بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

دفاعا عن المشاركة في الانتخابات النقابية

بعد شهور قليلة ـ في أكتوبر المقبل ـ سيخوض العمال معركة جديدة ضد الفساد والاستغلال والاستبداد، لكنها معركة من نوع مختلف، إنها معركة الانتخابات النقابية. هيثم جبر يستعرض المواقف المختلفة من المشاركة في هذه الانتخابات، ويناقش شروط هذه المشاركة.

يخوض العمال معركتهم فى هذه الدورة النقابية وسط أجواء عمالية وسياسية واقتصادية، تختلف عن سابقتها من الدورات. فالتنظيم النقابي الحالي، الموالي للدولة وأصحاب الأموال، أصبح يقف اليوم عارياً أمام العمال ومفلساً تماماً بحيله القديمة في خداعهم. ومما ساهم فى تعرية وإفلاس هذا التنظيم الأصفر ليس فقط العلاقة غير الشرعية التي تربطه بنظام مبارك الديكتاتوري الفاسد ورأسماليته، ولكن أيضاً الهجمة الشرسة التي تعرض لها العمال، وشارك فيها التنظيم النقابي من خلال سياسات الليبرالية الجديدة وبرامج الخصخصة التي شردت آلاف العمال وأفقرت ملايين المصريين. هذه الهجمة التي يشتد بطشها في السنوات الأخيرة مع تطبيق المرحلة الأخيرة من عملية الخصخصة تعصف بالبقية المتبقية من حقوق العمال والمصريين فى حياة إنسانية كريمة، ليصيروا عبيداً السوق والرأسمالية، كل ذلك تحت سمع وبصر بل وبمباركة الإتحاد العام لعمال مصر.

هذا التنظيم الأصفر الذي عمل طوال تاريخه لصالح الدولة ورأس المال ضد مصالح العمال، هذا التنظيم الذي أصبح فرع من مباحث أمن الدولة لقمع العمال وتفتيت قوتهم وإضعاف حركتهم، هذا التنظيم المزيف الذي لا يعبر بأى حال من الأحوال عن إرادة العمال الحقيقية، هذا التنظيم .. هل له فائدة ؟ هل يجب أن نخوض الانتخابات على نقاباته؟ كيف يجب أن نقاتل لفضحه؟ وإذا كان نعم، كيف نخوض معركة الانتخابات؟ وكيف تكون الانتخابات الطريق الصحيح لفضح هذا التنظيم؟

التنظيم النقابى والعمال

لكى نقدم إجابة دقيقة على التساؤلات السابقة يجب استكشاف بعض الحقائق حول عدة قضايا: أولها الظرف الموضوعي والذاتي الحاليان للطبقة العاملة، وثانيها علاقة التنظيم النقابي بالعمال في وضعيتهم هذه.

ولايخفى على أحد التحولات الكبرى التي جرت على بنية الطبقة العاملة فى العقد ونصف العقد الماضيين من جراء سياسات الليبرالية الجديدة وبرامج الخصخصة، حيث تم تفكيك بنية الطبقة العاملة القديمة التي تكونت في القطاع العام في المراكز الصناعية التقليدية التي بنتها رأسمالية الدولة في حلوان وشبرا الخيمة والمحلة الكبرى وكفر الدوار.. وغيرها. ذلك بخروج العمال عبر المعاش المبكر أو المعاش العادي، مع وقف التعيينات منذ نهاية الثمانينات. هكذا فقدت الطبقة العاملة أكثر من نصف مليون عامل على مدار العشرة سنوات الماضية. والملاحظة الهامة هنا أن الخسارة لم تكن عددية فقط، وإنما أيضاً نوعية حيث مثل هؤلاء العمال المسرحين خلاصة الخبرة النضالية والنقابية المنظمة للطبقة العاملة.

ومع تدشين سياسات الليبرالية الجديدة والتحول عن نظام رأسمالية الدولة إلى نظام السوق، بدأت طبقة عاملة جديدة فى التبلور متركزة بشكل أساسي في المدن الصناعية الجديدة (العاشر من رمضان، السادس من أكتوبر، العبور، بدر، السادات.. وغيرها). طبقة عاملة جديدة تفتقد إلى الخبرة النضالية والنقابية، لكنها تتعرض لدرجة أكثف من الاستغلال تحت وطأة شروط العمل فى المشروع الخاص.

لكن ما هي علاقة التنظيم النقابي الراهن بالطبقة العاملة؟ لا تمثل النقابات العمالية أكثر من 28% من حجم الطبقة العاملة المصرية. وتتركز بشكل أساسي في القطاع العام. ومن المتوقع بطبيعة الحال أن تتدهور هذه النسبة مع الاستمرار فى عمليات الخصخصة. في حين يعمل أغلبية العمال في القطاع الخاص بلا نقابات، وربما في كثير من الأحيان لا يعرفون عنها شيئاً. ففي المدن الصناعية الجديدة يعتبر مجرد التفكير في تكوين لجنة نقابية في المصنع من الجرائم التي يعاقب عليها بالفصل الفوري. ويكفي أن نذكر هنا أن عمال المنطقة الصناعية الاستثمارية في بورسعيد والتي يعمل بها أكثر من 30 ألف عامل لا يوجد لديهم أية نقابة، وعندما حاول بعض العمال في أحد المصانع التفكير فى إنشاء لجنة نقابية كان جزاؤهم الاضطهاد والفصل.

خلاصة القول أن التنظيم النقابي الحالي لا يحتمي بشرعية تمثيل غالبية الطبقة العاملة إنطلاقاً من الفرضية النظرية التي تقول أنه كلما كانت المنظمة النقابية تمثل نسبة كبيرة من الجماهير، والتي من المفترض أنها تعبر عنها، زادت قدرتها على التأثير على عملية صنع السياسة بحكم ما لديها من موارد سياسية، وهي في هذه الحالة العضوية. لكن الحقيقة هي أن عدم شرعية التنظيم النقابي في مصر تعود لأسباب أعمق من ذلك بكثير. فعملية اختيار هذا التنظيم في حد ذاتها تعكس عدم شرعيته، فالنظام المتبع في انتخابات النقابات العمالية هو الانتخاب غير المباشر، حيث يقوم أعضاء الجمعيات العمومية للجان النقابية بانتخاب مجالس إدارتها، ثم يقوم مندوبون عن هذه المجالس ـ على افتراض أنهم ممثلون للجمعيات العمومية ـ بانتخاب مجالس إدارات النقابات العامة، وهؤلاء يشكلون بدورهم الجمعية العمومية للإتحاد العام لنقابات عمال مصر، كما أن مجلس الإدارة فى كل مستوى نقابي هو الذي يختار رئيس مجلس الإدارة، وليس الجمعية العمومية مما يقلل من مسئولية الرئيس أمام قواعده.

حتى هذه الانتخابات التي تخلق هذا الشكل الهرمي للتنظيم النقابي تكرس حالة الانفصال بينه وبين القواعد العمالية ومن ثم تضرب بشكل مباشر في شرعية هذا التنظيم. فالانتخابات النقابية لا تجرى تقريباً إلا فى المستويات النقابية الأدنى. وغالباً ما يغلب عليها الطابع القبلي والتربيطات العائلية. أما النقابات العامة والإتحاد العام، فتشكل مجالسهما في الأغلب داخل الغرف المغلقة بمعرفة مباحث أمن الدولة، ونتائج الانتخابات في الدورة الماضية 2001 – 2006 خير مثال على ذلك. فقد انتهت انتخابات اللجان النقابية بالتزكية في 750 لجنة من بين 1897 لجنة نقابية على مستوى الجمهورية، ولم تجر الانتخابات إلا في 1032 لجنة، وتم تأجيل الانتخابات في 115 لجنة غير اللجان التي لم تستوف أوراقها، أي أن الانتخابات لم تجر إلا في 54% من اللجان النقابية فقط. وحتى هذه النسبة الضئيلة لم يشارك العمال في أغلبها بل انتهت إلى التنافس على عدد محدود من المقاعد باستغلال قاعدة التقسيم النسبي بنظام القوائم المغلقة في انتخابات مجالس إدارة اللجان النقابية. أما النقابات العامة فلم تجر الانتخابات فيها إلا في 6 نقابات عامة من أصل 23 نقابة أي بنسبة 25%، وحتى النقابات التي جرت فيها الانتخابات كانت تتم على عدد محدود جداً من المقاعد (على مقعد واحد إلى خمسة على الأكثر)، أما مجلس إدارة الإتحاد العام فقد تم تشكيله بغير انتخابات بالمرة، أي بالتزكية بنسبة 100%.

وبالطبع يترافق هذا مع وجود التزوير في انتخابات اللجان النقابية، ويحدث ذلك بكل الطرق بدءاً من استخدام الألاعيب القانونية، مروراً بتواطؤ الإتحاد والنقابات العامة في تعطيل قبول مرشحين بعينهم وتدخل الأمن فى الانتخابات، الأمر الذي دفع العديد من النقابيين الذين تم استبعادهم أو التدخل ضدهم في الدورة الماضية إلى اللجوء للقضاء. وبالفعل حصل العديد منهم على أحكام ببطلان الانتخابات فى نقاباتهم، بل بطلان انتخابات الإتحاد العام أصلاً، أي أن الإتحاد أصبح غير شرعي بحكم القضاء، ورغم ذلك ظل إتحاد الدولة قائماً مغتصباً لحق العمال.

على هذا دأبت الأنظمة الحاكمة المتعاقبة على تطوير البنية التشريعية بما يضمن استمرار تدجين هذا التنظيم لصالحها والفصل بينه وبين قواعده العمالية. فقد أسس القانون رقم 91 لسنة 1959 للهيكل النقابي الحالي ليقوم على المركزية والهرمية، كما كرست التعديلات المتعاقبة على هذا القانون هذه الحالة (القانون 62 لسنة 1964، والقانون 35 لعام 1976، والقانون 1 لعام 1981، وأخيراً القانون 12 لعام 1995)، حيث قام القانون رقم 35 لسنة 1976 بالغاء الشخصية الاعتبارية للجنة النقابية، بمعنى عدم قدرتها على إتخاذ أي إجراء دون موافقة النقابة العامة. كما تم توسيع صلاحيات وزارة العمل فيما يخص شئون الحركة النقابية، وجاء القانون 12 لسنة 1995 لينص على حق الترشيح للنقابة العامة دون المرور باللجنة النقابية، وكذلك حق أعضاء النقابة العامة في الاحتفاظ بعضويتهم النقابية حتى لو تمت ترقيتهم لدرجة مدير عام. ناهيك عن مد الدورة النقابية من عامين إلى ثلاثة ثم إلى أربعة وأخيراً خمسة. وبالطبع صب كل ذلك فى مزيد من مركزية التنظيم النقابى وتدعيم النخبة البيروقراطية المسيطرة عليه.

الطريقة التى يتشكل بها التنظيم النقابي في ظل هذه البنية التشريعية التي تحكم العمل النقابي العمالي، تكشف حقيقة العلاقة بين التنظيم النقابي والعمال من ناحية، وعلاقة هذا التنظيم بالدولة من ناحية أخرى، ومن ثم تفسر مواقف الإتحاد العام المناوأة للعمال على طول الخط، والموالية لسياسات الدولة ورأس المال فى نفس الوقت. ويفسر لنا أيضاً موقف التنظيم النقابي العدائي من الغالبية العظمى من احتجاجات العمال طوال السنين الماضية ضد سياسات التشريد والاستغلال. فأغلب الاحتجاجات العمالية تحدث دون موافقة التنظيم ورغماً عنه، وينحصر دوره إما في إدانة الإضراب أو التبرؤ منه واعتباره من عمل قلة ضالة. وفي أحسن الأحوال يسعى للوساطة بين العمال والإدارة، ويحدث ذلك غالباً بعد تفاقم الوضع بشكل كبير، بل إن الكثير من الاحتجاجات شهدت مطالبة العمال بحل اللجنة النقابية أو سحب الثقة منها. وحتى بعض الاحتجاجات التي تقودها اللجنة النقابية في المنشأة تواجه بعدم اكتراث وإهمال من النقابة العامة والإتحاد العام، وربما مثال اعتصام عمال الإسبستوس حي فى الذاكرة، حيث استمر الاعتصام الذي قادته اللجنة النقابية لأكثر من سبعة أشهر تحت سمع وبصر النقابة العامة والإتحاد العام، ولا حياة لمن تنادى!

ما العمل؟

إذا كانت هذه هي حالة التنظيم النقابي الراهن، على خلفية الوضعية التي تعيشها الطبقة العاملة اليوم والتي تعاني من ضعف ملحوظ فى حركتها وتنظيمها مع التغيرات الكبرى التي حدثت في بنيتها خلال العقدين الماضيين، فهل يخوض العمال معركة الانتخابات النقابية؟

تعددت الآراء حول هذا الموضوع بين رافضين لهذا التنظيم الأصفر الموالي للدولة ورأس المال، لايرون فائدة في خوض غمار معركة تحكمها البيروقراطية والاستبداد والفساد، منادين بالتعددية النقابية وبتنظيمات نقابية موازية مستقلة تمثل العمال عن حق. بينما البعض الآخر يرى العكس، مؤكدين على ضرورة الحفاظ على وحدة العمال من خلال التنظيم النقابي الحالي، ولذلك يجب تحريره من براثن البيروقراطية والفساد واستعادته للعمال.

كلا الرأيين فى الحقيقة لا يقرآن اللحظة الراهنة بشكل صحيح. فتاريخ الطبقة العاملة يعلمنا أن الحركة النقابية المستقلة تولد من رحم حركة عمالية قوية، حيث تتشكل اللجان النقابية العمالية فى خضم موجة إضرابات كبرى تجتاح المصانع ومواقع العمل، وليس بمجرد قرار فوقي من اليساريين الراديكاليين مهما كان حجم تأثيرهم. والوضع الراهن للحركة العمالية بعيد عن هذه النقطة بكثير، فرغم ارتفاع وتيرة الاحتجاجات العمالية فى الخمس سنوات الماضية، إلا أنها مازالت تتسم بالطابع الدفاعي الجزئي المفتت، مفتقدة إلى التنظيم القادر على ربط العام بالخاص. كما أن الرأي القائل بدخول التنظيم النقابي لإصلاحه من الداخل يصبح محض هراء عندما يغض الطرف عن طبيعة الدولة البوليسية الديكتاتورية التي خلقت هذا التنظيم لخدمة مصالحها ومصالح طبقتها، وأحكمت قبضتها عليه بشتى الوسائل لضمان لعبه هذا الدور.

نعود إلى السؤال، هل نخوض الانتخابات؟ نعم بالطبع، لكن بأى أفق؟ إن الأفق الصحيح في تصورنا لخوض معركة الانتخابات العمالية القادمة يتركز فى فكرة العمل القاعدي وسط العمال بعيداً عن التربيطات العائلية أو الصفقات لمجرد الفوز. العمل من خلال برامج انتخابية تمزج الهم الموقعي بما هو سياسي وعام، برامج تفضح التنظيم النقابي وتركز على البناء وسط القاعدة العمالية ودفعها بقوة لصدارة المشهد.

والحقيقة أن الفرصة سانحة تماماً لتحقيق ذلك فى هذه الانتخابات. فالسنوات القليلة الماضية شهدت بزوغ جيل جديد من القادة العماليين الطبيعيين ـ رغم مشاكلهم وتناقضاتهم ـ مختلف عن هؤلاء الذين تم تدجينهم داخل النقابات. هذا الجيل برز من خلال الحالات الاحتجاجية التي أفرزتها طبيعة المرحلة التي يعيشها العمال حالياً في إطار الهجمة الشرسة التي يشنها النظام على العمال من خلال سياسات الخصخصة. هؤلاء القادة الجدد الأكثر ارتباطاً بقواعدهم العمالية، سيكونون الوقود الحقيقي للمعركة، والأكثر قدرة على طرح برامج راديكالية ضد سياسات الإدارة والتنظيم النقابي. كذلك فالفرصة سانحة على المستوى الموضوعي، بعد انكشاف سياسات النظام فى التحول نحو السوق، وهي التي وعدتهم بالخير الوفير والرخاء الكبير ولم يجنوا منها سوى التشريد والفقر، خاصة وأن معركة الانتخابات النقابية ستجري بشكل أساسي فى البقية المتبقية من القطاع العام الواقعة الآن تحت خطر التصفية وتشريد عمالها فى إطار المرحلة الأخيرة لعملية الخصخصة. وبالتالي هناك فرصة كبيرة لخوض معركة مهمة على برامج انتخابية تطرح شعارات ضد الخصخصة والإدارة وتفضح التنظيم النقابي الحالي، مع الأخذ في الاعتبار مركزية العمل القاعدي وسط العمال، وعدم التوهم بأن هذه القيادات الجديدة سوف تتحول دفعة واحدة لتبنى الأفكار الجذرية المدافعة عن استقلالية حركة العمال عن الأفكار البرجوازية المسيطرة.

إن الانتخابات النقابية القادمة فرصة هائلة للارتباط بأوسع قطاع ممكن من العمال، خاصة هؤلاء الذين يتعرضون الآن لخطر التشريد، وسيكون المكسب الأهم هو إدارة المعركة وسط العمال على أرضية مصالحهم، وربطها بالنضال ضد الخصخصة لتطوير حركة عمالية قوية ضد هذه الهجمة الشرسة.