات القاهرة للمنسوجات بشبرا الخيمة والحراريات بحلوان.
لكن القاعدة الأساسية للعملية التاريخية الجدلية كانت تفعل فعلها ببطء. ذلك أن النضالات الدفاعية المحدودة الجزئية، مع تراكمها، ومع تزايد أعدادها عاما وراء عام بفعل سياسات الخصخصة والليبرالية الجديدة، أدت في “لحظة مناسبة” إلى الانتقال ــ أو ربما من الأدق أن نقول إلى احتمال الانتقال ــ إلى مرحلة جديدة في النضال العمالي. وكانت نقطة البدء في تحول الكمي إلى نوعي هي إضراب عمال المحلة وما تلته من كفاحات عمالية شديدة الأهمية في الشهور الأخيرة.
“اللحظة المناسبة”
لا يمكنك أبدا، مهما كنت مخلصا ومدققا، أن تفهم الصراع الطبقي بتحليل ما يحدث داخل “المصنع” فقط. بتعبير آخر: لا يمكنك اختزال الصراع الطبقي إلى ما يحدث داخل أماكن العمل فحسب. هذا درس أساسي يحتاج إليه من يريد أن يفهم نضال عمال المحلة ونتائجه. من هنا يبدو أن هناك حاجة إلى فهم طبيعة ما وصفناه قبل قليل بـ”اللحظة المناسبة” التي سمحت للعمال بدفع نضالهم المتصاعد “كميا” خطوة أخرى للأمام “نوعيا”.
تتعلق تلك اللحظة المناسبة بالأوضاع السياسية والاقتصادية التي تمر بها مصر، بل والمنطقة، عامة، وخاصة درجة تماسك وقوة الطبقة الحاكمة والتوازنات فيما بينها وبين الطبقات الأخرى، والمزاج الفكري في المجتمع، وحالة حركات التمرد والرفض الأخرى عدا الحركة العمالية ــ أي باختصار الصورة الشاملة للنضال الطبقي عند أبواب المصانع وبعيدا عن أبوابها.
لن يكون ممكنا في هذا الحيز المحدود طرح صورة كاملة عن هذه المسألة. لكن من المناسب تقديم بعض الملاحظات. فأولا ينبغي أن نلاحظ أن واحد من أسباب انفتاح النضال المطلبي والاجتماعي في مصر في العامين الأخيرين (وهذا الانفتاح لا يقتصر على نضالات “العمال” بحصر المعنى، وإنما يضم نضالات المدرسين والصيادلة والصيادين وأهالي الأحياء والعشوائيات.. الخ) هو “مساحة المعارضة والاختلاف” التي أتاحتها عملية الأزمة/التحول التي تمر بها الطبقة الحاكمة ونظامها السياسي في نفس تلك المرحلة.
فبغض النظر عن التفاصيل، وعن التقلبات من الهجوم إلى الدفاع إلى الهجوم مرة أخرى مؤخرا، يمكننا أن نرى بجلاء أن من يحكمون مصر، والمسيطرين طبقيا فيها، يمرون في الأعوام الأخيرة بمرحلة تحول، صحيح أنه جزئي ومشوّه، لكن له آثاره المهمة على الوضع العام للصراع الاجتماعي والسياسي في البلد.
على خلفية ظهور علامات النهاية على الديكتاتور العجوز، بدأت مشاكل نظام الحكم في مصر تظهر وتلح طالبة إيجاد حلول. الشخص الذي طالما نجح في الإمساك بكل الخيوط وفي توفيق المتناقضات وإخراس المعارضين وإسكات الطامعين يبدو أن نهايته قد اقتربت، وهذا يعني “قلق شديد” من المستقبل يستوجب التدبير والتحرك والفعل.
لكن القلق، وإن كانت قد عززته الحالة العمرية والصحية للديكتاتور، فإنه يجد مصدره في أوضاع الأزمة والتغيير الذين مرت بهما مصر في الأعوام الأخيرة: الأزمة الاقتصادية التي تطلبت القطع مع الطريقة البيروقراطية القديمة في إدارة التحول الليبرالي الجديد في مصر، والتي بالتالي تطلبت تصفية سيطرة “الحرس القديم” على بعض مواقع السلطة؛ صعود قوة رجال الأعمال الاحتكاريين وحاجتهم إلى المشاركة في السلطة بقدر ما؛ صعود الحركة الجماهيرية والنضالات المطلبية وعدم وجود أي مؤسسات “نظامية” لاحتوائها مع الحفاظ على المصالح السائدة؛ الضغوط المرحلية والمؤقتة للإمبريالية الأمريكية؛ الأزمات الإقليمية وما تعنيه من موت للدور المصري كسمسار ومن فضح للهوان والتواطؤ في أوساط المعارضة والجماهير.. الخ.
إذن فنحن نشهد نظام حكم يحتاج أن يتغير، والوضع كله يضغط في اتجاه أن يتغير، لكنه لا يريد ذلك، أو بالأدق هو يتذبذب ويراوح، مع بعض الإجراءات الشكلية مصحوبة باحتكاكات بين تياراته وعناصره. ونحن أيضا نشهد ظروفا محلية ودولية تدفع هذا الأداء للطبقة الحاكمة إلى أن يكون كارثيا عليها على المدى الطويل، ولكنه في الوقت الراهن للأسف كارثيا على الجماهير وعلى قوى المعارضة.
في ضوء هذا كله نمت الحركة الاجتماعية المطلبية، ونمت أيضا الحركة السياسية المناهضة للإمبريالية والمطالبة بالتغيير. والحق أن النقلة بدأت من الجبهة السياسية. فقد انفجر بركان الغضب المتراكم في التسعينات عند أضعف نقطة وفي أكثر اللحظات مناسبة: تضامنا مع الانتفاضة الفلسطينية في لحظة لم يكن أمام أحد في النظام من خيار إلا “التضامن” مع نضال الشعب الفلسطيني و”التسامح” مع حركة التضامن المصرية.
ثم توالت السلسلة: من فلسطين إلى العراق إلى التغيير الديمقراطي إلى النضال المطلبي المهني ثم إلى النضال العمالي والفلاحي، ومن الطلاب إلى المهنيين إلى المثقفين والفنانين ثم إلى العمال والفلاحين. ونلاحظ أن القانون العام للحركة هو أنه كلما تكثفت الحركة في جهة ما، توجه النظام الحاكم تجاهها في محاولة لسد الثغرة إما بالاستيعاب أو ــ وهذا هو الأغلب ــ بالقمع. لكن سرعان ما تظهر ثغرة أخرى في مكان آخر تستلم الراية وتكمل المشوار. فلا يوجد سور عازل بين النضال السياسي والاقتصادي، وعملية التبادل بين الجبهات والمعارك تعبر عن طبيعة الوضع كله، بنفس درجة تعبيرها عن الديناميكية الخاصة للقطاع أو الفئة المعنية.
وبنظرة ملموسة نجد أن الدولة تقرن مرونتها وكرمها الحاتمي المفاجئ تجاه الطبقة العاملة في نضالاتها الأخيرة، بقسوة غير معهودة مؤخرا تجاه حركة التغيير الديمقراطي وقوى المعارضة السياسية، خاصة الإخوان المسلمين. ويبدو أن الاستراتيجية المعتَمدة تقوم على تقدير أن هذه مرحلة تحول حاسمة في تاريخ نظام الحكم القائم. فهو يرتب أوضاع ما بعد مبارك، سواء على مستوى توريث السلطة، أو على مستوى تحديد شكل العلاقات والتوازنات في ظل الحاكم الجديد. وعلى هذا فالمطلوب القيام بهذه المهمة بكل سرعة لأن الظروف مهيأة الآن (أمريكا نفضت يدها من الموضوع)، ولأنها لن تظل مهيأة كثيرا، والمطلوب أيضا القيام بها بشكل يضمن نجاحها وبناء أسس لاستقرار يتلوها.
في ضوء هذه الرؤية كان تصور من يحكمون البلد، بمساندة بعض “المنظّرين الليبراليين”، أن الخطة الصحيحة هي، بمعنى ما، “تحطيم المعارضة لتأسيس الديمقراطية”! فصحيح أنهم يريدون متنفسا ديمقراطيا لأنفسهم في مواجهة الحكام والبيروقراطية، لكن إن كان هذا سيأتي بالإخوان فلا داعي له. إذن فالخطة هي “أن نقضي على الإخوان، أو على الأقل أن ننزع ريشهم تماما، حتى ولو اقتضى هذا تحطيم كل إمكانية للديمقراطية في البلد”!
وهكذا استخدم تحالف جناح من رجال الأعمال الاحتكاريين مع الوريث مع حفنة من رجال السلطة الهاجس الإخواني للهجوم على المعارضة والانقلاب على ما أسماه البعض أحيانا بـ”الهامش الديمقراطي”.
في هذا السياق، بنى النظام الحاكم ـ فيما يبدو ـ استراتيجيته للتعامل مع الحركة العمالية. فالهم الأول هنا أيضا هو الإخوان، أو بصياغة أخرى، عزل النضال العمالي عن النضال السياسي ونزع السياسة منه. وهذا ما اقتضى التعامل المرن مع النضالات العمالية الأخيرة مع السعي حثيثا لمنع اتصالها بالحركة أو المطالب السياسية.
المعارك القادمة
طبيعة المرحلة الليبرالية الجديدة في الرأسمالية العالمية، والوضع المصري الخاص في هيكل المنافسة الدولية، يؤكدان أن الانتعاش المصري المتحقق (انظر مقال وائل جمال في نفس هذا القسم) لن يطول كثيرا، ويؤكد أيضا أن آثاره لا يتم توزيعها على الفقراء، بل هي تقترن باستقطاب طبقي أعلى. لكن ربما كانت ميزة الانتعاش الحالي هي أنه يسهم، من ضمن عوامل أخرى، في تعزيز مطالب العمال وفي تلبيتها، مما يغذي ثقتهم النضالية.
لكن الأهم من هذا أن ما يدور في كواليس السلطة من مساومات وترددات ومخاوف، على خلفية عملية الانتقال السياسي الجارية، مرشح للتزايد مع دورة أخرى من الأزمة، بل حتى قبل ذلك مع انفلات عفريت النضال الاقتصادي والاجتماعي من قمقمه.
القضية الجوهرية في كل هذا هي السياسة. فالخطأ الشائع القائم على اعتبار النضال السياسي مضيعة للوقت والنضال المصنعي والعمالي هو كل شيء، هو عودة لأمراض النزعة الاقتصادية التي تمجد نضالات العمال تمجيدا أجوف، ولكن التي لا تسعى لتطويرها سياسيا إن أمكن.
والحق أن انتصار المحلة وتوابعه قد كشف على الفور الآثار السياسية لأي انتصار كبير كهذا. ففور الانتصار انطرحت إشكالية التنظيم على الطبقة العاملة في المحلة وفي عدد من المواقع في صورة مواجهة مع التنظيم النقابي الأصفر ومحاولة لتشكيل لجان مندوبين عمالية. وإشكالية التنظيم في مصر هي إشكالية سياسية بامتياز. ذلك أن الدولة الديكتاتورية لا تعترف بحق التنظيم للعمال، ومن ثم فإن النضال من أجل هذا الحق سيصطدم، إن عاجلا أو آجلا، بقمع الدولة، وحسم هذا النضال لابد أن يتم على صعيد السياسة: أي على صعيد اتخاذ موقف من السلطة السياسية.
بيد أنه ربما كان لدى من يخطئون خطأ النزعة الاقتصادية في أوساط اليسار وحركة التغيير بعض الحق باعتبار موقفهم هذا رد فعل متطرف ضد انحراف الحركة السياسية، ومنها حركة اليسار، بعيدا عن نضالات الجماهير وفي قلبها العمال. لكن إن انغمسنا في نضالات العمال، فأول سؤال سيطرح نفسه هو سؤال السياسة: كيف نوحد هذه النضالات؟ وكيف ننظمها في تنظيم نقابي مكافح؟ وكيف نربطها بالنضالات أخرى؟ وكيف نطور مطالبها إلى مطالب سياسية؟ كل هذه أسئلة سياسية، إن لم يجب عنها اليسار الثوري والمناضل عموما بشكل إيجابي، ومن قلب إمكانيات النضالات وليس من قلب الجدل المجرد العقيم، فسوف يجيب عنها آخرون. وساعتها سوف نفهم حجم الخطأ الذي نرتكبه بالمفاضلة العجيبة بين معركة تعديل الدستور ومعركة العمال من أجل الأرباح.. فلا مفاضلة بين المعركتين.. بل بحث عن جسر يربطهما ويوحد كل النضالات في بوتقة واحدة.