بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

فلاحون ورأسماليون في القرن الحادي والعشرين

* الكتاب: الفلاحون وتحديات القرن الواحد والعشرين
* المؤلف: عدد من الباحثين بإشراف سمير أمين
* الناشر: مركز البحوث العربية والأفريقية
* تاريخ النشر: 2007

يضم الكتاب عددا من الدراسات عن أوضاع الفلاحين والحركات الفلاحية في بلدان الجنوب في مواجهة ممارسات الرأسمالية العالمية بسياساتها الليبرالية الجديدة التي تهلك الفلاح الصغير والفقير.

بنظرة عامة على أحوال الفلاحين والعمال الزراعيين في معظم دول الجنوب في القرن العشرين، نجد أن النصف الأول من القرن شهد سيطرة الإقطاع المحلي ورأس المال الأجنبي على الأرض الزراعية، وكانت هناك احتجاجات فلاحيه متناثرة وغير مؤثرة على غرار ما حدث في مصر في الأربعينات والخمسينات من انتفاضات فلاحيه في بهوت وكفور نجم ودكرنس. كما كافح الفلاحون الصينيون منذ منتصف القرن الثامن العشر وعلى مدار قرن لإحلال توازن اجتماعي محل الاستغلال البشع. وظلت الأفكار عن إصلاح زراعي مطروحة إلى أن تحقق الإصلاح على يد الثورات الوطنية الشعبوية (برجوازية الطابع) التي وزعت الأرض على نسبة كبيرة من صغار الفلاحين. ودعمت حكومات هذه الأنظمة أسعار المبيدات والبذور وأشرفت على توزيع الحاصلات وتصديرها واقتطعت حصة من الناتج لدعم وتطوير الصناعة.

لكن الوضع اختلف في جنوب إفريقيا وزيمبابوي حيث كان الاستعمار استيطانيا. فاقتصرت ملكية الأرض على البيض، وبقى السكان الأصليون دون أرض حتى تسعينات القرن العشرين التي شهدت تمردا ومطالبات واسعة بإصلاح زراعي وتوزيعا للأراضي على السكان الأصليين. كما اختلف الوضع أيضا في أمريكا اللاتينية، حيث سيطرت الشركات الزراعية الكبرى إمبريالية الطابع وأعاقت الإصلاح الزراعي.

ومع بداية سبعينات القرن العشرين انطلق المشروع الرأسمالي بصيغته الليبرالية الجديدة. ولقد ساعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الشرقي على ذلك. وحدث انقلاب على فكرة الإصلاح الزراعي، واندفعت دول الجنوب لتبنى سياسات الخصخصة وإعادة التكيف الهيكلي والخضوع لتعليمات صندوق النقد الدولي. وكان أهم ما اتخذته حكومات الجنوب من إجراءات هو تحرير ملكية الأرض الزراعية ليسهل على الشركات الكبيرة ابتلاع مساحات واسعة من الأرض، كما تم رفع الدعم عن البذور ومستلزمات الإنتاج، واستبدلت المحاصيل الغذائية بمحاصيل نقدية.

ولنأخذ مثال ساحل العاج. فاقتصاد الكاكاو هناك وضع الفلاحين تحت رحمة السوق والشركات الكبيرة متعددة الجنسية. فبعد أن توسعت الحكومة في زراعة الكاكاو انهارت الأسعار بسبب تدفقه من ماليزيا وإندونيسيا. وحاول الرئيس الإيفواري انتهاج سياسة احتجاز بعض مخزون الكاكاو ولكن دون جدوى. فتعرضت طبقة الفلاحين للنتائج المأساوية لهذا الوضع.

وفي سريلانكا قامت حكومة الحزب الوطني الموحد بتوجيه الاقتصاد نحو “توافق واشنطون” الليبرالي الجديد: الإنتاج من أجل التصدير وتحرير الأسواق وتفكيك شبكات الضمان الاجتماعي. بل وأخذت الحكومة بتقرير البنك الدولي عام 1996 الذي أوحى بإلغاء مجانية مياه الري. ونتيجة لهذه الإجراءات قامت نضالات واسعة وبلغ ضحايا أحد هذه التمردات 60 ألف شخص بسبب القمع الوحشي.

وفي الفلبين فشل برنامج الثورة الخضراء بسبب إتباع نصائح البنك الدولي وانضمام الفلبين لمنظمة التجارة العالمية. وكان صغار الفلاحين ضحايا هذه التوجهات الجديدة. حيث وصل الأمر إلى نزع ملكية الأراضي وطرد الفلاحين المنتفعين من الإصلاح الزراعي بعنف.

وما حدث في ساحل العاج وسيريلانكا والفلبين تكرر بشكل أو بآخر في معظم دول الجنوب. حيث أدت هذه السياسات إلى سيطرة الفلاحين الأغنياء والشركات المتعددة الجنسية على مساحات واسعة من الأراضي، وهو ما أدى إلى ارتفاع نسبة البطالة وزيادة نسب الفقراء، وتحولت نسبة كبيرة من الفلاحين إلى عمال زراعيين دون أرض.

وفي مصر أخذت السلطة الحاكمة عدة إجراءات كان أولها عام 1971 حين أصدر السادات قرارا بتعويض ضحايا الإصلاح الزراعي، والغرض من هذا القرار كان توجيه ضربة أدبية لمبدأ الإصلاح الزراعي. وفي عام 1975 صدر قانون يسمح بتأجير الأرض الزراعية بالمشاركة الخاضعة للتفاوض الحر. وفي عام 1976 تم حل التعاونيات الريفية. وفي الأعوام من 1978 حتى 1980 تم رفع قيمة إيجارات الأراضي الزراعية. وفي عام 1981 تم رفع الحد الأقصى للملكية. وفي عام 1992 صدر قانون الأرض الزراعية المؤجرة.

كان للسياسات المشار إليها أثرا كبيرا على الفلاحين والعمال الزراعيين في مصر. لكن الهجرة إلى الخليج ساعدت على تحسين ظروفهم المعيشية إلى حد ما، وهو ما ساهم في تأخير النضال الاجتماعي في الريف. لكن على كل حال، فإن أساليب النضال التلقائي الوقتي غير كافية لوقف التدهور الذي يتعرض له صغار الفلاحين والعمال الزراعيين. كما أن نضالات الفلاحين لا تلقى الدعم السياسي الكافي. فالإخوان المسلمون دعموا في صحفهم وفي مجلس الشعب الإجراءات الليبرالية دون تحفظ، بينما دعمت أحزاب اليسار موقف الفلاحين ولكنها (خاصة التجمع والناصري) نصحت الفلاحين بالهدوء والاعتدال. ولم يبذل اليسار جهدا حقيقيا في تنظيم التحركات الفلاحية، ولم يحاول إعطاءها إطارا موحدا على المستوى القومي.

لكن فيما يتعلق بالنضال ضد غول الليبرالية الكاسح، تقدم لنا أمريكا اللاتينية مرة أخرى نماذج متقدمة. ففي البرازيل تكونت منظمات فلاحيه تناضل من أجل الأرض والإصلاح الزراعي في الفترة من 1950 إلى 1964. وتكونت روابط فلاحية من الفلاحين الذين يملكون أرضا والمشاركين بالمحصول والذين يرفضون الطرد من الأرض. ولقد تم تشكيل مثل تلك الروابط في كل ولايات البرازيل وضمت الآلاف ودعمها الحزب الشيوعي البرازيلي. ورغم الضربات الأمنية للحزب الشيوعي وللروابط الفلاحية، استمر النضال في مواجهة كبار الملاك ودارت معارك راح ضحيتها الكثير من الفلاحين. وفي نهاية الخمسينات ظهرت حركة “مزارعون بلا أرض” التي سعت إلى غزو قطع أرض جديدة. وفي عام 1984 تكونت حركة “العمال الريفيون بلا أرض” التي استطاعت منذ تأسيسها حتى الآن أن تساعد، بالنضال، 350 ألف عائلة فلاحيه في الحصول على أرض غير مزروعة. وتطور وعى جديد داخل الحركة حول أهمية خلق الظروف اللازمة للعائلات الفلاحية للاستمرار في زراعة الأرض بتوفير الآلات والبذور والتقنيات وتكوين تجمعات ريفية للتعاون والحماية. ومن الجدير بالذكر أن هذه الحركة الفلاحية كانت ذات أصول ذكورية. لكن مشاركة النساء ودورهن تزايدا، حتى أن هناك الآن تسع نساء منتخبات من بين أعضاء المستوى الأعلى الثلاثة وعشرين. وهو تطور اجتماعي حدث أثناء وبسبب النضال. ويثق أعضاء تلك الحركة أن الاشتراكية هي البديل لرأسمالية الليبرالية الجديدة.

وفي المكسيك تكونت حركة الزابتيستا من فلاحي المايا (السكان الأصليين) الذين استطاعوا القيام بانتفاضة اجتماعية واسعة حركت قطاعات المجتمع المدني المكسيكي من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحاربت العنصرية والقهر الاجتماعي الاقتصادي. وهو ما يؤشر إلى أن حركات النضال الفلاحي قادرة على تحصيل وعي اجتماعي واقتصادي لا ينهض بمطالبها فقط، بل بمطالب المجتمع ككل.

يحتشد الكتاب بالكثير من الخبرات النضالية، ويسلط الضوء على الخطر الذي يتهدد ثلاثة مليار فلاح على مستوى العالم نتيجة مخطط الرأسمالية بصيغتها الليبرالية الجديدة، ويضع على كاهل الحركات الفلاحية مسئولية إنجاز رؤية إيجابية بديلة في مواجهة هذا المخطط من خلال رسم استراتيجيات طويلة المدى، وربط هذه النضالات بالنضالات العمالية، وتدشين حملة عالمية لإعادة الاعتراف بحق كل الفلاحين في الأرض.