العمال من الانتفاضة إلى الخصخصة..
حالة الحركة العمالية في مصر اليوم
وفقًا لليون تروتسكي (الاشتراكي الثوري الروسي وأحد قادة ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917) فإن “الآثار السياسية لأية أزمة (اقتصادية) تتحدد بمجمل الوضع السياسي وبتلك الأحداث التي تسبق الأزمة وتتزامن معها، خاصة المعارك والانتصارات والهزائم التي تمر بالطبقة العاملة ذاتها قد تعطي الأزمة دفعة عظيمة للنشاط الثوري للجماهير العاملة. وتحت مجموعة مختلفة من الظروف قد تؤدي الأزمة إلى شلل كامل لهجوم البروليتاريا”.
هذه الملاحظة تعتبر ذات أهمية شديدة بالنسبة لثوريين يواجهون ظروف كالتي تواجهها نحن في مصر. ففي سنوات الأزمة الطويلة التي واجهت الرأسمالية المصرية منذ منتصف الثمانينات وحتى حوالي منتصف التسعينات، لم تتصاعد الحركة النضالية للجماهير العمالية، بل خسرت الطبقة العاملة موقعًا وحقوقًا كانت قد اكتسبتها في السبعينات. ويمكن التأكيد أنه بسبب هذه الخسائر بالذات استطاعت الطبقة الحاكمة في مرحلة لاحقة (السنوات الثلاثة أو الأربع الأخيرة) أن تشدد وتسرع هجومها على العمال بغرض “ترشيد” الرأسمالية المصرية حتى تنطلق للأمام في حلبة المنافسة العالمية.
وعلى أي الأحوال فإن التراجع الراهن في الحركة العمالية المصرية سمات خاصة محددة لا يمكن فهمها في إطار فهم العلاقة الوثيقة بين سياسات الطبقة الحاكمة، وحالة الرأسمالية، والوضع السياسي العام، وصلة هذا كله بوضعية الرأسمالية العالمية. ففي هذا السياق فمن الخطأ الشديد اختزال المسألة إلى علاقة بسيطة كما يفعل بعض رفاقنا الثوريون: “الأزمة الاقتصادية تؤدي إلى ثورة”.. “هجوم الرأسمالية يقابله بالضرورة هجوم عمالي مضاد”.. الخ، وإلا فإن النتيجة ستكون عمى تام عن الحقيقة يؤدي إلى تذبذب بين قمة اليأس (لا يوجد أمل) وقمة التفاؤل غير المبرر (الثورة غدًا).
بدايات الهجوم ودروس 1977:
في فبراير 1968 خرج عمال المصانع الحربية ومصنع الطائرات بحلوان في مظاهرات كبيرة احتجاجًا على الأحكام الهزيلة التي أصدرتها إحدى المحاكم على قادة الطيران في حرب 1967 في تهمة تسببهم في الهزيمة. كانت تلك هي أولى بوادر النهوض العمالي بعدما يقرب من 15 عامًا من السبات في ظل حكم القبضة القوية لعبد الناصر. وفي السنوات التي تلت 1968 – وحتى عام 1977 – شهدت الحركة العمالية موجتين احتجاجيتين في 71 – 1972 و75-1977.
ولا يمكننا أبدًا الحكم على قوة تأثير هاتين الموجتين على مسار الصراع الطبقي في سنوات السبعينات العاصفة فقط بمعيار عدد الإضرابات والاعتصامات. فهذا المعيار وحده يغفل عددًا من العوامل السياسية والتنظيمية شديدة الأهمية.
موجات الاحتجاج في السبعينات (وفي أواخر الستينات) اندلعت بينما كانت الطبقة الحاكمة المصرية تمر في مرحلة تحول هائل: هزيمة عسكرية، انتقال من المعسكر السوفييتي للمعسكر الأمريكي، إفلاس لإستراتيجية رأسمالية الدولة. وفي مرحلة التحول تلك نشبت الخلافات في أوساط الطبقة الحاكمة، واندلعت المظاهرات الطلابية احتجاجًا (على فشل الدولة في حل المسألة الوطنية) (النضال ضد الإمبريالية وضد إسرائيل). لقد كان للعلاقة الجدلية بين الحركة العمالية والحركة الطلابية على وجه الخصوص أثر حاسم في إشعال النضال العمالي وفي تأجيجه. بالطبع ليس المقصود أن الحركة الطلابية أوجدت الحركة العمالية من العدم أو أججتها بدون أساس، وإنما أن الهجوم الاقتصادي على مكتسبات العمال هو الذي دفعهم للحركة، ولكن الظرف السياسي – وفي القلب منه السخونة الجماهيرية في الشارع بفعل مظاهرات الطلبة – أوجد المناخ الملائم لتصاعد وتوسع ولخلق حالة ثقة بالنفس.
وقد حققت الحركة العمالية في السبعينات مكاسب اقتصادية وسياسية لا يمكن إنكارها. على سبيل المثال، ارتفع الرقم القياسي للأجور بفضل موجة النضالات 75-77 من 97 في عام 75 على 113 عام 1977 (سنة الأساس 1972 – أنظر الجدول). أيضًا كانت سنوات أواخر الستينات والسبعينات هي تلك المرحلة التي شهدت العمال يرفعون شعارات ويرددون هتافات سياسية في المظاهرات (1968، 1975، 1977). ولكن لا يمكن لأية موجة احتجاجية عمالية أن تستمر إلى ما لا نهاية؛ فإما أن تعلو إلى مستويات سياسية وتنظيمية أعلى (وهذا لم يحدث بفعل عدد من العوامل منها أخطاء اليسار الردايكالي، وانتهازية كتلة أساسية من القادة النقابيين، وقدرة الطبقة الحاكمة على امتصاص الصدمة وتحويلها)، أو أن تنكسر وتتهاوى. وقد انكسرت موجة السبعينات على صخرة 1977. إذ انتهت الانتفاضة العمالية الجماهيرية بالقمع والتشتيت، وظلت الحركة العمالية ساكنة لمدت ست أو سبع سنوات تليها.
جدول الأجور القياسية بالجنيه
العام | القطاعان معًا | القطاع الخاص | القطاع العام |
1972
1973 1974 1975 1976 1977 1978 1984 1985 1986 1987 1988 1989 1990 1991 1992 1993 1994 |
100
99 102 97 103 113 112 141 137 120 113 108 98 94 84 77 81 81 |
100
80 91 91 104 115 118 139 151 132 125 109 100 99 88 78 76 79
|
100
102 104 99 103 112 111 142 134 117 111 108 98 94 83 78 83 84
|
على أن الانتفاضة أعلنت درسًا ثمينًا للطبقة الحاكمة المصرية، وتركت علامتها على سياساتها حتى أوائل التسعينات على أقل تقدير. فقد تراجعت الدولة عن سياسة الهجوم المباشر والسريع (قرارات يناير 1977)، وأتبعت سياسة الخطوة خطوة في هجوم جزئي بطئ وحثيث. وطلما كانت الرأسمالية منتعشة (مرحلة الرواج حتى منتصف الثمانينات)، كان من الممكن أن تتبع البرجوازية سياسات التحول البطيء دون أن يترك هذا أثرًا على مستوى معيشة العمال. بل أن الرقم القياسي لأجور العمال قد زاد في هذه المرحلة (77 – 1985) من 113 في 1977 إلى 137 في 1985، تقريبًا بدون أن يدخل العمال في إضراب هام واحد (هذا إذا ما استثنينا إضراب كفر الدوار 1984).
الهجوم خطوة خطوة والمقاومة مشتتة:
بعد 1977 دخلت الحركة العمالية في منعطف جديد. فبعد سنوات من الركود ارتفعت وتيرة النضالات مرة أخرى بدءًا من 1984. وشهدت السنوات 1984 – 1989 عددًا من الإضرابات الهامة ذات التأثير الواسع (كفر الدوار 1984، إسكو 1986، المحلة 1986، السكة الحديد 1986، الحديد والصلب 1989). ولكن نلاحظ أن هذه المعارك كانت تخاض في ظروف جديدة ومختلفة: قمعية شرسة غير مسبوقة ولم تشهدها السبعينات (قتلى ومصابين، وحصار أمني، واعتقالات… الخ)، أزمة اقتصادية طاحنة، ثبات ورسوخ التحول ناحية سياسات السوق الحر، إفلاس وتفكك اليسار… الخ. هذا الإطار السياسي للنضال العمالي ترك أثره العميق على حالة الحركة العمالية. فخبرة الإضراب أو الاعتصام تكوم أليمة، ونتائجه وخيمة (الموت هو الثمن)، ومسيرة الهجوم البرجوازية لا تتوقف. لم يكن كل هذا حتميًا – بل كانت تلك المعارك في حد ذاتها هي السد المنيع الذي عطل وكبح الهجوم البرجوازية سنوات وسنوات. ولكن محصلة خبرات الحركة كانت هي التشتت والدفاعية. وعلى مدى السنوات من 1985 وحتى 1994 هبط الرقم القياسي لأجور العمال من 137 في 1985 إلى 81 في 1994!! واستطاعت سياسة الخطوة خطوة أن تفعل مفعولها أن تفعل مفعولها وتحدث أثرها على حالة النضال العمالي.
غضب ممزوج بفقدان ثقة:
الرأسمالية المصرية اليوم في وضع أفضل كثيرًا من حالها في أوائل التسعينات، سواء من الناحية المالية (عجز الموازنة، التضخم، الاحتياطي النقدي، ميزان المدفوعات) أو من الناحية الإنتاجية (معدل النمو يزيد الآن على 5 % وهو رقم عالي بالمقياس العالمي). ولكن هذا لا يعني الشيء الكثير بالنسبة للطبقة العاملة. فرأسمالية ناشئة ما زالت تحبو كالرأسمالية المصرية عليها، حتى تستطيع أن تصمد في سوق عالمية راكدة وبها منافسين عتاة، أن تضغط وتضغط على مستويات معيشة الجماهير العمالية، تمامًا كما فعلت الدول التي سبقتها في سلم الصعود.
ولذا فبينما تتحسن حالة الرأسمالية يتعرض العمال لهجوم شرس ومتواصل. لقد تخلت الطبقة الحاكمة في السنوات الأخيرة عن سياسات الخطوة خطوة وبدأت في الهجوم السريع. هذا هو ما تمثله سياسات الخصخصة بالنسبة للطبقة العاملة في القطاع العام: التصفية، التشريد، اغتيال ضمان العمل، تقليص الأجور المتغيرة… الخ.
وفي هذه السنوات الخيرة بالذات تزايد عدد النضالات العمالية، حتى أنه غالبًا تفوق على عددها في سنوات السبعينات. ولكن شتان بين معارك السبعينات ومعارك اليوم، سواء من حيث التأثير العام، أو من حيث النجاح، أومن حيث خلق حالة ثقة في أوساط العمال. تشير بعض التقارير مثلاً إلى أن حالة العمال بعد ثاني أهم إضرابات التسعينات (النصر للسيارات 1995)، كانت سيئة ومحبطة حتى أنهم بعد أيام من إضرابهم البطولي الذي تم في ظروف صعبة وقعوا على وثيقة تزكية وتأييد لرئيس المصنع (المهندس سعيد النجار الذي أصبح فيما بعد محافظًا لبني سويف مكافئة له على دوره في تنفيذ سياسات تجويع العمال).
وتفسير ذلك الوضع المتناقض – عدد أكبر من الإضرابات وتراجع عام في الحركة العمالية – لا يمكن أن يكون صحيحًا إلا في سياق ربطه بالوضع السياسي العام. فتحول العمال من الدفاع إلى الهجوم لا يحدث بمجرد الزيادة العددية في الإضرابات. إذ أنه قبل نقطة معينة من تطور مسار الأحداث في الصراع الطبقي – وهي النقطة التي عندها تتفجر الحركة العمالية لتخلق ثقة أعلة بإمكانية التغيير من أسفل في أوساط العمال وتخلق اهتزازًا وانقسامات في أوساط الطبقة الحاكمة – الإحساس بدرجة أعلى في أوساط العمال بانعدام الثقة.
وهذا الوضع هو بالضبط حال الطبقة العاملة المصرية في الآونة الأخيرة. وهو حال يسمح للطبقة الحاكمة وممثلها – نظام مبارك – ليس فقط بمواصلة الهجوم وتشديده، وإنما أيضًا بإتباع سياسة عمالية قمعية. فليست النقابات هي التي تمتص حركة العمال وغضبهم، وإنما جهاز الشرطة وأدواته القمعية. والدماء التي تسيل في العديد من الإضرابات لا تعكس وحشية عبثية لمصاصي دماء أسطوريين، وإنما تعكس شيئين رئيسيين: الحاجة الملحة للطبقة الحاكمة لترشيد رأسماليتها، وقدرتها على إتباع وسائل دموية بتحقيق ذلك بسبب وضعية الحركة العمالية.
والتحول العميق الذي جرى في السنوات الأخيرة – وما زال يجري حتى اليوم – في تكوين الطبقة العاملة بسبب التصفية والخصخصة في القطاع العام من جانب، وبسبب نشوء الرأسمالية الجديدة ومصانعها من جانب آخر يضيف بعدًا آخر لحالة الطبقة العاملة. فها هي طبقة يتغير بنيانها بسرعة شديدة: تفكك قطاعات راسخة ومتقدمة ومنظمة في القطاع العام (الغزل والنسيج مثلاً)، وتولد قطاعات غضة وحديثة النشأة في القطاع الخاص. وهذا أمر يهز بشدة قواعد نضالية صلب عودها على مر عقود، ولكنه بالتأكيد له – كما سيظهر في المستقبل – جانبه الإيجابي. فالقطاعات الجديدة الوليدة برغم حداثتها وقلة تجربتها لم تتأثر كثيرًا بالخبرات السلبية السابقة، وهي مكونة من عناصر عمالية تشكلت خارج ميكانيزمات السيطرة المستقرة للبرجوازية.
والسمة الأساسية لهذا الوضع المتشابك هي أن الحركة العمالية تمر بمرحلة غير مستقرة. فمن ناحية أولى هناك انعدام في إمكانية تغيير بالنضال من أسفل، ومن جهة ثانية هناك غضب مكتوم من سياسات الهجوم البرجوازية. التراجع في الحركة العمالية اليوم له سماته التي تختلف مثلاً عن السكون في مرحلة العنفوان الناصري. وقتها كان العمال مندمجين – بهذا القدر أو ذلك – في مشروع البرجوازية الناصرية؛ أما اليوم فالحكم بالرضا والقبول ليس هو الأساس، وإنما القمع والديكتاتورية هما الأداة المحورية.
وبالنسبة للثوريين هذا فارق في غاية الأهمية. فارتكاز البرجوازية على الحكم بالرضا وقدرتها على تحقيق إصلاحات يطرحان أمام الثوريين مصاعب وعقبات من نوع يختلف جذريًا عن تلك المصاعب التي يخلقها ارتكاز البرجوازية ونجاحها تأسيسها على سياسة هجومية تحتمي بالقمع. ففي هذه الحالة الأخيرة يكون عنوان الوضع هو حرب الاستنزاف الصعبة بالتأكيد والتي تطرد هنا وهناك فرصًا للتأثير والارتباط والنمو.
وما أبعد الفارق بين هذا الحال وبين الحال الخانق في ظل سيطرة إصلاحية من أي نوع ديكتاتوري أو ديمقراطي ووقود هذه الحرب الاستنزافية هو الغضب الذي يشعل انفجارات يائسة أو عفوية متقطعة من حين لآخر. أما ميزانها فيمكن أن ينقلب – في ظل ظروف كلية معينة وبعد نقطة محددة من التطور – إلى تصاعد عمالي محسوس.
ولعل الحكمة الأساسية التي ينبغي أن يتشبث بها الثوريون في ظل ظروف كهذه هي التحلي بالصبر الثوري والعمل بدأت على اقتناص فرص النمو وتوسيع التأثير وكسب الخبرات. ويعني الصبر الثوري هنا ليس فقط عدم استعجال النتائج أو قفز المراحل، وإنما أيضًا فهم الطبيعة المتناقضة لمعارك اليوم وغزل الصلات بها على أساس من طبيعتها تلك وليس على أساس من أوهام انتصاريه تدعي أن كل معركة هي المعركة الفاصلة في الصراع الطبقي. هنا بالضبط يكمن الفارق بين الثورية الصلبة وبين الروح اليسارية الطفولية التي يحلو ترديد الشعارات الزائفة والملفقة.