بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

في القرصاية.. الأرض أرض الفلاحين

أخيرا،ً انتصرت إرادة أهالي القرصاية وتوج نضالهم في الدفاع عن أرضهم بانتزاع قرار من لجنة الزراعة بمجلس الشعب بأحقيتهم في ملكية الأرض وضرورة تقنين وضعيتهم. لكن، لازال شعور أهالي القرصاية بالتهديد بالطرد والتشريد قائما، الأمر الذي ظهر باستقبالهم لقرار المجلس بالقليل من الفرح والكثير من القلق، مبررين ذلك بأنهم اعتادوا التشكيك في وعود الحكومة، فهي – على حد قولهم – دائما ما تقول كلاما لتعود وتتراجع عنه. اليوم، يطالب أهالي القرصاية بصورة من القرار الصادر لصالحهم ليكون دليلا دامغا على اعتراف الحكومة بأحقيتهم في ملكية الأرض وليكون حائط الصد الذي يحميهم في حالة تراجع الحكومة عن وعدها.

القرصاية والاستثمار
ليس من الغريب أن يسيل لعاب حكومة نظيف على جزيرة القرصاية، تلك الجزيرة الواقعة أسفل كوبرى الجيزة بجنوب القاهرة، فهذه الحكومة لم تتورع عن بيع بنوك ومصانع وشركات مصر الاستراتيجية وهي على أتم الاستعداد لبيع أرض القرصاية بمن عليها من بشر طالما أن ذلك سيصب في مصلحة رجال المال والأعمال. جزيرة القرصاية من وجهة نظر القائمين على النظام ليست سوى منطقة على الخريطة الكبيرة التي يسعى رجال الأعمال لملئها بالفنادق والمدن السياحية، وسكان الجزيرة من البسطاء لا يستحقون الإقامة بمكان يتوفر فيه الماء والهواء وعليهم أن ينضموا إلى أقرانهم بمدن النهضة والسلام.

القرصاية جزيرة صغيرة كان يغمرها الفيضان قبل بناء السد العالي، وعندما تم بناءه استقرت الجزيرة وجرى حصر الأملاك، وكان أمام الأهالي إما التمليك أو الايجار من وزارة الري بإعتبارها الجهة المالكة للأرض. وقد حافظ أهالي الجزيرة على دفع الايجار مقابل حق الانتفاع منذ ذلك الحين وبحوزتهم كافة الوثائق التي تثبت ذلك. في هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن موقع القرصاية المتميز على نهر النيل جعل منها مطمعا لكل حكومة مرت على مصر. ففي عهد جمال عبدالناصر طلبت شركة فرنسية شراء الجزيرة ووافقت الحكومة المصرية، لكن حالت ظروف هزيمة 1967 دون إتمام عملية البيع، وذلك بالرغم من انحياز الرئيس عبد الناصر للبسطاء بالمقارنة بحكام مصر الحاليين. أما في عهد الرئيس السادات، وبالتحديد في عام 1981، أرادت قرينة الرئيس جيهان السادات اقتطاع جزء من الجزيرة، ولكن ظروف اغتيال السادات أنهت الفكرة.

وبذلك، ومنذ عام 1983 سارت الأمور بشكل طبيعي على الجزيرة، ففي آخر كل عام كان يأتي موظف الأملاك وموظف العوائد لتحصيل حق الحكومة، استمر هذا الوضع إلى أن أقرت الحكومة قانون تنظيم وضع اليد على أملاك الدولة وهنا ظهرت نية الحكومة في الاستيلاء على الجزيرة بشكل مقنن نوعا ما، ولجأ الأهالي يومها إلى القضاء فأنصفهم. وفي عام 2001 قرر رئيس الوزراء الأسبق عاطف عبيد الاستيلاء على الجزيرة فخرج الأهالي وتظاهروا على طريق الأتوستراد وقطعوا الطريق ورفضوا فض تظاهرهم إلا بعد رجوع الحكومة عن قرارها، مما اضطر مبارك للتدخل وأصدر القرار رقم 484 لسنة 2001 بتمليك الجزيرة لواضعي اليد، لكن كعادته لم يف بوعوده ولم ينفذ القرار على أرض الواقع. فعندما ذهب الأهالى إلى الشهر العقاري للتسجيل قال لهم الموظفون أنه ليس لديهم تعليمات بتنفيذ هذا القرار، وبذلك أصبح قرار مبارك حبر على ورق وكلام في الهواء.

وفي الأيام القليلة الماضية تجددت محاولة الحكومة للاستيلاء على الجزيرة، فمن مقر وزارة نظيف بالقرية الذكية أصدر قراره للجيش المصري بالتدخل دون إبداء سبب منطقي لتصعيد من هذا النوع ودون إجراء أي مفاوضات مع أيا من سكان الجزيرة البالغ عددهم 5 آلاف نسمة والذي يعمل غالبيتهم بالصيد والفلاحة.

الأرض أو الشهادة
بدأت الأزمة الأخيرة عندما وصلت إلى الأهالي خطابات من الجمعية الزراعية بالجيزة تفيد بأن رئيس الوزراء قد أصدر قرارا بوقف تحصيل الإيجارات منهم. استقبل الأهالي الخطابات بغضب عارم لأنهم رأوا فيها بوادر فتح الموضوع القديم بالاستيلاء على الجزيرة، وبذلك سارع الأهالي بالتظاهر على الأرض وهتفوا “مش هنسيبها .. مش هنسيبها”، ورفعوا لافتات كتبوا عليها “لن نتركها إلا على جثثنا”. وتحققت بالفعل التوقعات حول اعتزام الحكومة انتزاع الأرض، ففي ساعة مبكرة من يوم الثلاثاء 27 نوفمبر الماضي فوجئ الأهالي بقوات من الجيش تحاصر الجزيرة وتحاول اقتحامها. وبالرغم من جسامة حدث كتدخل الجيش، فعلى حد قول أحد الأهالي ” بالنسبة لنا الله سبحانه وتعالى أولا وفوق كل شيء والقوات المسلحة المصرية ثانيا” ، أدركوا أن في وحدتهم ومقاومتهم السبيل الوحيد للتصدي لمخططات الحكومة وإنقاذهم من التشرد. بذلك، كونوا دروعا بشرية قوامها الجميع ويتصدرها النساء والأطفال، وقف الكل صفا واحدا في مواجهة حصار الجيش ولم يتمكن أحد من فض الصف. بعدها قام الأهالي بحفر مقابر لهم على الأرض التي تريد الحكومة الاستيلاء عليها بل ولفوا شابا فى قطعة من القماش وحملوه فى مشهد جنائزي مهيب ووضعوه في المقبرة وسط هتاف الأهالي “الله أكبر … الله أكبر ” و صراخ النساء ونحيبهم، وأهالوا بعض التراب على الشاب. يقول أحد العاملين بالزراعة والصيد بالجزيرة، أن موقف أهالي الجزيرة قد تغير كثيرا ما بعد تدخل الجيش، ” إحنا كنا بنعاير الشخص اللي ما بيلبسش لكن بعد اللي حصل ده إحنا حنبطل نلبس ولادنا”.

ما قام به الأهالي كان رسالة واضحة وشديدة اللهجة أرادوا لها أن تصل إلى أعلى المسؤلين في البلد من خلال قادة الأمن الذين حضروا ليصيبهم الرعب لما يقوم به الأهالي الذين أصروا على الاعتصام. وما كان من الجيش إلا وأن احتل قطعة أرض صغيرة غير مملوكة أو مأجرة لأحد وأتى بالجرافات بهدف ردمها وتوسيعها. وكالعادة، تدخلت قوات الأمن بإلقاء القبض على عشرة أشخاص وضغطت عليهم للتوقيع على عقود تنازل عن أراضيهم، وبعد أن قام 8 منهم بالتوقيع أخلت سبيل العشرة أشخاص. وبالرغم من ذلك أكد الأهالي على تمسكهم بالأرض وعلى أنهم لن يقبلوا التنازل عنها.

إصرار أهالى الجزيرة في الدفاع عن أرضهم وصل إلى حد عدم تركها حتى بعد الموت، فعليها عاشوا وسيعيشوا وفى أرضها يدفنون، أحد الأهالي صرخ قائلا ً “أموت وأستشهد في أرضي ودمي يسيل عليها ليفتخر ابني بي يوما ويقول أبويا مات عشان حقه” كلمة لخصت كل نضال أهالى القرصاية .

على الجزيرة كل فرد دافع عن الأرض بطريقته الأطفال والنساء شاركوا في الاعتصام والرجال يحملون الفئوس والشوم، أما محمد عبلة الفنان التشكيلى وأحد سكان القرصاية أمسك بقلمه وخط على ورقة بيضاء لوحة لعسكرى يدمر كل شئ على الجزيرة كانت هذه اللوحة بمثابة الجرعة الفورية لتجديد الاصرار لدى الأهالي، يقول عبلة أن اللوحة تستطيع الوقوف أمام البندقية لأن الشخص الذى ينظر إلى صورة تعبر عنه وعن مأساته تعطيه تلك الصورة عاملا ً حافزا على الاصرار فى عدم ترك حقه مهما كان جبروت القوة التى تواجهه، حتى الأطفال في الجزيرة رسموا لوحات من مخيلتهم تعبر عن حبهم للجزيرة و خوفهم من الجيش الذى يريد الاستيلاء عليها بالقوة، رسومات الأطفال صنعت زعراًً وخوفا لدى ضباط أمن الدولة الذين لا يفارقون الجزيرة ولو للحظة.

حالة تضامن
نضال القرصاية ضد سيطرة رأس المال على أرضهم أخذ أشكال عديدة بخلاف الاعتصام ومواجهة الجيش لحظة اقتحام الجزيرة، فقد أقاموا حفلات غنائية ومعارض فنية على الأرض التى تريد الحكومة الاستيلاء عليها، آخر هذه الحفلات جاءت في رأس السنة الميلادية، وبالفعل استعدت الجزيرة كلها لاستقبال ضيوفهم من المتضامنين وعلقوا لافتات ترحب بالوفود وتدلهم على مكان الحفل الذي قرروا أن يقيموه على الجزء من الأرض الذي تريد الحكومة الاستيلاء عليه. وقد حضر الحفل الذي بدأ من الساعة الثالثة مساء عدد كبير من المتضامنين مع الأهالي، وكان من الحضور وفود من فلاحي دكرنس و موظفي الضرائب العقارية، وحضر الحفل أيضا وفد من حركة كفاية، بالإضافة إلى وفد من شباب المدونين، وأحيا الحفل العديد من الفرق الموسقية والفنانين امثال فرقة أسكندريلا والفنان وجيه عزيز والفنان أحمد إسماعيل والفنان حسين درويش عازف الناي، وغيرهم من الفنانين الذين حضروا إلى الحفل متضامنين مع الأهالي دون أدنى مقابل، وأكد جميعهم أن حضورهم بسبب الوقوف بجوار الأهالى في محنتهم والشد على سواعدهم في نضالهم ضد إستيلاء الحكومة على أرضهم.