حكايات وراء الإضراب
جاء إضراب عمال غزل المحلة الثاني بعد ما يقرب من 9 أشهر من إضرابهم الأول في ديسمبر الماضي، ليؤكد من ناحية على عمق الأزمة التي يعانيها العمال تحت وطأة الاستغلال وارتفاع للأسعار في ظل تجاهل الحكومة لمطالبهم، ومن ناحية أخرى ليؤكد على صلابة العمال وقدرتهم النضالية العالية وإصرارهم على انتزاع حقوقهم حتى النهاية، فخرج الآلاف من عمال غزل المحلة يوم 23 سبتمبر الماضي ليعلنوا استمرار النضال الذي بدأ في ديسمبر 2006.
وإذا كانت المطالب الأساسية للعمال تتلخص في الأرباح والأجور والحوافز وإقالة النقابة والإدارة الفاسدتين .. وغيرها من المطالب التي كانت الدافع الأساسي للإضراب الأول والثاني، إلا أن وراء هذه المطالب قصة حياة كاملة لكل عامل تنبع منها أهمية هذه المطالب، فالعمال البسطاء أصبحوا غير قادرين على العيش بالفتات التي يحصلون عليها في ظل الارتفاع الجنوني للأسعار الذي حول حياتهم إلى جحيم، وبالتالي لم يعد لديهم الاستعداد للتفريط في قرش واحد من حقوقهم حتى لو اضطروا للاستشهاد في سبيله.
(م.ص) أحد العمال الشباب والذي يعمل في شركة غزل المحلة منذ 9 سنوات يقول “أنا أول مرتب لي كان 120 جنيه، وبعد 9 سنين أصبح 350 جنيه في الشهر، وأنا متزوج وعندي بنت وولد، بادفع في الشهر 300 جنيه إيجار السكن اللي أنا عايش فيه، يعني المرتب يا دوب على أد إيجار الشقة، طيب حأعيش أنا ومراتي وعيالي منين.. كان لازم أشتغل شغل تاني بعد الظهر”، ويضيف العامل “الوضع ده سبب فشل 99% من الحياة الأسرية للشباب، لأن الشاب لما بيشتغل شغل تاني ده معناه أنه حيفضل برة بيته وبعيد عن أسرته طول اليوم، ولما يروح يبقى يادوب عايز ينام علشان يقدر يصحى الصبح يروح الشغل، حيربي ولاده إمتى ويشوف مراته وعائلته إمتى.. النتيجة بتكون تفكك أسري”. ويستكمل “إحنا الشركة الوحيدة اللي لسة بتقبض بالمليم! هو مش المليم اتلغى برضه؟” وعن ظروف العمل يؤكد (م.ص) أنه “بالرغم من أن عدد ساعات العمل في الشركة 7 ساعات بس، لكن العامل بيطلع إنتاج 12 ساعة.. يعني لو المفروض أن العامل يطلع 100 قطعة في اليوم، بيضطر أنه يطلع 400 قطعة في اليوم، وده طبعا بييجي على حساب الجودة وطبعا على حساب صحة العامل”.
(ن.م) عامل انتاج يقول ” أنا اتعينت في الشركة من 20 سنة، كان مرتبي في البداية 70 جنيه، وبعد 20 سنة مرتبي الأساسي 250 جنيه، أنا بقالي 20 سنة بعاني، في الأول كان مطلوب مني أتجوز وأفتح بيت، وكان مرتبي مابيكفينيش لوحدي، النهاردة بعد 20 سنة، في ظل ارتفاع الأسعار اللي حاصل أصبح المرتب ما يكفيش مصاريف الخمس عيال وأنا وأمهم”. ويكمل العامل ” السنة دي جه رمضان والعيد والمدارس في توقيت واحد، وكل مناسبة من دول عايزة ميزانية لوحدها، فجأة لقيتني مش قادر ألاحق على المصاريف وييجي ولاد الكلب يقولولنا 40 يوم أرباح .. ما كنش فيه حل غير الإضراب”.
عامل ثالث يتدخل في الحديث ويقول.. “قرار الإضراب انتشر زي النار وسط العمال .. والحقيقة الستات لعبت دور كبير في نشر الخبر في العنابر والسوق والبيوت وكل حتة”. ويضيف العامل “إحنا عملنا رسالة تحذيرية يوم 1/7 لما وقفنا نصف ساعة وحددنا يوم 21/7 للإضراب، وبعدين حددنا موعد 23/9 لو ما تمتش الاستجابة لمطالبنا، وهمة ما كنوش مصدقين، لكننا نفذنا ومش حنمشي إلا لما ناخد حقوقنا .. إن شاء الله نقعد لغاية العيد”.
عامل آخر يلتقط خيط الحديث وراح يفصل المرتب ويقارنه بتكاليف المعيشة فيقول “أنا باشتغل في الشركة من سنة 1979، كنت باخد 50 جنيه في الشهر، بعد 28 سنة شغل باخد 350 جنيه، إيجار السكن لوحده 250 جنيه، بدقع كهربا 30 جنيه، وميه من 15- 18 جنيه، وعندي 3 عيال، في ثانوي وإعدادي وابتدائي”. صمت العامل لحظة واستكمل “تصدق بالله يا أستاذ، أنا ابني اللي في ثانوي دخل المدرسة السنة دي بلبس الإعدادي بتاع السنة اللي فاتت، لأني مش لاقي أجيب لبس”. ويضيف العامل “رمضان عدى علينا وكأنه مش رمضان لأني معيش مصاريفه.. حاولت أدور على شغل تاني .. لكن مافيش، فكان قصادي حاجتين يا إما أسرق أو انضم لزمايلي في الإضراب .. وإحنا واثقين إننا حننجح”. هنا تدخل عامل آخر بانفعال “الإضراب هو الحل الوحيد .. يا أستاذ ده فيه 4600 وحدة سكنية تبع الشركة ما حدش بيسمع عنهم حاجة ولا بيشوفهم، بيتوزعوا على المحاسيب وحبايب الإدارة والنقابة”.
قطع أحد العمال الحديث بصوت عال قائلاً “أنا عايز الجنيه ونص!” فانتبه الجميع لكلامه لنفهم الموضوع، ثم بدأ العمال يسرد قصة اقتناعه بمطلب سحب الثقة من اللجنة النقابية بعد رحلة طويلة من مطالبته لها بمساعدته في الحصول على حقه في العلاج على نفقة الشركة “من فترة طويلة بدأت أحس بألم شديد في بطنى، رحت عملت إشاعات وتحاليل تبع الشركة، قالو لى إن عندي التهابات على الكلى، وادونى علاج بالهبل، وفضلت تعبان، واستمريت كدة فترة كبيرة، روحت بعد كدة لدكتور برة على حسابي، وبعد التحاليل قالى إن فيه ورم على المثانة، بعد كده روحت النقابة وطلبت العلاج لففونى السبع لفات ورضه ما اتعلجتش، بعدها صممت على سحب الثقة من النقابة، وكنت من ضمن الناس اللى قدمت استقالة من النقابة، وقلت لرئيس مجلس الإدارة أنا مش عايز أتعالج ولا ألف جنيه ولا مية ألف جنيه حتى، أنا عايز الجنيه ونص قيمة اشتراك النقابة اللى بيتخصم من المرتب…”
لم تكن هذه كل حكايات العمال، فهناك 27 ألف حكاية وراء كل عامل من عمال غزل المحلة، 27 ألف سبب ومبرر للنضال والإضراب، وهناك خيط واحد يربط كل القصص والحكايات وهو كلمة السر في انتفاضة عمال المحلة .. إنه الفقر وتدهور أحوال المعيشة إلى حد أصبح لا يطاق، لكن الملاحظة الهامة في كل الحكايات أن العمال في مجرى الصراع بدءوا الطريق الصحيح للدفاع عن حقوقهم وانتزاعها عبر النضال المشترك والجماعي، لم يكن الإضراب الثاني لغزل المحلة بعد 9 أشهر من إضرابهم الأول مجرد صدفة، لقد عرف العمال الطريق إلى الانتصار وتعلموا أن الإضراب هو سلاحهم الوحيد في مواجهة الاستغلال والفقر والجوع.