في ظل المبادرات الحكومية والسلفية:
هل سيدفع الفقراء ثمن المعونة؟

ما يقال عن مبادرات لمساندة الاقتصاد يسترعي النظر حول مدى جدواها في مواجهة المعونة الأمريكية أو غيرها، فهل يجوز أن يتبرع الفقراء لحماية اقتصاد هو السبب في فقرهم أم أن الأجدى هو التوزيع العادل للأعباء في المجتمع ؟ للإجابة حول هذه الأسئلة عقد مركز الدراسات الاشتراكية مساء الأربعاء، 29 فبراير، ندوة تحت عنوان " الفقراء يدفعون ثمن المعونة" بحضور الكاتب والمحلل الاقتصادي وائل جمال.
أوضح وائل في البداية حالة الجدل الدائرة حاليا قائلا: "ما يثار الآن من جدل حول المعونة الأمريكية في مصر بنشر وجود مؤامرات عالمية وفرض شروط خارجية قد بدا واضحا تماما في الخطاب الحكومي الذي وجهه الجنزوري أمام البرلمان. لكن علينا بداية قبل التكلم عن المؤامرات أن نعرف ما هي المعونة؟ وما هو حقيقة جوهرها؟".
قد يرجع تاريخ المعونة الأمريكية إلى عام 1946 أي بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، وخلال كل تلك السنوات اتخذت المعونة شكل فائض المحاصيل الزراعية الأمريكية بمنحها لمصر دون مقابل. وفي التسعينات من القرن الماضي وصل حجم المعونة إلى 2 مليار دولار حيث تم الاتفاق مع نهاية التسعينات بتخفيضها 5% من كل عام مع الحفاظ على الجانب الأكبر منها موجها للناحية العسكرية (ما يعادل 1.3 مليار دولار). ووفقا للدراسات فإن المعونة الأمريكية لم تكن اقتصادية فحسب بل ارتبطت بقرارات سياسية كطرد الخبراء السوفييت ثم تأهيل مصر لعصر الانفتاح والاندماج في السوق الحر حتى احتلت مصر المرتبة الثانية بعد اسرائيل كأكبر دولة من حيث حجم المعونة الأمريكية لها.
لكن قطع المعونة لم يكن مرتبطا بالزمن الراهن، فالواضح منذ فترة تلك المداولات التي شهدها اجتماع أحمد نظيف في الغرفة التجارية عام 2004 حيث تم احتجاز 500 مليون دولار من جانب أمريكا في مقابل إعلان الحكومة عن خطط اقتصادية عامة. ورغم تلك المناوشات إلا أن المعونة استمرت في إطارها الاستراتيجي الذي لا يمس ولم تتوقف. هنا يتم طرح التساؤل فعليا حول توجه المعونة وتأثيرها في مصر، فالمعونة العسكرية للجيش التي تلتهم الجزء الأكبر لا يتم الإعلان عنها وتعاني التعتيم الشديد. أما الجزء الباقي من المعونة الاقتصادية فإن إحدى المعاهد الأمريكية المتخصصة وجدت أن من بين 21 دولة مانحة احتلت أمريكا المرتبة قبل الأخيرة في تحقيق المعونة لأهدافها، ووفقا لتقرير تم تقديمه للكونجرس أن 80% من الأموال المقدمة لمصر يتم رجوعها إلى أمريكا لكن بشكل آخر يتضح ذلك في حجم التسهيلات المقدمة للشركات مثل دعم شركة مصرية بشراء منتج أمريكي، لتبدو المعونة ظاهريا وكأنها دعما لكن الحقيقة أن مجملها غير مؤثر ونصيب الفرد فيها لا يتجاوز 1،3 دولار سنويا وخصوصا عندما نعرف أن جزء كبير من تلك المعونة يتم إنفاقه على الخبراء الأمريكان الذين يستعان بهم ويقدمون استشاراتهم الاقتصادية.
اتفاقيات أم تدخلات؟
المعونة لم تقتصر فقط على ضعفها في الجانب الاقتصادي وعدم تأثيرها عمليا، بل إضافة إلى ذلك فإن اللجان المشكلة داخل الكونجرس أوصت وزيرة الخارجية الأمريكية بتوجيه المعونة لخدمة الأسواق والتجارة والخصخصة ودعم مراكز بحثية لخلق بؤر لرجال الأعمال تعمل على تحضير القوانين لصالح الرأسماليين منها على سبيل المثال المركز المصري للحقوق اللاقتصادية الذي كان يترأسه جمال مبارك وكتلته المسئولة عن التحول الليبرالي والسوق الحر ودعم السياسات الاقتصادية الأمريكية وهم أيضا من عملوا على صياغة مشاريع التوريث.
كما تم من خلال تلك الشروط دعم التجارة بتوجيه التمويل إلى وزارة الزراعة ومراكز البحوث الزراعية حيث تم إنشاء وحدة المحاصيل المعدلة زراعيا بدعم من شركة عالمية محتكرة للجذور المعدلة وراثيا، وبموجب الاتفاق تم تجربة تلك الجذور خفية في مصر، أما الأرض التي تزرع بتلك الجذور فقد تأثرت كثيرا ولم تعد تصلح لزراعة آية محاصيل أخرى وعلى إثر ذلك تضرر أكثر من 8 آلاف فدان في مصر وأصبحنا أكثر الدول استيرادا للمنتجات المعدلة وراثيا ومن نفس الشركة العالمية المحتكرة. وتسائل وائل ما المقصود إذن من دعم التجارة؟ وكيف يمكن رهن الأرض والفلاح لمثل تلك السياسات الاحتكارية وتحت غطاء الدعم؟.
وأوضح وائل قائلا:" المعونة ليست شروطا اقتصادية وحسب بل تفرض بالتوازي مع شروط سياسية لم يتم التطرق إليها حتى الآن بعد الثورة مثل ضمان معاهدة السلام ومحاصرة السلطات المصرية لأنفاق غزة كذلك استمرار الوضع الأمني في سيناء والسماح بدخول الأجانب دون المصريين، هذا جزء مما تعهد به الرئيس الأمريكي بالفعل أمام الكونجرس بألا تقدم المعونة إلا في إطار تحقيق الحكومة المصرية لهذه الشروط منها شرط إمضاء مصر على قرض من صندوق النقد الدولي. فإذا لم يكن هناك شروطا فعلا كما ادعت الحكومة، إذن فعلى ماذا يتم التفاوض منذ 3 شهور بين الحكومة وصندوق النقد؟.
ما قاله الجنزوري حول مصر لن تركع للشروط الخارجية هو محض أكاذيب، فشروط المعونة أخطر بكثير حين ترتبط بالسيادة الأمنية المباشرة على الأراضي، ولم يكن التحرك تجاه المنظمات المدنية واتهامها بالتمويل برغم حصولها على تصاريح متابعة أوضاع ما بعد الثورة من الحكومة نفسها سوى معركة وهمية أو مجرد زوبعة في فنجان للتغطية على الأوضاع الأخطر!. إن خطر المنظمات المتهمة بالتمويل والتي ترصد التعذيب والقضايا الأخرى هو بالتأكيد أقل بكثير من معونة تفرض علينا سياسات اقتصادية تهدر الأرض والفلاح.
مؤامرات الحكومة على الفقراء
وردا على سؤال أحد الحاضرين حول الخسائر التي ستجنيها مصر بعد قطع المعونة الأمريكية أوضح وائل قائلا:" في تقديري أنه من الممكن الاستغناء عن المعونة دون خسائر، فالجانب الاقتصادي لا يتجاوز 250 مليون دولار سنويا لا يقدم دعم يذكر، بل إن فرض الضريبة العقارية على المنتجعات الاستثمارية والسياحية للرأسمالين قد يتجاوز غطاء المعونة بتحقيق ما يقارب 3 إلى 4 مليار جنيه سنويا، وهذا ما يطرح فكرة إعادة الهيكلة في أشكال الضرائب التي يتم تحصيل الجزء الأكبر منها من أجور المواطنين في حين الشركات التي تقود الاقتصاد لا تشكل سوى 16% من الضرائب المدفوعة سنويا، تلك الأموال تستخدم لدعم العديد من السلع الاستهلاكية والطاقة مثل اسطوانات الغاز المدعومة من أموال المواطنين ويتم استهلاكها في المشاريع السياحية مثل فندق الفورسيزون بنفس الدعم الموجه للمواطنين، كذلك بنزين 92 يتلقى دعم لصالح الشريحة العليا من الطبقة الوسطى الغير محتاجة عمليا لمثل ذلك الدعم. إعادة النظر في الدعم قد يوفر ملايين الجنيهات لتحسين أوضاع العمال في العمل والرواتب وهو ما يساعد في تطبيق الحد الأدنى والحد الأقصى للأجور، كذلك ضم الصناديق الخاصة للموازنة تستطيع تغطية الجوانب الاقتصادية للمعونة.
وانتقد وائل المبادرات الحكومية أو السلفية لمساندة الاقتصاد المنهوب قائلا:" المبادرات تجاهلت الأسباب الرئيسية في وضع الحكومة لفرص غير متكافئة للمواطنين وقوانينها المنحازة انحياز صارخ لرجال الأعمال، بل وتحول التبرع إلى قرار إجباري من بعض الجهات الحكومية كالبنوك ومصلحة الضرائب ومؤسسة الأهرام، فمن سيراقب هذه الأموال؟ وأين ستذهب؟ وكيف سيستفيد منها المواطن في ظل تلك القوانين والسياسات الاقتصادية؟
الثورة انفجرت بدافع الغضب حيال الأوضاع الاقتصادية، لكننا مازلنا حتى هذه اللحظة مربوطين برجالات جمال مبارك وبالتالي لا يمكن تطبيق تلك المطالب الاقتصادية (كالأجور مثلا) والمجمع عليها من الحكومات المتعاقبة طالما هناك الاحتكاريين الذين يتحكمون بشرايين الاقتصاد المصري، الحكومات لم تجرأ على رفع الدعم من الأغنياء لكنها تلجأ للاقتراض من الصندوق الدولي أو تقليص الإنفاق الحكومي على الخدمات الأساسية والتي تقتطع 25% فقط من الموازنة العامة. المشكلة هنا تكمن في سياسات منحازة اجتماعيا لطبقة رفيعة جدا من الرأسماليين ضد طبقات شعبية عريضة. الحل لن يكون باقتطاع الزاد القليل من الفقراء كما أيضا لن يكون من خلال المعونة الأمريكية أو بتبرعات يرعاها المجلس العسكري الذي يلزم التعتيم تجاه الجانب العسكري من المعونة، الحل سيكون بعدل الموازنة المنهوبة وتغييرها اقتصاديا لصالح الأغلبية الشعبية، ويبدو أن ذلك لن يتم من خلال مجلس الشعب الذي يناقش إلغاء اللغة الإنجليزية من عدمه، ذلك سيتم بطرح البدائل الشعبية العديدة لمحاربة سياسات الموازنة العامة بالاعتصامات والإضرابات التي ستهدد مباشرة مصالح المحتكرين وصناع القوانين.