أحوال الممرضات العاملات في مصر
يحلو للصحف البرجوازية “الوقورة” أن تطلق على الممرضات اسم “ملائكة الرحمة” أما الصحف الفاجرة الصفراء في سوق الصحافة فتسعى مباشرة وبلا مواربة لمداعبة الغرائز، ولذا فهي تكتب عناوين رئيسية حمراء اللون ضخمة الحجم عن “الفضائح الجنسية لملائكة الرحمة فوق الأسرة البيضاء”. وبالرغم من البعد الظاهر بين “ملائكة الرحمة” وبين “مومسات الأسرة البيضاء”، إلا أن المضمون – في الحقيقة – واحد؛ حتى ولو تبدلت أشكاله. فالممرضات من وجهة نظر البرجوازية “إناث” أولاً وأخيرًا، ولسن – كما هن في الحقيقة بالرغم من أنف الوعي البرجوازي – عاملات كادحات ينتمين إلى الطبقة العاملة. تركز البرجوازية على الجانب الأنثوي وتضخمه – سلبًا أو إيجابيًا – كجزء من أيديولوجيتها العامة حول المرأة التي تخدم وتبرر أهدافها في التراكم: “المرأة وظيفتها الأساسية في المجتمع هي أنها أنثى (أم، أخت، زوجة – وأحيانًا، للأسف، مومس داعرة)؛ وإذا ما حدث وساهمت يدًا بيد مع الرجل في عملية الإنتاج فلا ينبغي لهذا أن ينسيها دورها الأهم والأجل.” وفي حالة الممرضات بالذات يرتبط اضطهاد المرأة بالاستغلال الطبقي. فالممرضة ليست امرأة فقط، وإنما هي عاملة أيضًا. وهذا يعني حتمًا تشويه أكبر وتأديب مضاعف؛ خاصة وأن التمريض ينفرد بصفة أنه – تقريبًا وظيفة للنساء فقط منذ ظهوره في ظل الرأسمالية (وما قبلها) وحتى اليوم.
إلا أن الممرضات هن جزء لا يتجزأ من الطبقة العاملة المصرية، والأكثر من ذلك هو أنهن – بالتأكيد – أكثر قطاعات العمالة نسائية كفاحية ونضالية. فمن وجهة نظر الماركسية تحدد الطبقة العاملة من خلال علاقتها بوسائل الإنتاج: كل من يعمل بأجر، ويخضع لسلطة رأس المال الاقتصادية في موقع الإنتاج ولا يمتلك أيه وسائل إنتاج، يعد جزءًا من الطبقة العاملة. والممرضات يحققن كل هذه الشروط، بالرغم من أن كثيرات منهن قد لا يعتقدن أنهن عاملات كغيرهم من العمال والعاملات (سبب هذا بالطبع هو سيادة الوعي البرجوازي، وضعف وهشاشة وضعهن، وتراجع الحركة الكفاحية للعمال المصريين وهي التي يمكنها أن تصهر في غمارها كل القطاعات العمالية في بوتقة واحدة).
ولأن الممرضات لسن جزءًا من الطبقة العاملة المصرية، وإنما هن – علاوة على ذلك – قطاعها النسائي الأهم والأكثر كفاحية وتركزًا (كما سيظهر من خلال هذا التحقيق)، فمن الواجب على الثوريين أن يحاولوا تحليل وضعيتهم ونضالاتهم ودورهم في معركة الصراع الطبقي. ونقطة البدء في هذا هي التحليل الرابطة بين توسع (وأزمة) هذا القطاع العمالي وبين تطورات وانعطافات الرأسمالية المصرية.
توسيع التمريض:
ترجع بدايات الطب على مهنة التمريض الحديث إلى الربع الأول من القرن الماضي مع انطلاق مشروع محمد على للتحديث. حيث أن أنشئت أول مدرسة للتمريض في مصر عام 1828 في أبي زعبل وانتقلت إلى القصر العيني بعد ذلك بتسعة أعوام (1838). الخطوة التالية – وهي خطوة صغيرة – كانت في بدايات عهد الاستعمار البريطاني حينما طور البرنامج الدراسي للمدرسة وسميت بمدرسة الحكيمات. وفي نهايات النصف الأول من القرن العشرين – ومع التوسع الرأسمالي وانتشار الخدمات الصحية العامة الحديثة – أصبحت أربع مدارس جديدة: مدرسة مستشفى عين شمس (1948)، مدرسة مستشفى كتشذر (شبرا العام حاليًا)، مدرسة مستشفى كلية الطب بالإسكندرية (1949)، ومدرسة الإرسالية الأمريكية بأسيوط. نلاحظ هنا ارتباط مدارس الحكيمات بالمستشفيات الكبرى لتوفير الاحتياجات من الممرضات في العملية الطبية.
وفي ظل العهد الناصري حدث توسع هائل في أعداد الممرضات ليواكب توسع الخدمات الصحية وفقًا لمشروع رأسمالية الدولة الناصرية في التطوير الرأسمالي ورفع الإنتاجية. في عام 1964 تم تحويل مدارس الحكيمات – وعددها 33 آنذاك – إلى مدارس للتمريض بنظام الثلاث سنوات، مع تطوير في المناهج والنظم. وفي بدايات عهد السادات – عام 1972 – تقرر تحويل المدارس إلى مدارس ثانوية للتمريض مع تطوير المناهج ومع إضافة 66 مدرسة جديدة ومع تحويل 24 مدرسة مساعدات ممرضات ومساعدات مولدات إلى النظام القديم. والمستهدف كان تخريج 6000 ممرضة سنويًا للوفاء بالاحتياجات المتوسعة (وهو ما حدث بالفعل مع أو دفعة عام 1975).
على جانب آخر، أنشأت الدولة الناصرية معاهد عليًا للتمريض لتخريج ممرضات أكثر كفاءة وتخصصًا. أول معهد أنشأ هو المعهد العالي للتمريض بطب جامعة الإسكندرية عام 1954، وتلاه معهد القاهرة (1964)، ثم تتالي إنشاء المعاهد في العهد الناصري وما بعده حتى وصلوا إلى ثمانية معاهد في (1991) هذا إضافة إلى إنشاء المعاهد الفنية للتمريض (معاهد متوسطة)، وعددهم بالتحديد اثنان في الجمهورية كلها: واحد في القاهرة والآخر في الإسكندرية، إضافة إلى إنشاء المعاهد الصحية (وبها شعب لفنيات التمريض).
ومن الصعب دراسة تطور عدد خريجات (وخريجي) المعاهد المختلفة للتمريض بشكل دقيق بسبب عدم توافر معلومات متكاملة. ولكن بعض المؤشرات قد تعطي صورة إلى حد ما واضحة. أولاً نلفت الانتباه إلى أن الكتلة الأساسية من خريجات مدارس ومعاهد التمريض تأتي من المدارس الثانوية للتمريض (حوالي 90 %) وليس من معاهد العليا أو غيره من المؤسسات التعليمية التي تدرس مهنة التمريض. ولذلك فالتطور في أعداد خريجات هذه المدارس هو المؤشر الرئيسي على تطور أعداد الوافدين إلى سوق عمل المهنة.
كما ذكرنا فإن أول الدفعات التي تخرجت بعد تحويل مدارس التمريض إلى مدارس التمريض إلى مدارس ثانوية كان عددها حوالي 6000. ولكن في السنوات التالية أخذ عدد المقبولات في هذه المدارس يقل – بالرغم من الزيادة في عدد المدارس – حتى وصل الأمر على أن تقلص عدد الخريجات في العام الدراسي 84 / 1985 إلى 3500 خريجة من 155 مدرسة (معدل التناقص في الخريجات 41.6 %) ولا توجد لدينا إحصاءات توضح التطور بعد 1985، ولكن يبدو أن عدد الخريجات قد ارتفع مرة أخرى مع ثبات عدد المدارس أو زيادتها زيادة طفيفة (تشير الإحصاءات أنه في 31 ديسمبر 1996 كان عدد مدارس ومعاهد الممرضات 172، وهو ما يتضمن المدارس الثانوية وغيرها من المعاهد. أي أن أي زيادة في المدارس الثانوية – لو كانت حدثت – فستكون بالتأكيد طفيفة. تشير المعلومات أيضًا إلى أنه بدءًا من عام 1996 أغلقت معاهد التمريض الفنية للذكور بعد أن خرجت عشرة دفعات فقط).
ومن ناحية أخرى، وفي مقابل التناقص الذي حدث في أعداد خريجات المدارس الثانوية (على الأقل حتى منتصف الثمانينات). تزايدت أعداد خريجات المعاهد العليا للتمريض. ولكن هذه الزيادة لا تعوض بأي حال، ولا حتى بدرجة محدودة، أي نقصان في المتخرجات من المدارس الثانوية، وذلك ببساطة لأن إجمالي عدد المتخرجات من المعاهد العليا من أول دفعة في 1959 وحتى دفعة 1991 (23 دفعة) هو 5132 متخرجة وهو ما يوازي أقل بكثير من عدد خريجات دفعتين فقط من المدارس الثانوية على أي حال فقد تزايدت أعداد خريجات المعاهد العليا من 169 كمتوسط للأعوام من 1979 وحتى 1985، إلى 386 كمتوسط للأعوام من 1986 وحتى 1991 (معدل الزيادة في الخريجات 128.4). وقد أشارت دراسة حول خريجات المعاهد العليا للتمريض تمت في أوائل التسعينات على أن تقدير وتخطيط الدولة وهو أن يزيد إجمالي خريجات تلك المعاهد من 5132 في 1991 إلى 8724 في 1996، وهو ما يعني – إذا ما كان قد حدث – تخريج 3592 ممرضة على مدى خمس دفعات من 91 / 1992 وحتى 95 / 1996 (أي ما يوازي حوالي 718 خريجة في العام في المتوسط، وهذا يساوي ما يقترب من ضعف عدد خريجات السنوات من 1986 وحتى 1991).
إذن، فالصورة العامة التي تعكسها الإحصاءات غير المكتملة المتوفرة لدينا تشير للآتي: حدث توسع كبير في خريجات مدارس ومعاهد التمريض على مدى السنوات منذ أواخر الخمسينات وحتى منتصف السبعينات تقريبًا (خاصة في السبعينات). ولكن بعد ذلك حدث تراجع في الأعداد سببه التقلص الشديد في خريجات المدارس الثانوية حتى منتصف الثمانينات والأغلب أن الأعداد تزايدت إلى حد كبير بعد ذلك. على جانب آخر تتزايد بشكل متواصل أعداد الأقلية التي تتخرج من المعاهد العليا للتمريض، بينما تغلق المعاهد الفنية المخصصة للذكور وهو ما يعني أن الرأسمالية الخاصة – ومن قبلها الدولة – يفضلان عمالة النساء في قطاع التمريض (ليس هذا عجيبًا، فوضعية النساء المضطهدات تناسب شراسة الرأسمالية المأزومة).
سمات العاملات الممرضات:
توشح لنا إحصاءات إعداد الخريجات تطورات أعداد من تقذفهم مقاعد الدرس سنويًا على سوق العمل، وبهذا المعنى فهي تشرح لنا تطورات المعدلات إنتاجية “معمل تفريخ” الممرضات – المدارس والمعاهد. والأرقام التي تظهر في هذه الإحصاءات لها أهميتها الكبرى، خاصة في قطاع عمالي كالذي نحن بصدده لا يقبل تقريبًا إلا العمالة الماهرة المدربة في المدارس والمعاهد. فهي تؤشر على تطورات وضعية سوق العمل في قطاع التمريض. ولكنها بالرغم من ذلك، لا تعكس بدقة وضعية هذه السوق وتقلباتها. فليس كل من يتخرج يعمل، وهناك ممرضات من الخريجات العاملات يتوقفن عن العمل لسبب أو لآخر. كل هذه الأمور لا تظهرها أعداد الخريجات بشكل دقيق، وإنما تظهر حينما ندرس تقلبات أعداد الخريجات في صلتها بسوق العمل وبتوزيع العمالة. وهذا ما سنقوم له – بشكل مختصر – الآن.
في منتصف الثمانينات (عام 1984) كان يوجد بمصر حوالي 55 ألف عاملة بهيئات التمريض، أي بواقع 12ممرضة لكل 10 آلاف من السكان (تقول أرقام أحد التقارير عن إنجازات عصر مبارك – “إنجاز تحقق ومستقبل أفضل” – أن هناك 23.5 ممرضة لكل 10 آلاف من السكان، وهذا كذب صريح ووقح. والدليل هو أن الرقم الذي ذكرناه نحن 15.7 ممرضة – محسوب من إحصاءات الدولة؛ بالتحديد من نشرة إحصاء الخدمات الصحية الصادرة في 1998). وبغض النظر عن العادة المتأصلة في الأكاذيب والتدليس، فإن هناك زيادة في عدد الممرضات وفي نسبتهن للسكان فيما بين 1984 و1996. وبالطبع فإن هذه الأرقام والنسب – بعد الزيادة حتى 1996 تبدو مضحكة إذا ما قورنت بالحالة في دول أخرى: في كندا توجد 77.3 ممرضة لكل 10 آلاف مواطن، وفي الدنمرك 61 ممرضة. وحتى في عدد كبير من الدول النامية والعربية الوضع أفضل: في البحرين 30.2 ممرضة، وفي الكويت 54.6 ممرضة وفي قبرص 40.1 ممرضة، وذلك في أوائل الثمانينات.
ولكن المهم بالنسبة لنا في هذا التحقيق هو دراسة تكوين وتوزيع هذا القطاع العمالي الهام وذلك حتى نقدر المعضلات التي تواجهه والقوة التي يمتلكها. حوالي 90% من إجمالي الممرضات العاملات في مصر اليوم (84 ألف تقريبًا) هن من خريجات المدارس الثانوية للتمريض، والباقي يتوزع بين خريجات المعاهد العليا (8153 ممرضة بحسب أحد التقديرات)، وخريجات وخريجي المعاهد المتوسطة. وغيرهم. أي أن الكتلة الأساسية للممرضات تأتي من أوساط اللواتي اضطررن إلى عدم إكمال دراساتهم الجامعية – غالبًا بسبب الفقر – وهن غالبًا يكن في بيئيات عمالية أو برجوازية صغيرة. وتعمل خريجات المدارس الثانية في الأغلب الأعم في وظائف غير إشرافية أو إدارية، وبالتالي فهن ممرضات تنتمين بشكل كامل إلى الطبقة العاملة. أما خريجات المعاهد العليا – ونسبتهن لا تزيد على 8.5 % من الإجمالي – فهن يعملن في وظائف أعلى وأحيانًا ما يشكلن جزءًا من الإدارة ويلعبن دور ذراعها القذرة لامتصاص عرق الممرضات العاملات.
وتعمل الغالبية العظمى من الممرضات في المؤسسات العلاجية والمستشفيات التابعة للدولة في القطاع الحكومي: 54.217 تعملن في وزارة الصحة (58%)، 17206 (18.5%) تعملن في الهيئات الحكومية، و 14716 (15.7) تعملن في المستشفيات الجامعية – أي أن إجمالي العاملات في القطاع الحكومي هو 86139 ممرضة (92.2 %). وخلاف العاملات في القطاع الحكومي هناك من يعملن في القطاع العام – 1056 ممرضة أو حوالي 1.2% – ومن يعملن في القطاع الخاص – 6174 ممرضة أو حوالي 6.6 %. ولكن علينا الإشارة إلى أن هذا العدد يمثل فقط من يعملن في القطاع الخاص بعقود مسجلة في مكاتب العمل، ولا يعملن في أي قطاع آخر، وهي نسبة ضئيلة ممن يعملن في القطاع الخاص الذي يشغل الكثيرات بدون عقود، والكثيرات ممن يعملن في الحكومة. ويمكننا أن نضيف أيضًا أنه وفقًا للإجماليات تعمل الأغلبية الساحقة من الممرضات في القطاع الحكومي، ولكن بتفكيك الأرقام نجد أن أكثر من نصف خريجات المعاهد العليا – 54.4 % في 1991 – تعملن في مستشفيات القطاع الخاص والقوات المسلحة، وهو ما يعني تركيزًا أكبر للممرضات الأفقر من خريجات المدارس الثانوية في القطاع الحكومي (على وجه العموم، تعمل ممرضات المعاهد العليا في المؤسسات العلاجية الكبرى في كبريات المدن، ولذا نجد أنهن يعملن أساسًا في محافظات كالقاهرة والإسكندرية والبحيرة).
وأخيرًا وليس أخرًا فإن القطاع العمالي الذي يعمل بالتمريض هو – كما ذكرنا من قبل – قطاع نسائي، إذ تمثل النساء 95% من إجمالي عمالة القطاع. وليس هناك أي مؤشرات على تبدل هذا الوضع. على العكس فإن إغلاق المعاهد الفنية للذكور في 1996 يؤشر على تكريسه.
الممرضات والاستغلال الرأسمالي:
نشأة وتوسع قطاع الممرضات العاملات في مصر ترتبط بشكل جوهري بنشأة وتوسع عملة التراكم الرأسمالي. فقد كان توسيع نطاق الخدمات الصحية واحد من اهتمامات الدولة المصرية – خاصة في عهدها الناصري – ليس بهدف فعل الخير وإنما بهدف رفع المستوى الصحي للطبقة العاملة وبالتالي رفع إنتاجها من أجل خدمة التراكم. وقد عكس توسع الإنفاق العام للدولة على الخدمات الصحية نفسه في شكل تزايد أعداد المؤسسات العلاجية والمستشفيات والوحدات الصحية، هو ما أدى بالضرورة إلى تزايد الطلب على الممرضات وتوسع أعدادهن. وهكذا خلق قطاع عمالي واسع يعمل أساسًا في مستشفيات الدولة. ولكن تقلص الإنفاق الاجتماعي في الثمانينات عكس الآية و – على الأقل – أدى إلى تباطؤ شديد في نمو أعداد الممرضات في النصف الأول من هذا العقد. وكما تؤشر الأرقام فإن السنوات منذ منتصف الثمانينات حتى منتصف التسعينات شهدت تزايدًا كبيرًا في عدد الممرضات المطلق وأيضًا في نسبتهن إلى السكان، وذلك على الرغم من أن الإنفاق الحقيقي على الصحة تناقص في معظم تلك الأعوام، وحتى عندما ارتفع مجددًا بدءًا من 92 /1993 لم تضاه معدلات الزيادة في الإنفاق معدلات زيادة أعداد الممرضات. فكيف فعلت الدولة ذلك؟ كيف وفقت بين أمرين متعارضين وهما: زيادة أعداد الممرضات وتخفيض متوسطات الإنفاق الاجتماعي على الصحة؟ الإجابة تبرز واضحة ولا جدال فيها حيث أنه لا يوجد سبيل سوى تكثيف الاستغلال. وهذا بالضبط ما حدث، وما يزال يحدث. فالدولة توظف أعدادًا أكبر من الممرضات، ولكن تدفع لهن أجورًا أقل وتفرض عليهن شروط عمل أقسى. والدافع لديها هو تحقيق الهدف المستحيل في رفع المستوى الصحي لقوة العمل المصرية كشرط ضروري لرفع إنتاجية الطبقة العاملة، ولكن بدون أن يؤدي ذلك إلى زيادة الإنفاق زيادة كبيرة.
وهكذا واجهت الممرضات العاملات على مدى السنوات العشر أو الخمسة عشر الماضية هجومًا ضاريًا على أجورهن وشروط عملهن. وقد تم هذا الهجوم سواء في أوساط الكتلة الأساسية من الممرضات العاملات في مستشفيات الدولة، أو في أوساط اللواتي تعملن في مؤسسات القطاع الخاص العلاجية. ولكن بالطبع المعركة الرئيسية دارت في مستشفيات الدولة. وهي معركة استخدم فيها سلاح اضطهاد المرأة استخدامًا قذرًا للضغط على العاملات اعتمادًا على هشاشة وضعهن الاجتماعي.
يبدأ استغلال ممرضات المستقبل” أثناء فترة الدراسة، حيث يتوجب على الطالبات أداء التدريب بالمستشفيات في مقابل الحصول على راتب شهري قيمته 11 جنيهًا!، بالإضافة إلى توفير الملابس المدرسية ووجبة هزيلة. وفي بعض المدارس تحمل الطالبات ثمن الملابس وتلغي الوجبة في مقابل رفع الراتب إلى 21 جنيهًا شهريًا.
تتبع الدولة سياسة تقييد العمل بالنسبة للخريجات، حيث تنص أوراق الالتحاق بالمدرسة على وجوب قضاء الخريجات عامين من الخدمة الإجبارية (التكليف) قابلين للتجديد بعد التخرج. وهو ما يوفر عمالة رخيصة بأبخس الأجور لمواجهة النقص في الممرضات. خلال فترة التكليف لا تزيد الأجور في أفضل الأحوال عن 110 جنيهًا شهريًا. وتتقبل الممرضات التدريب بدون مقابل تقريبًا قبل التخرج وانخفاض الأجور بعده بسبب تفاقم مشكلة البطالة، وهو ما يدفع عدد من الأسر الفقيرة لإلحاق بناتهن بمدارس التمريض سعيًا وراء ضمان العمل الذي توفره تلك المدارس.
وفي المستشفيات التابعة للدولة (المستشفيات الحكومية ومستشفيات القطاع العام يعمل بها 93.4 من إجمالي الممرضات في مصر تحصل الممرضات بعد فترة التكليف على أجور لا تزيد عن 180 شهريًا، وهو مبلغ “مايوكلش عيش خاف” على حد تعبير إحدى الممرضات. وحتى عندما قررت الحكومة مؤخرًا رفع أجور الممرضات بنسب متفاوتة وفقًا للقرار 287 / يوليو 1997 (زيادة 40 % من الأساسي لممرضات الأقسام، و60 % لذوات العمل الخاص من العاملات بالاستقبال وأقسام الحروق والعناية المركزة والعمليات، و75 % للوكيلات، و100 % للرئيسات – لاحظ التمييز بين الممرضات العاديات وبين الرئيسات) – حتى عندما قررت الحكومة ذلك لم ينفذ القرار وظل عمليًا حبر على ورق.
أما في مستشفيات القطاع الخاص، فتحصل الممرضات على أجور على (ما بين 200 و250 جنيهًا شهريًا). ولكن ذلك في مقابل ساعات عمل أطول، وفي مقابل خبرة سابقة. علاوة على ذلك، تعمل ممرضات المستشفيات الخاصة تحت ظروف عمل أشبه بالعمالة المؤقتة. فالغالبية العظمى تعمل بعقود محددة المدة أو بدون عقود على الإطلاق، وهو ما يسمح للإدارة باعتصارهن إلى أقصى حد.
وفي مجال الأجور المتغيرة – الحوافز والبدلات – نجد أن هناك اختلافًا وتباينًا فيما بين مستشفيات القطاع العام والحكومي ومستشفيات القطاع الخاص، بل وفيما بين المستشفيات داخل كل قطاع. فمثلاً داخل القطاع الحكومي تتقاضى ممرضات وزارة الصحة من 7 إلى 20 جنيه كحوافز مرة كل شهرين، ما عدا شهر يونيو (تحت دعوى تقفيل السنة المالية). أيضًا تأخذ الممرضات 1.5 جنيه عن كل نوبتجية صباحية (8 ص: 8 م)، أما إذا كانت النويتجية نوبتجية سهر (8 م: 8 ص) فالمقابل يكون 2 جنيه أما ممرضات التأمين الصحي فلا تحصلن على أي مقابل للنوبتيجيات التي قد تصل إلى 12 نوبتجية شهريًا. بدلاً عن ذلك تحصل الممرضات على وجبة أو اثنتان في منتهى الرداءة، وإذا لم تكن هناك وجبة تحصل الممرضات على بدل وجبة (30 جنيه). المفارقة في الأمر أنه إذا حدث وتسلمت الممرضة في نوبتجيتها وجبات المرضى ناقصة نتيجة لخطأ ما تحسب عليها الوجبة بسعر مضاعف (4 جنيهات).
واستكمالاً لبند الأجور المتغيرة فالممرضات تتقاضين 15 جنيهًا شهريًا بدل عدوي (الطريف أن الإداريين يحصلون على نفس المبلغ من دون أن يتعرضوا للمريض من قريب أو من بعيد). أيضًا تحصل الممرضات على مبلغ اسمه العلاج الاقتصادي يتم تأخيره ليصل كل ستة أشهر ويوزع كالتالي: 65% للأطباء، 20% للعمال والموظفين، و15% للممرضات. وبالنسبة لممرضات التأمين الصحي يوجد مبلغ يصرف كل 3 شهور (غالبًا يتم تأخيره) ومتوسطه بين 85 و92 جنيهًا ويطلق عليه تيسير علاج.
وتلعب سياسات الجزاءات والخصومات والتعسف الإداري دورًا تأديبيًا مركزيًا للممرضات العاملات لسحق أي مقاومة وأيضًا لخلق نظام شبيه تمامًا بنظام “استبداد المصنع” في أبشع صوره، وهو النظام الملائم لمهمة تكثيف الاستغلال الجارية على قدم وساق.
تبدأ تلك السياسات بعد التخرج مباشرة، إذ تعاقب الممرضات اللواتي تتهربن من تنفيذ التكليف الإجباري، وتستمر ما بعد ذلك إلى كل تفاصيل العمل اليومي. مثلاً لا يحق لأي ممرضة ترك المستشفي بعد انتهاء نوبتجيتها – التي لا تتقاضى عنها مقابل في العديد من المستشفيات – إلا إذا حضرت المستلمة، فإذا لم تحضر الأخيرة يكون على الممرضة استكمال النوبتجية التالية أي مقابل. مثل آخر: يخصم نصف يوم في مقابل التأخير دقيقة واحدة، أما إذا تجاوز التأخير 15 دقيقة يخصم اليوم كاملاً. مثل ثالث: تخضع الأجور المتغيرة (كالعلاج الاقتصادي، أو تيسير العلاج) لأيام الإجازات التي تحصل عليها الممرضة، حتى لو كانت الأجازة اعتيادية أو مرضية؛ إذ يخصم من الأجور المتغيرة بحسب أيام الأجازات…. وهلم جرا.
ومن جانب آخر تخضع الممرضات – بوصفهن بالذات جزءًا ضعيفًا من الطبقة العاملة المصرية – لعملية الإفقار التي يتعرض مجموع العمال فيما يتعلق بالأجر الاجتماعي (خدمات صحية… وغيرها). إذ لا توجد بالمستشفيات حضانات تابعة لها للاعتناء بأطفال الممرضات أثناء ساعات عملهن الطويلة، ولا توجد بها حجرات خاصة للممرضات لتغيير ملابسهن، ولا حمامات.. الخ فوق كل ذلك، يتدهور مستوى الخدمات الصحية الذي يقدم الممرضات من مرحلة إلى أخرى. فليس من حق الممرضة في المستشفيات العامة غير كشفين فقط في الشهر وأحيانًا ينزل العدد إلى كشف واحد. وإذا احتاجت لأكثر من ذلك، فليس من حقها أن تصرف علاج. أما ممرضات المستشفيات الخاصة فليس لهن في الأغلب الأعم – تأمين صحي. ولا تلعب نقابة مهنة التمريض في هذا السياق دورًا يذكر. فهذه النقابة التي تشترك فيها الممرضات إجباريًا تعتبر أن الأمراض المزمنة 3 أمراض فقط: السرطان، الايدز، والفشل الكلوي وفي هذه الحالات تعطي الممرضة 2700 كإعانة اجتماعية على 3 سنوات (300 جنيه كل 4 شهور)، وذلك للمساعدة في العلاج.
وفي مقابل الظروف التي تعانيها الأغلبية العظمى من الممرضات العاملات، هناك شريحة أقلية محدودة تعيش في ظروف أفضل بكثير، هي شريحة الحكيمات والرئيسات وهو غالبًا إما ممرضات قدامي أو خريجات المعاهد العليا للتمريض. تضع الدولة وإدارات المستشفيات الرأسمالية هاتي الممرضات في مناصب إدارية وإشرافية للسيطرة على جموع الممرضات ولعب دور “وكلاء رأس المال”. تلعب التفرقة في أجور هذه الأقلية من الممرضات – اللواتي يعشن في ظروف أشبه بظروف الطبقة الوسطى – دورًا محوريًا في إبعادهن عن الجموع وربطهن بالإدارات، بالرغم من أنهن – في نهاية المطاف – يرتبطن، على الأقل في جانب من وضعهن، بجموع العاملات.
ولفهم وضعية هاتي الممرضات نعطي بعض الأمثلة. بينما يكون من الممكن إجبار الممرضات العاملات على الاستمرار في العمل لمدة ساعتين إضافيتين بحجة حاجة العمل ذلك دون الحصول على أي مقابل، تحص الرئيسات والحكيمات على مقابل نقدي 200 جنيه شهريًا مقابل الساعات الإضافية، بعض النظر عن كونهن قد قضين ساعات إضافية بالفعل أم لا. المثل الثاني هو مبلغ تيسير العلاج. ففي حين تحصل الممرضات العاملات على مبلغ يتراوح بين 85 و92 جنيهًا، نجد أن الرئيسات تتقاضين مبلغ 3 آلاف جنيه!! أما المثل الثالث، وقد ذكرناه من قبل، فهو قرار الزيادة في الأجور غير المنفذ الذي أعطى للممرضات زيادة مقدارها 40 %، وللرئيسات زيادة مقدارها 100 % هذا ناهيك عما تذكره – وتؤكده – الممرضات من أن الرئيسات تؤمرن أحيانًا بتحقيق رقم معين في الخصومات للممرضات اللواتي يشرفن عليهن.
نضالات الممرضات:
في العام الماضي – 1998- كانت الممرضات وأحوالهن في بؤرة الضوء. والسبب هو قضية الممرضة “عايدة” التي اتهمت بإعطاء المرضى أدوية بشكل عمدي أدى إلى الوفاة. وبغض النظر عن تفاصيل الأحداث، إلا أن المعركة على صفحات الجرائد وفي المحاكم – وفي المستشفيات وفي شوارع الإسكندرية – كشف الكثير عن أحوال الممرضات وفضحت طبيعة الأيديولوجيا السائدة حول النساء العاملات. عايدة ممرضة، أي عاملة في قطاع حيوي – بل هن الأكثر حيوية للمواطنين – من قطاعات الخدمات. وكسائر عمال الخدمات الذين يتعاملون مع الجمهور مباشرة، تخضع الممرضات لضغوط هائلة وتحملن عبء تدهور مستوى الخدمة المقدمة. والدولة والطبقة السائدة يدعمان هذا التوجه بقوة، وذلك لأنه من ناحية أولى يضع المسئولية على أكتاف العمال ويرفعها من على أكتاف الدولة وسياساتها المتحيزة، ومن ناحية ثانية يخلق ويقوي أيديولوجيا تشق الصف وتغذي العداء لعمال الخدمات من قبل الرأي العام. وهذا ما حدث لعايدة، فهي المسئولة عما حدث وإذا ما دفعت الثمن فسوف يقام ميزان العدل وتنصلح أحال الخدمات الصحية (لنتذكر أن شيء مشابه تقريبًا حدث في حادث قطار كفر الدوار بالنسبة للسائقين؛ بل وبالنسبة للركاب)!.
هذا يجعلنا نفهم بشكل أفضل مدى الضغوط التي تتعرض لها الممرضات، ومدى صعوبة معاركهن النضالية. ولكن حادث الممرضة عايدة يساعدنا هنا أيضًا في فهم الصورة بشكل مكتمل. فلو لا تذمر الممرضات – ثم إضرابهن في أكتوبر 1998 بعد الحكم عليها بالإعدام – ولولا المظاهرات الجماهيرية، لما تغير الوضع وألغي الحكم. والأهم من ذلك، بالنسبة لجموع الممرضات، لما خلقت موجة تعاطف واسعة مع عايدة وكل الممرضات بالرغم من الظروف الصعبة التي يمر بها الصراع الطبقي في مصر. وهي الموجة التي قد تسهم في رفع مستوى الثقة بين الممرضات وتعطي معاركهن دفعة للأمام.
الممرضات العاملات المصريات هن أنشط قطاع في نساء الطبقة العاملة من حيث النضالية والكفاحية. فبالرغم من القمع الأمني، وبالرغم من تجريم الإضرابات عمومًا، وبالرغم من ظروف الصراع الطبقي، وبالرغم من هشاشة وضع العاملات النساء… بالرغم من ذلك كله يضاف إليه الآلة الشرسة للدعاية البرجوازية ضد إضرابات الممرضات (“أنهن يقتلن مرضانا”!)، إلا أن الممرضات المصريات قمن بأربعة احتجاجات في عام 1998 (5.5 % من إجمالي الإضرابات المسجلة)، وهي نسبة لا تضاهيها نسبة إضرابات أي قطاع عمالي نسائي آخر.
كانت الأسباب وراء إضرابين من الإضرابات الأربعة هي محاولات الإدارة للهجوم على الأجر المتغير. ففي المستشفي العام بكفر الشيخ. وفي أغسطس 1998 – أضربت حوالي 150 ممرضة احتجاجًا على امتناع الإدارة عن صرف الحوافز وبدلات السفر ومكافآت التميز لأكثر من سبعة شهور. وفي مستشفى أم المصريين – وفي نفس الشهر – أضربت الممرضات لمدة ستة ساعات عن العمل احتجاجات على اختيار 18 ممرضة فقط (من ضمن 190) لإعطائهن المكافآت والحوافز. وفي كلا الإضرابين نجحت الممرضات – بالرغم من قلة الأعداد – في إجبار الإدارة على تحقيق المطالب.
أما الإضراب الثالث، والذي حدث بمستشفى المبرة التابعة لهيئة التأمين الصحفي بميت غمر، فقد وقع احتجاجًا على النقل حيث أضربت خمسة ممرضات عن الطعام بعد نقلهن إلى مستشفى سندوب العام (على بعد حوالي ساعة من ميت غمر). وفي هذا الإضراب أيضًا رضخت الإدارة جزئيًا إذ أتخذ قرار بتوقير وسيلة انتقال لنقل الممرضات إلى عملهن الجديد.
أما أهم إضرابات 1998 – والذي أشرنا إليه قبل قليل – فهو إضراب ممرضات قسم جراحة المخ والأعصاب بالمستشفى الجماعي بالإسكندرية لمدة أسبوع في أكتوبر 1998 احتجاجًا على الحكم بالإعدام على الممرضة عايدة. في هذا الإضراب رفضت الممرضات حقن المرضى، واضطر الأطباء لحقن المرضى بأنفسهم. وقد حطمت الممرضات لافتات أطباء القسم تعبيرًا عن غضبهن وأحيل ثمانية منهن للتحقيق الإداري.
هذه أمثلة من إضرابات عام واحد فقط. ولكن بوجه عام ليس هناك من شك في أن الممرضات لهن تراث عريض نسبيًا في الاحتجاج والنضال، بدأ من إضرابات الأربعينات وأهمهم إضراب ممرضي وممرضات مستشفى القصر العيني في عام 1948 (1500 ممرض وممرضة)، وانتهاء بإضرابات التسعينات. هذا التراث لا يمكن بالطبع فهمه إلا في سياق التاريخ الطويل لهذا القطاع العمالي النسائي، الذي يعاني الاضطهاد والاستغلال معًا. وعلى الرغم من أننا اليوم لا يمكننا الإدعاء بأن حركة الكفاحية للممرضات هجومية وصاعدة، إلا أنها نقطة ساخنة في أوساط الطبقة العاملة النسائية. ومن هنا بالضبط تنشأ الحاجة لكي يخلق الثوريون جذورًا في أوساط الممرضات، خاصة وأن اليسار الستاليني والراديكالي – متأثرين بالمفهوم البرجوازي عن وضعية الممرضات والعاملات النساء عامة – أهملا هذا القطاع. فلا نجد في أوساط الممرضات عناصر متأثرة باليسار بمفهومه الواسع، ولا حتى بالحركة السياسية عامة، بالرغم من نشاطهن العام.
وربما كان تفسير هذا الوضع المتناقض – قطاع كفاحي بدون جذور للقوى السياسية – ينبع مما سبق وأن ذكرنا، عن معضلة الحركة العمالية في الفروع الخدمية. فالدولة حتى عندما قررت أن “تمنح” العمال حق الإضراب – تحت تقييدات هائلة – لم تمنح هذا الحق لعمال الخدمات. والأيديولوجيا السائدة ذاتها “تجرم” إضرابات عمال الخدمات التي تغذي الطبقة الحاكمة فكرة أنها إضرابات هدامة (أكثر من غيرها).
وبالذات بسبب هذه الخصوصية وهذه التناقضات، فإن الثوريين – في تعاملهم مع هذا القطاع العمالي – سيبدءون من الصفر وفي ظل وضعية أصعب من أي قطاع عمالي صناعي آخر. وهو الأمر الذي يتطلب المزج بين الصبر الثوري والمرونة والمبادرة في الاشتباك مع النضالات، وذلك حتى تجد الاشتراكية الثورية – مهما كانت المصاعب – لنفسها موطئ قدم في أوساط قطاع عمالي نسائي مكافح.